أسوأ كوابيس السيسي وتهديد جادّ للببلاوي.. لماذا تعد قضية محمد سلطان في أمريكا حدثاً نوعياً؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/01/30 الساعة 10:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/01/30 الساعة 12:25 بتوقيت غرينتش
الناشط المصري محمد سلطان - مواقع التواصل

في الـ25 من أغسطس/آب 2013، بعد فض اعتصام رابعة العدويَّة بـ10 أيام، وقبل نحو 8 أعوام من الآن، داهمتْ قوَّات الأمن المصريَّة منزلاً يؤوي عدداً من شباب القوى الإسلامية الناجين من مجزرة الفض والعاملين في مجال الإعلام.

من بين هؤلاء الشباب القاطنين في المنزل المداهَم كان هناك شابٌ مصريّ يحمل الجنسيّة الأمريكيَّة، قامت قوَّات الأمن، الَّتي كانت قد همَّت بحملة أمنيَّة لقطف رؤوس قيادات الإخوان، باعتقاله، على خلفيَّة بنوَّته للكادر التاريخيِّ المعروف صلاح سلطان، إذ لم يعد، بعد فضّ الميادين، أيّ مجال للحديث عن "العقلانيّة" والتروّي، ولا صوتَ يعلو فوق صوت الاستئصال والجنون.

في هذه الأثناء، بالطبع، لم تكن السلطات المصريّة تعلم أنّ اعتقال هذا الشَّاب المهذب، صاحب السمت الرقيق، محمد سلطان، سيكون وبالاً عليها، خلال بقائه في مصر داخل محبسه، أو في مطاردته أحدَ أبرز مسؤولي نظام ما بعد الانقلاب في الخارج عقب الإفراج عنه، وذلك بالتزامن مع الذكرى العاشرة لثورة يناير، وكأنها بارقة نور تقول على لسان محمد كما قال آخرون قبله: هناك أمل!

معركة الأمعاء الخاوية

قصَّة اعتقال محمَّد مؤلمة للغاية، لم يكن محمد ليُعتقل في بادئ الأمر لولا اتخاذ السلطات المصريَّة قراراً بتثبيت حكم دولة الثالث من يوليو/تموز 2013، عبر سحق خصومها المكدَّسين في بقعةٍ جغرافية شديدة الصغر؛ رابعة العدوية، دون أدنى نظر لفوارق القوة بين الخصمين، أو اعتبار لأثر ذلك القرار على استقرار المجتمع وسيادة القانون لسنوات طويلة.

أدَّت النزعة الانتقاميَّة المشحون بها رجال الأمن جراء التحريض الإعلامي الرسمي، إلى جانب تعليمات القيادات الشرطيَّة، وتطمينات قيادات النظام الجديد بالإفلات من المحاسبة القانونيَّة، إلى إفراط شديد في استخدام القتل ضدّ "أهل الشرّ"، المعزولين عن المجتمع، أعداء النظام، في "بؤرة رابعة"، وهو ما نتج عنه إصابة محمَّد بإحدى الرصاصات الطائشة في ذراعه.

يمكنك أن تعتبر نفس هذه الإصابة شاهداً على عدَّة استنتاجات تبدو متناقضة ظاهرياً، وفقاً لموقع رؤيتك للحادث. فأن يُستهدَف نجلُ قياديٍّ إخوانيٍّ في ذراعه فقط، خلال اشتباكات الفض التي شهدت إطلاق نار من جانب بعض المعتصمين، ربما يكون دليلاً على مبالغة قيادات الإخوان في تقدير آثار وقائع الفضّ. 

وقد تكون نفس هذه الإصابة دليلاً على العناية الإلهيَّة في هذا التوقيت، بالنظر إلى عشرات الشهداء الذين سقطوا برصاصات طائشة مشابهة. وبين هذا وذاك، يسرد محمد لنا هولَ ما حدث، فيقول: إنَّ هذه الرصاصة التي أصابتني في ذراعي كانت الثانية، فقبلها مباشرة مرت بجوار رأسي بالضبط رصاصةٌ طائشة أخرى، وبعد أن أدركتُ مقتل أصدقائي المصورين، ممن كنت أحادثهم قبل الفض بمدة قصيرة، وعاينتُ إصابتي، وشاهدتُ مئات المعتصمين هائمين على وجوههم لا يدرون إلى أين سيذهبون، تمنَّيتُ لو أنّ الرصاصة الأولى اخترقت رأسي.

