هناك اعتقاد يشترك فيه الكثيرون في الشرق والغرب على السواء، وهو أنّ الكتابة والأدب والفنون تخصصات أرستقراطية لا يجب على أبناء الفقراء دراستها أو ممارستها.
وإنما يجب عليهم البحث عن تخصصات علمية أو مهنية تساعدهم على الحصول على وظيفة أو مهنة تغيّر حيواتهم إلى الأفضل. وعلى هذا الأساس كانت تخصصات مثل التاريخ وعلم النفس والاجتماع وغيرها من العلوم الإنسانية مرغوبة وسط أبناء الأغنياء والملوك والسياسيين في أوروبا. بينما كان أبناء الفقراء يبحثون عن الكليات العلمية والتطبيقية بحثاً عن واقع أفضل.
وقد ساعد انتشار الأفكار الاشتراكية والمد الشيوعي لاحقاً في أن يسود هذا المفهوم في المنطقة العربية قبل أن يصبح التعليم تجارة وتنتشر ثقافة التعليم الخاص.
هذا الاعتقاد السائد وتغير الظروف المعيشية لم يمنع بعض المبدعين الخارجين من رحم المعاناة من اختيار طريق الكتابة والأدب رغم هموم كسب العيش وصعوبات الحياة، ومن هؤلاء الروائي السوداني عبدالعزيز بركة ساكن، الذي يقول إن كتاباته تعبّر عن الفقراء والمهمشين وساكني الضواحي الفقيرة والنازحين وغيرهم ممّن يقلّ أن يتطرق إليهم الكتاب الروائيون بالطريقة التي يفعل بركة ساكن.
فرواياته تحكي عن قصص النازحين في أطراف دارفور في غرب السودان، كما تحكي عن قبائل جنوب السودان وعاداتهم وتقاليدهم في الزواج والحياة. وتحكي روايات أخرى عن فقراء وسط وشرق السودان. فكاتبنا وُلد في مدينة كسلا بشرق السودان، ونشأ في مدينة خشم القربة الشرقية أيضاً. والتي كانت مثلها مثل غالبية المدن التي نشأت وتطورت في القرن العشرين تجمعاً لمجتمعات وقبائل مختلفة من كافة أنحاء السودان. الأمر الذي ولّد هذه الروح "القومية" في كتابات بركة ساكن.
درس بركة ساكن إدارة الأعمال في جامعة أسيوط بمصر، لكنه- وبحسب شهادته- لم يكن يعير تخصصه الكثير من الوقت. وإنما تفرغ لقراءة الأدب في مكتبة الجامعة والمكتبات العامة التي كان يمكنه دخولها مجاناً. فهذا الطالب الذي نشأ في أسرة فقيرة وربّته والدته التي يكنّ لها محبة واحتراماً عظيماً، كان لطفولته والبيئة الفقيرة التي نشأ فيها أثر كبير على كتاباته.
وعندما سأله أحد الحاضرين لجلسة اُستضيف فيها أثناء جولة خليجية للحديث عن تجربته الروائية وروايته الجديدة حينها "سمهاني" عن سبب تركيزه على الفقراء والنازحين وساكني أطراف المدن والبلاد في رواياته، كان رد بركة ساكن المدهش هو أنه "ليس من السهل أن يخرج كل عدة سنوات من قاع الحواري الفقيرة كاتب يحكي عن معاناتهم. ولا أريد أن تضيع هذه الفرصة عليهم".
كانت رواية "تحت النهر" هي التجربة الأولى لبركة ساكن وهو ما يزال تلميذاً في المدرسة. وعن ذلك يقول "كتبتها في كراسات الإنشاء والواجبات المدرسية، حيث لم أكن أمتلك نقوداً لشراء الورق. وقد ضبطني مرة أستاذ اللغة العربية سعيد أبوبكر، وبدلاً من أن يعاقبني، أثنى علي وجعلني أقرأ روايتي للطلاب في كل فصولهم، فصلاً فصلاً. وكانت تلك أول قراءة لنص أكتبه، مما حفزني على مواصلة الكتابة والقراءة باللغتين العربية والإنجليزية، من أجل أن أصبح كاتباً. قال لي ذلك الأستاذ مرّة: "لا يوجد كاتب لا يعرف أكثر من لغة". وحتى الآن لا أعرف من أين حصل على تلك الفكرة، ولكن اللغة الإنجليزية أفادتني في الاطلاع على آداب الآخرين بلغتهم".
عمل بركة ساكن في تسعينيات القرن الماضي بتدريس اللغة الإنجليزية في المدارس السودانية، ثم عمل بعدها لفترة قصيرة مستشاراً لحقوق الطفل بمنظمة اليونسيف في إقليم دارفور المضطرب. وعانى من المضايقة والاعتقال بسبب مواقفه المعارضة لنظام الإنقاذ البائد وأيضاً بسبب الشهرة التي حظيت بها روايات مثل "مخيلة الخندريس" و"الجنقو مسامير الأرض"، ليقرر مغادرة السودان ويحط رحاله في أوروبا، حيث اختار العيش في النمسا منذ العام 2012 متفرغاً للكتابة.