مرَّ سُلطان، الحاصل على الماجيستير في الاقتصاد من جامعة أوهايو بالولايات المتحدة الأمريكية، والبالغ من العمر وقتها 24 عاماً فقط، بعد اعتقاله مصاباً في ذراعه، بكلِّ مراحل البيروقراطيَّة السجنيَّة في مصر، والتي تزدادُ أثقالها على المعارضين السياسيين، بدايةً من "الثلّاجة" التي يظلّ فيها السجين مختفياً قسرياً لحين إدراجه في قضية ما، مروراً بالحبس الاحتياطيّ في غرفة تحوي ما لا يقل عن 50 شخصاً بينما تتسع في الواقع إلى شخصين أو ثلاثة على الأكثر، وصولاً إلى سجن العقرب، حيثُ يقبع السجين تحت الأرض تقريباً. 

خلال هذه الرِّحلة القاسية التي استمرَّت نحو عامين، رصدَ سلطان أبرز التحولات التي طرأت على الواقع القانونيّ في مصر بعد مشهد القبض على الرئيس المنتخب وتعطيل العمل بالدستور وتعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيساً مؤقتاً، ثمَّ معاينة هذه الأوساط القانونية بطش أجهزة الأمن الذي لا حدود له وتنامي النزعة اللاعقلانية في النظر إلى الحالة السياسيّة، وهي أنّ كل أطراف المنظومة، بدايةً من وكيل النيابة إلى القاضي، صاروا يتلقون التعليمات من المستويات السياسية والأمنية دون أدنى غضاضة، كما رصد فلسفةَ البيروقراطية السجنيَّة المصريَّة، حيث تعمُّد التعامل مع المحبوسين باعتبارهم أرقاماً، وتضييق المساحات الفيزيائية داخل مقارّ الاحتجاز، وتطبيع استباحة الجسد، إذ تستهدف "السلطة" من هذه الإجراءات، وفق محمد: تجريد النزيل من كرامته، وسلبه قدرته على المقاومة.

رفضَ سلطان هذه السِّياسة، وقرَّر المقامرة بصحِّته الجسديَّة نظير المحافظة على كرامته وإرادته، فدخل إضراباً عن الطعام لنحو 500 يوم، حتى أصابه الهزال والضعف، ما أجبر العالم على الاعتراف بوجوده، كما يقول، وتسليط الضوء على القضيَّة الهزليَّة التي حوكم فيها 17 ناشطاً إعلامياً، رأتِ السلطة أن جزاءها الوفاقَ هو الحكم بالمؤبَّد، وقد ساعده في إضرابه، أيضاً، شهرته كنجل أحد أبرز قيادات الإخوان، وقدرته على مخاطبة الرأي العام العالمي، إلى أن انصاعتِ السلطات المصريَّة لإرادته هذه المرة، وأفرجت عنه، موافِقةً على ترحيله للولايات المتحدة، بعد أن رهنت الإفراج عنه بالتنازل عن الجنسية المصرية، وهو أمرٌ قاسٍ على محمد الذي عاد بعد ثورة يناير للمساهمة في بناء الوطن، ولكنه كان مفهوماً في سياق "الهيستريا" المسيطِرة على المشهد.

العيار الذي لا يصيب "يدوِش"

من يتابع خطوات سلطان منذ خروجه من محبسه قبل حوالي خمسة أعوام، يمكن بسهولة أن يلحظ فيها قلقاً إيجابياً مدفوعاً بإحساسه بالمسؤوليَّة تجاه زملائه الثلاثة الذين رافقوه من الاعتقال إلى السجن وحتى النطق بالحكم (ثلاثة إعلاميين كانوا يعملون في شبكة "رصد")، ونحو والده، الكادر الإخواني المعتقل في ظروف مأساويّة، إلى جانب استشعاره نعمة الحريَّة التي سلبت منه في وقت ما، ووجوده في الولايات المتحدة، بما تمثله من ثقل سياسي وحقوقي ومساحات عمل ممكنة.

فيما يبدو، تفتَّق ذهن محمد، بشكل شخصيٍّ أو بنصيحة خارجيّة، إلى ملء شغور إحساسه بالمسؤولية تجاه القضية المصريَّة، بمطاردة أحد أبرز الأسماء التي كانت حاضرة في المشهد منذ وقت مبكر، بعد الثالث من يوليو/تموز 2013، حازم الببلاوي. هنا سنلاحظ أنَّ بعض المنصَّات التحريريَّة المناهضة للانقلاب العسكريّ، مثل "جودة" (Jawda) قد تحدَّثت بالاسم عن حازم الببلاوي، كأحد أبرز الأسماء التي يمكن ملاحقتها قضائياً في الخارج، منذ عام 2015.

الرّهان الذي أشارت إليه "جودة"، ووجد صداه عند سلطان بشكل ما، هو أنّه بالرغم من كون الببلاوي يتمتَّع بحصانةٍ دبلوماسيَّة منذ عام 2014، باعتباره ممثَّلاً لمصر والمجموعة العربيَّة في المجلس التنفيذيّ لصندوق النقد الدوليّ، إلّا أنَّ القانون الجنائيّ الدوليّ، بصيغته المعاصرة، يوفر إسناداً ممكناً لملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانيَّة خارج بلادهم.

المغزى في إمكان المحاكمة خارج الدولة، هو معرفة المشرّع الدوليّ أنّ العالم المعاصر مفتوح على مصراعيه بشكل قد يمثّل ملاذاً لكثير من المجرمين، وأنَّ نفس العالم به من الظُّلم ما يكفي لمنع محاسبة كثير من المتهمين داخل بلادهم، وأنّ مسار اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدوليّة قد يكون متعثراً في ظلّ امتلاك عدد من الدول الداعمة للاستبداد لحق الفيتو.

وقبل أن يرفعَ سلطان دعواه القضائيَّة على الببلاوي بشهرين فقط، نجحت بعض الأسر السوريَّة في ألمانيا بتحريك دعوى قضائية مشابهة، ضد عنصرين من المخابرات السوريَّة، متهميْن بالتورط في قتل وتعذيب عدد كبير من نشطاء الثورة السوريَّة في سجن الخطيب المخابراتيّ بدمشق عام 2012، وفق ما ظهر في معالجة المواد المصورة ضمن ملف انتهاكات النظام (قيصر) وشهادات بعض من ذوي الضحايا الفارّين من بطش النظام إلى برلين.

وبالفعل، وافقَ القضاء الألمانيّ، استناداً إلى هذا المبدأ القانونيّ العالميّ المشار إليه، على النظر في القضيّة، وعُقدت أولى الجلسات، أبريل/نيسان الماضي في كوبلنز، بحضور الضابطين المتهميْن، اللذين كانا موجوديْن في ألمانيا على خلفية انشقاقهما عن النظام بعد مدة من عملهما معه، وهو ما اعتُبر حدثاً نوعياً يهدد مستمرئي الإجرام، ويدعم مبدأ عدم إفلات الجناة من العدالة لمجرد مرور الزمن أو اختلاف الهويات المكانية التي يقطن بها المتهمون.

ما كانت تحتاجه دعوى سلطان التي رفعها في الرابع من يونيو/حزيران من العام الماضي أمام محكمة واشنطن دي سي الفيدرالية ضد حازم الببلاوي، هو الدعم الحكومي الأمريكي عبر تفعيل إحدى الثغرات القانونيَّة التي تسمح بمحاكمة مسؤول سابق لتستره على جرائم تعذيب ضد معارض سياسي، وفكّ الارتباط بين تمتعه بالحصانة الدبلوماسية في الوقت الحالي ورعايته هذه الانتهاكات قبل حصوله على هذه الحماية، ولكنَّ إدارة ترامب، ممثلةً في وزارة الخارجيّة، تجاهلتْ بنود دعوى سلطان الوجيهة، ما عطَّل مسارها القانوني إلى المحكمة وأدى إلى القضيَّة.