ومثلما تعرّض ساكن للمضايقة الأمنية، تعرّضت رواياته لمضايقة الرقيب. فروايته الأشهر على الإطلاق، "الجنقو مسامير الأرض"، الحاصلة على جائزة الطيب صالح للرواية عام ٢٠٠٩م، صدر قرار من وزارة الثقافة السودانية بحظرها ومنع تداولها، وقبلها صودرت مجموعته الروائية "امرأة من كمبو كديس" في عام ٢٠٠٥م. ومنعت السلطات عرض كتبه في معرض الخرطوم الدولي للكتاب في العام 2012. وفي مقابل المضايقة الأمنية ومنع مؤلفاته في بلده السودان، ذاع صيت بركة ساكن في الخارج، ليفوز بجائزة "بي بي سي" للقصة القصيرة على مستوى العالم العربي ١٩٩٣م عن قصته: "امرأة من كمبو كديس". كما فاز بجائزة "قصص على الهواء" التي تنظمها "بي بي سي" عن قصّتيه: "موسيقى العظام" و"فيزياء اللون"، وفي العام 2013 أدرج المعهد العالي الفني بمدينة سالفدن سالسبورغ بالنمسا في مناهجه الدراسية روايته "مخيلة الخندريس" التي تحكي عن أطفال الشوارع ومعاناتهم الحسية والمادية.
رواية "الجنقو مسامير الأرض"، التي فازت العام الماضي أيضاً بجائزة الأدب العربي لعام 2020 التي يمنحها معهد العالم العربي بباريس بالتعاون مع مؤسسة جان لوك لاجاردير، تحكي عن العمال الموسميين الذين يعملون في حقول قصب السكر والسمسم والمصانع القديمة ويحلمون بالعودة إلى أهاليهم ببعض المال، لكن أحلامهم وأموالهم تضيع في الخمر والحشيش. بينما تحكي رواية "مسيح دارفور" عن الحرب في إقليم دارفور خلال العشرية الأولى من القرن الحالي. والتي يوضّح فيها كيف تستدعي الحروب أسوأ ما في الإنسان من كراهية وعنصرية حتى بين أبناء نفس البَشَرَة السمراء.
عن فوزه بجائزة الأدب العربي لعام 2020 الباريسية قال بركة ساكن: "أعتقد أن هذه الجائزة جاءت في الوقت المناسب تماماً لأن روايتي تتحدث عن التسامح الديني والحب والإنسانية، حيث نعيش الآن في عالم تمزقه صراعات الهوية، ويمر بما يشبه صدام الحضارات". وهو بهذا ربما يشير إلى تيار الشعبوية المنتشر في الغرب هذه الأيام. وهو تيار أول من يكتوي بنيرانه المهاجرون واللاجئون أمثال بركة ساكن، وهم القادمون من بلدان تطحنها الحروب الأهلية والفقر وظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
انبهر بركة ساكن وهو تلميذ صغير بكتابات الروائي الأمريكي إدغار آلان بو المرعبة، الأمر الذي ربّى في نفسه الرغبة في الكتابة. وكان الكاتب الأمريكي قدوة له في سنواته الأولى. وعن ذلك يقول: "تتمحور حياتي منذ سن مبكرة- كما ذكرت- حول فكرة واحدة، وهي أن أصبح كاتباً بمهارة إدغار آلان بو وروح جبران خليل جبران، وقد أنفقت كل وقتي من أجل ذلك الهدف، وما زلت". وبالرغم من الشهرة التي حظي بها بركة ساكن في الأوساط الأدبية في أوروبا التي يعيش فيها لما يقارب العقد من الزمان، إلّا أنه ما زال يتمتع بتلك البساطة التي تميّز أهل السودان. ونرى ذلك في إجاباته على الأسئلة الموجهة إليه في المناسبات المختلفة والكلمات البسيطة التي لا يكلف نفسه عناء اختيارها. وهي أشياء تذكّر بمواطنه الطيب صالح.
مما يؤخذ على روايات بركة ساكن، بالرغم من الإحساس ببساطة الرجل من خلال مفرداته وحوارات شخصيات الروايات، أن الكاتب لا يكلّف نفسه شرح مفردات عامية سودانية لقارئ أجنبي، عربياً كان أو أعجمياً. وفي حالة ترجمة الأعمال الروائية للكاتب إلى لغات أخرى (تُرجم عدد من رواياته إلى الفرنسية والألمانية والإنجليزية والسواحيلية) فسيكون مجهود الشرح والتوضيح وإيجاد المفردة المناسبة على عاتق المترجم. أما في حالة القراءة باللغة العربية فإن القارئ العربي سيشعر بصعوبة في قراءة بعض أعمال بركة ساكن. ويبدو هذا الأمر من عناوين بعض الروايات الأكثر شهرة له، مثل "مخيلة الخندريس"، و"الجنقو مسامير الأرض". لكن متعة القراءة والوصف في رواياته تتجاوز هذه الصعوبات المصطلحية وتأخذ القارئ في عوالم المهمشين وفقراء المدن، وهو تحدٍّ جدير بالمواجهة.
قال ساكن ذات مرة رداً على الواقع العنيف في رواياته: "نحن نعيش في واقع عنيف جداً. عنف الدولة. عنف الأسرة. عنف المعلمين في المدارس. عنف الأطباء في المستشفيات. عنف المشاعر الإنسانية. عنف رجال الشرطة ورجال المرور. عنف القضاة ووكلاء النيابة. عنف الرقابة الاجتماعية. عنف المصنفات الأدبية والفنية. عنف الصداقة والزواج والأبوة والبنوة. عنف رجال الأمن والعسكر والعنف المُطلق للجنجويد (الميليشيات العنيفة التي تعاونت مع قوات البشير والمتهمة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية)". مضيفاً أن كل هذا العنف وغيره "محمول على ظهر الكاتب، الذي يتوجّب عليه أن يسجّل كل شيء. ووسط عاصفة العنف هذه، هناك صراع من أجل الحياة، من أجل ومضة من الفرح والمتعة". وهذا هو الفضاء الذي غالباً ما يلتقطه ساكن في كتاباته: جمال لحظة التوقف بين فترات الرعب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.