ولكن بالرغم من هذا الرفض، يبدو أن هذه الخطوة المختلفة في نوعها من محمد وجدت صداها لدى السلطات المصرية، إلى الحد الذي دفعها لسرعة الضغط عليه بورقتها الرخيصة ضد المعارضين في الخارج، اتخاذ الأقارب كرهائن، حيث اعتقلت، بحلول الـ15 من يونيو/حزيران، خمسةً من أبناء عمومة سلطان، يتراوح سنهم من 18-24 عاماً، وأخفتهم قسرياً، ثمَّ فعّلت وضع الطوارئ دبلوماسياً، عبر السفارة المصرية بواشنطن ومجموعات الضغط، لحث إدارة ترامب، التي لا تملك إرادة حقيقية من الأصل، على تعطيل المسار القانوني للقضيَّة، من الحكومة إلى المحكمة.

الببلاوي الثغرة

إلى جانب محاولة استغلال المساحة القانونيَّة التي توفرها التشريعات الأمريكيّة لمحاسبة مسؤول سابق متهم في رعاية جرائم تعذيب داخل بلاده، كان في مخيَّلة سلطان عدةُ اعتبارات أخرى جعلته يمضي في هذه الدعوى، منها محاولة استغلال وضعه الفريد في الأوساط الأمريكيّة، كحامل للجنسيّة الأمريكيَّة، ومعتقل سابق في السجون المصريَّة بعد حملة أمنيَّة كان الببلاوي جزءاً منها، وناشط ملمّ إلى حدّ ما بدهاليز المسارات الداخليّة في أمريكا من جهة، بالإضافة إلى محاولة توطئة هذا الطريق، طريق ملاحقة قادة الانقلاب العسكريّ في الخارج أمام المعارضين، كطريق جديد ممكن من جهة أخرى.

ولكن على الأرجح، لم يكن محمَّد يعوِّل كثيراً على هذه الخطوة وقت تنفيذها، بغض النظر حتّى عن فكرة تمتّع الببلاوي بالحصانة القانونيَّة لتمثيله مصرَ في مؤسسة دوليَّة مرموقة بالولايات المتحدة، وذلك لأنّ إدارة ترامب لن ترحِّبَ بمحاسبة مسؤول سابق في حكومة "ديكتاتورها المفضل"، وستعطِّل مسار القضيَّة التي يفترض أن تنطلق من وزارة الخارجية قبل أن تصل إلى المحكمة.

 كما أنَّه في هذا التوقيت، نهاية مايو/أيار ومطلع يونيو/حزيران الماضي، لم يكن مطروحاً، بقوَّة، تصورُ هزيمة ترامب في الانتخابات الرئاسيَّة الأمريكيَّة، لنجاحه إلى حدٍّ كبير، حينئذ كما كان يقال، في ملف التشغيل، ودعمه من اللوبيَّات اليمينيَّة، وخاصة الممولة أو ذات الصلة بالاحتلال والخليج، وضعف خصومه الديمقراطيين، كـ"بروفايلات" شخصيَّة أو كأطروحات، وهي العوامل التي دعت محمد فيما يبدو إلى القول إن هذه المعركة القضائية ستكون طويلة وصعبة وإنه يتفهم ذلك.

المستجدّ في هذه القضيَّة، والذي رفع أسهم سلطان في جدوى هذه الخطوة، كان قرار الخارجيَّة الأمريكيَّة في إدارة الرئيس الأمريكيّ الجديد، الذي تنظر إلى قدومه كثيرٌ من الأوساط الاستبدادية كنذير شؤم وموعد خراب مستعجَل، جو بايدن، بتعليق الموقف السَّابق لإدارة ترامب الرافض للقضية، لحين استقرار الإدارة الجديدة، وإعادة فحص الوضع القانوني للمُدَّعى عليه حازم الببلاوي، بحسب وزارة العدل.

 ما نجادل فيه هنا، أنَّه حال وافقت الخارجيَّة الأمريكيَّة على تمرير القضيَّة إلى المحكمة الفيدراليَّة، وهو أمر بات مطروحاً بقوَّة كما سنوضِّح، فإنه من الوارد فعلاً أن نجدَ الببلاوي في وضعٍ قانونيّ لم يكن يتوقَّعه قطّ، وذلك بسبب تصريحاته السَّابقة عمَّا جرى في مجزرة "رابعة"، التي كانت السبب الرئيسي في ولوج سلطان إلى مسار الاعتقال والتعذيب.

فعندما نبحث في الأوراق القديمة للبلاوي، سنجدُ أنه للمفارقة قد عقد محاكمة مبكرة لنفسه، طرح فيها الاتهامات، واعترف خلالها بالخطأ، وحاول إيجاد مبرراتٍ براغماتيَّة لتسويغ الجرائم. يقول الببلاوي محاولاً تبرير ما جرى في رابعة، أغسطس/آب 2013، نصاً: "في كثير من الأحيان تضطرّ للقيام بأعمال يترتب عليها ضحايا لحماية ناس أكثر، ففي الحروب تضطرّ الدول لإرسال أبنائها للدفاع عنها عندما تتعرَّض لهجوم من بلد آخر، ويموت بعض أبنائها، ولكنك في هذه الحالة حميتَ أبناء البلد، وقرار فض الاعتصام كان قراراً صعباً، أن نرى أي دم مصري يسيل، لكن ما يهمّ هو المصلحة الكبرى".

وفي الذكرى الأولى لمرور عام على مذبحة الفضّ، 2014، علَّق الببلاوي والكلام بنصِّه أيضاً: "يجب تقديم كل من ارتكب خطأ في أحداث رابعة للتحقيق معه، وهو ما نحرص عليه في إطار سيادة القانون، وهو مطلب مصري وليس غربياً، نرحِّب بتحقيق مستقلّ من منظمات حقوق الإنسان حول أحداث رابعة وكل ملابساتها، سواء التي أحاطت بعملية الفض أو ما تلاها من أحداث. فض النهضة وكرداسة لم يترتب عليه سقوط أعداد كبيرة من الضحايا، بعكس ما حدث في رابعة". 

وقد تنصَّل الببلاوي، بشكل واضح، مما جرى في رابعة، محملاً وزير الداخلية محمد إبراهيم مسؤولية التوسع في إراقة الدماء، كما شهد إيريك تريجر 2016، حيث عرضَ الببلاوي وآخرون على إبراهيم خطة للفض تعتمد على حصار الميادين حصاراً يسمح بخروج المعتصمين منها، ويمنع في نفس الوقت دخول مزيد من الأشخاص أو لوازم الإعاشة لمدةٍ تثبِّط من عزيمة المعتصمين وتوطِّئ لأي عنف مستقبليّ حال رفضوا الخروج، فأبى إبراهيم أن يوافق على هذا الأسلوب، لأنه كما نقل تريجر على لسان الببلاوي، أسلوب لم تعتد الشرطة على استخدامه، وأقرب إلى تكتيكات الحروب التي تستخدمها الجيوش.

تختلف هذه السرديَّة الاعتذاريَّة التي سوَّقها الببلاوي مدةً غير صغيرة من بعد أحداث الفضّ عن السَّرديَّة الرَّسميَّة الّتي روَّجها النظام نفسه، قبل فض الاعتصام وبعده، سواء عبر أبواقه الإعلامية في تصوير رابعة كبؤرةٍ إرهابيَّة مسلَّحة تحوي من الشر ما يستوجب التحرك لاستئصاله، أو في استحلال قتلهم لأنهم خوارج عصاة للإمام المتغلِّب (اضرب في المليان).

 والسببُ في ذلك أن الببلاوي، على الرغم من وقاحته في تبرير الفضّ أيضاً خلال سياقات أخرى، ينتمي إلى تيَّار أقرب إلى حدود الليبرالية الوطنية، وهو تيَّار تنازعه دائماً الرغبة في تحييد الإسلاميين بعيداً عن المشهد السياسي العام، شريطة أن يكون هذا الإبعاد بأقل التضحيات الأخلاقية الممكنة، فلا يخلو معجمهم من الحديث، مع هذه الرغبة، عن القانون والحريات، فكان من بين رموز هذا التيار الحاضرين في مشهد ما بعد الثالث من يوليو/تموز 2013، إلى جانب الببلاوي، أسماء مثل حسام عيسى وزياد بهاء الدين ومصطفى حجازي، ولكنهم لم يروقوا لتركيبة النظام الحالي، فلفظهم ولفظوه.

الدعوى التي رفعها محمد صلاح سلطان ضد الببلاوي لا تتعلق بدوره في فض رابعة العدوية بالأساس، وإنما مسؤوليته -كرئيس للوزراء- عن الانتهاكات التي تعرض لها خلال فترة محبسه، والتي رأى آثارها الجميعُ في هذه الفترة؛ ولكن يمكن الاستفادة -وهو ما سيحدث على الأرجح حال قبول القضية- من هذه التصريحات الرسمية الموثقة من الببلاوي، في الاستدلال على غياب سيادة القانون في مصر منذ الانقلاب العسكري، خلافاً لما حاول التيار التقدمي الذي كان الببلاوي جزءاً منه ترويجه عن النظام الجديد، ما أثر في النهاية على أوضاع السجون التي آوت المعارضين بعد أحداث العنف التي قام بها النظام، بما في ذلك وضع سلطان.

بشائر بايدن

هناك عدّة أسباب، ومقدمات، تدفعنا إلى ترجيح حدوث مفاجأة بعد أقلِّ من شهر حيال الموقف الأمريكي تجاه دعوى محمد سلطان ضد حازم الببلاوي، الأول أن الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، منذ أن كان مجرد مرشح رئاسي، جعل من اتخاذ موقف حازم نحو "ديكتاتور ترامب"، والنظام المصري، جزءاً من بنود حملته الانتخابية الخارجية، وفي سياسته بالشرق الأوسط تحديداً.

السبب الثاني، هو أن هناك اتجاهاً عاماً في الإدارة الأمريكية الجديدة إلى العدول عن "الإجراءات" العملية التي اتخذها ترامب لتنفيذ رؤيته الانكفائية على مصالح الولايات المتحدة. عادَ بايدن إلى اتفاقية المناخ العالمية، وبدأ يتخذ خطوات في سبيل إحياء عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية خلافاً لخط ترامب الداعم للاحتلال، وأوقف بناء السور الفاصل بين الولايات المتحدة والمكسيك، ورفع القيود المفروضة على استقبال المهاجرين من بعض الدول الإسلامية، ويخطط للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وعلق مبيعات السلاح إلى السعودية والإمارات.

 لذلك، فمن الراجح، في ضوء هذه المقدمات، أن تدعم الخارجية الأمريكية، خاصة في وجود وزيرها الجديد، أنثوني بلينكن، الذي يتبنى مواقف مناهضة لما حدث في مصر منذ الثالث من يوليو/ تموز 2013، إحالة القضية إلى المحكمة. لا يعني محض الإحالة أن الببلاوي سيُدان، أو أنه سيقدم إلى المحاكمة بشحمه ولحمه؛ فقد يغادر البلاد قبل صدور القرار النهائيّ، وقد ترى المحكمة أن الأدلة غير كافية وفق تقديرها، ولكنه، أيضاً، سيكون أول مسؤول مصري يقدم إلى المحاكمة في الخارج من بعد الانقلاب العسكري، إذا وافقت الخارجية على ذلك.

السبب الثالث لترجيح موافقة الخارجية الأمريكية على إحالة القضية إلى المحكمة، أن هناك اهتماماً شخصياً من جانب الرئيس الأمريكي الحالي بتجربة نضال محمد سلطان، بالنظر إلى كونه مواطناً أمريكياً، أقرب إلى القيم الليبرالية التي تتبناها الولايات المتحدة، وفي الأساس، كانت تغريدة بايدن عن أنه لا شيكات مفتوحة لديكتاتور ترامب المفضل حال فوزه بالرئاسة، يوليو/تموز الماضي، مذيلةً بطلب الإفراج عن أقارب سلطان الذين اعتقلهم السيسي عقاباً على خطوة مقاضاة الببلاوي، وهو ما انصاعت له السلطات المصرية بالفعل في نوفمبر/تشرين الماضي، حينما أفرجت عنهم رفقة 600 معتقل، معظمهم قد اعتقلوا في مظاهرات الاعتراض على قانون مخالفات البناء، التي دعا إليها المقاول المعارض محمد علي في سبتمبر/أيلول الماضي.

رابعاً، أنّ هذه القضية تحظى بدعم حقوقي وسياسي، من بعض الدوائر التي يحسن محمد سلطان التواصل معها في الولايات المتحدة بالفعل، وقد أرسل 11 نائباً ديمقراطياً من الكونغرس رسالة إلى الخارجية الأمريكية، يقولون فيها إن أي رفض جديد لإحالة القضية إلى القضاء الفيدرالي سيكون موقفاً مشيناً وليس له أسباب وجيهة، خاصة بعد حادثة خطف أقارب محمد، وأن الخطوة المقابلة لتفادي توتر العلاقات الاستراتيجية مع مصر حال قررت الخارجية إحالة القضية إلى المحكمة، هي تلك الخطوة القانونية البديهيّة: أن يُسمح للمصريين بالطعن على طلب الإحالة أمام القضاء.

كما لمّح النائب الديمقراطيّ توم مالينوفسكي إلى أن القانون الأمريكي، به ما يكفي من الثغرات ليس لمجرد تجريد الببلاوي من حصانته الحالية لتقديمه للمحاكمة على جرائم ارتكبها قبل أن يحمل هذه الحصانة فقط، أو اعتبارها حصانة لا علاقة لها بالقضية المرفوعة، ولكن أيضاً إلى وقف بيع الأسلحة للدول التي تتبع سلوكيات مقصودة من شأنها تخويف المواطنين الأمريكيين، في إشارة إلى خطف السلطات المصرية أقارب سلطان بعد أن قام برفع القضيّة على الببلاوي.

أخيراً، أن هناك حراكاً دولياً ملحوظاً في هذا التوقيت، بالتزامن مع الذكرى العاشرة لثورة يناير، تجاه محاسبة النظام المصري على أخطائه، أو إدانته على الأقل، بغرض إجباره على كف يده عن المعارضين في الداخل، حيث من المنتظر أن يبحث مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، بطلب أوروبي، مارس/آذار المقبل، إنشاء آلية لتسليط الضوء على انتهاكات ملف حقوق الإنسان في مصر، على إثر تعقد قضية محاسبة المتورطين في قتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، وتزايد المؤشرات القائلة بأن النظام المصري الحالي لا يتهاون في التنكيل بالمعارضين المحليين فقط، وإنما يمارس أساليب مشابهة مع الحقوقيين الغربيين الذين تتقاطع مساراتهم العملية أو الدراسية مع الأوضاع في مصر، وهو ما تضعه الخارجية الأمريكية في اعتبارها بكل تأكيد.

السيسي

قد تعتقد أنَّ وضع اسم السيسي في هذا السياق نوع من الحشو المعتاد في كتابات المعارضة منذ الانقلاب العسكري ونشوء متلازمة السيسي، ولكن الحق أن الإشارة إلى السيسي هنا من صُلب هذا الموضوع من جهتين.

الجهة الأولى، ترتبط بسؤال: ماذا يخيف السيسي؟ والذي يتفرع عن ملف: كيف نفهم السيسي؟ إذ يبدو ظاهرياً أن السيسي لا يخاف، ويبدو أيضاً أنه يريد على الدوام إيصال هذه الرسالة لنا. في ظهوره الإعلامي الأول مرشحاً للرئاسة مع إبراهيم عيسى ولميس الحديدي، تندّر السيسي على رواية حكاها عن محاولات تهديده من خيرت الشاطر بعواقب تدخل الجيش في الحياة السياسية قبل الانقلاب العسكري، فقال: وأنا بطبيعتي بخاف يعني، في إشارة إلى عكس هذا الأمر.

ولكن الحقيقة، وبطبيعة الحال، أن السيسي يخاف، ولكن ماذا يخيفه في هذا السياق الحالي؟ وما علاقة هذا بالحديث عن قضية محمد سلطان ضدّ الببلاوي؟ يجيبنا السيسي في تسريب قديم بعد الانقلاب مباشرة مع الراحل حسنين هيكل قائلاً: "ممكن يبقى فيه مصالحة بجد؟ أنا مش بتكلم على جوا مصر أنا بتكلم على بره مصر، أقولك على حاجة أخطر من كده؟ لما كنت بقعد مع الأجانب اللي بييجوا من هنا وهنا، كنت أقولهم بمنتهى الصراحة كده، إن اللي أنا خايف منه: المساءلة القانونية".

ترجم السيسي هذا الخوف من التعرض إلى المساءلة القانونية في الخارج عن تحركه ضد رئيس منتخب وتعطيل دستور البلاد المستفتى عليه شعبياً والضلوع في عمليات قتل واسعة النطاق، عملياً، في فرض تشريع يحصّن عدداً كبيراً من أبرز قادة الانقلاب في الخارج، بتوسيع دائرة صفاتهم التمثيلية لمصر في الخارج، ومنحهم حصانات دبلوماسية، حماية لرجاله وخوفاً من انفراط عقد الطغمة المسؤولة عن المشاركة في هذه الأحداث، وذلك في وقت مبكر بعد الانقلاب.

وبحسب توثيقٍ قديم لنايل الشافعي، فإن هذا الخوف من التعرض إلى التوقيف في الخارج ظل ملازماً للسيسي في سياقات كثيرة، خشية أن تتعارض قوانين الدولة المستضيفة، قصداً أو بالخطأ، مع وضعه المحصن كممثل شرعي للأمة، كما حدث عندما تراجع في الساعات الأخيرة عن زيارته إلى جنوب إفريقيا، الديمقراطية الأبرز في القارة، لحضور القمة الإفريقية يونيو/حزيران 2015، بسبب إقامة اتحاد المحامين المسلمين هناك دعوى قضائية ضده، وخلفية موقف رئيسها جاكوب زوما من أحداث مصر التي اعتبرها انقلاباً عسكرياً، وتزعمت جوهانسبرغ، بعد ذلك، جهود تعليق عضوية مصر في الاتحاد الإفريقي لأكثر من عام.

الجهة الثانية، أن اسمَ السيسي نفسه موضوع ضمن المتهمين في القضية رفقة محمد إبراهيم وقيادات شرطية أخرى بالفعل، وهو ما يفسر أيضاً التصعيد المصري الاستباقي ضد إدارة ترامب، بالرغم من عدم نية إدارته مباشرة القضية أصلاً.

 لا ينطبق على السيسي ما ينطبق على الببلاوي، فهو ليس مقيماً في أمريكا، وتخضع مسألة توقيفه لاعتبارات سياسية وقانونية معقدة، ولم يسبق له التصريح رسمياً بتصريحات عن التجاوزات القانونية في الفض أو غيره، ولكن السيسي يخشى، على الأرجح، بالإضافة إلى ضرورة حماية ممثل مصر لدى المؤسسة الدولية، من احتمال تعرض وقائع المحاكمة، إن حدثت، إلى اسمه بشكل شخصي مباشر، ما قد يفتح عليه أبواب مشاكل كثيرة هو في غنى عنها، وقد سبق ولمّحت السلطات الإيطالية من قبل، ومصادر صحفية، إلى ضلوع نجله في قضية مقتل ريجيني بشكل غير مباشر.

المسار القانوني لملاحقة المجرمين في الخارج، كما وصفه محمد سلطان بالضبط، صعب، ويحتاج إلى نفس طويل، ولكنه يستحق، لأنه في الخارج، أي بعيداً عن تعقيدات وخطورة الوضع الداخلي، وممكن من خلال بعض الثغرات القانونية التي تجيد مكاتب القانون الدولية والحقوقيون استغلالها، ومن الضروري، سواء نجحت إحالة الببلاوي إلى القضاء أم لا، المضيُّ فيه بشكل أكثر نظاماً، ضد الشركات التابعة للنظام، والإعلاميين المتورطين في التحريض على القتل بشكل رسمي لتقييد حركتهم الداعمة للنظام في الخارج، كما أوصت "جَودة"، وذلك بالتوازي مع باقي المسارات الأخرى.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد سلطان
كاتب مصري مقيم بأستراليا
كاتب مصري مقيم بأستراليا
تحميل المزيد