هناك إجماع غير قابل للتشكيك على أن فرانز كافكا يتمتع بمكان خاص واستثنائي بين أعظم الكتاب الذين مروا على العالم. بعض النقاد ممن تناولوا أعمال كافكا، مثل الشاعر البريطاني ويستن أودن، والأديب الفرنسي بول كلوديل، والأديب الألماني توماس مان، وضعوه في منزلة دانتي، جوته، شكسبير، وراسين.
كافكا الغريب
ثمة إجماع لا يقبل الشك بأن كافكا أحد أولئك المبدعين الذين سيظل اسمهم خالداً، ويزداد بريقاً بتقادم الزمن. يصعب إيجاد كاتب كبير أتى بعده ولم يفتش بعين تلميذ معجب برائد الكتابة الكابوسية، أو كما سماها طه حسين، الأدب المظلم. جارسيا ماركيز، ألبير كامو، بورخيس، وغيرهم، كان كافكا بالنسبة لهم من فتح ثغرة في جدار مشابهة الواقع، ومن خلالها تبعه كثيرون، كل على طريقته، على حد تعبير الروائي ميلان كونديرا. وفي العالم العربي منذ ترجم الناقد والرسام رمسيس يونان قصة "طبيب القرية" عام 1946، تحول كافكا خصوصاً في الستينات، كما يقول الروائي جمال الغيطاني لـ"شخصية مقدسة سحرتنا".
تبنى كافكا السرد الأدبي انطلاقاً من الذات، مما يحدث داخل التجربة النفسية للإنسان أولاً، ثم منها يتوجه إلى الخارج. سواء كان موضع الراوي الأنا أو الهو، فنحن ننظر بعين شخص واحد، بمشاعره، ما من شيء نعرفه في غيابه، ولا نعلم سوى أفكار البطل فقط. ولأن داخل الإنسان حالة من الغموض المستتر، غير المفسر، الغريب. كانت الذاتية، كينونة الإنسان المنفية في الهامش، المطالبة بتبرير نفسها دائماً تتجلى في شكل غريب غير معتاد في أعماله، لكن هل وصف غريب في محله؟
كان الروائي النرويجي هامسون مثل كافكا، يرى في الغرابة تجسيداً لواقع الإنسان في عصره، لذا قال "إنني أرى أشياء أغرب مما كتبت وأنا أسير في الشارع". إن سامسا ومساح القلعة وجوزيف ك وفنان الجوع ليسوا نتاج عالم لا عقلاني، ولكي يوصف شيء ما بالخيالي هذا يعني أنها تختلف عما يمسي حقيقياً، لكن تلك الفانتازيا واقعية؛ لأنها كينونة تكافح لكشف حقيقة ما تعانيه.
كان العالم الذي شيده كافكا هو العالم الذي عاصره، وهو نفسه العالم الذي نعيشه الآن، إنه عالم الغربة الخانق؛ الذي يعي الإنسان اغترابه فيه، كما أنه عاجز عن مواجهته. وبعبارة أخرى لسبينوزا "إنه وعي بالغربة مصحوب بجهل أسبابها ووسائل التغلب عليها". رأى الكاتب والسياسي الأرجنتيني، ماريو بارغاس يوسا أن واجب الكاتب الأخلاقي، وضع الإصبع على الجرح. وهذا ما فعله كافكا، بإدماج ما نفتقده والتحديات والكوابيس داخل عالمه الأدبي، لأن الواقع ليس بمنأى عن تلك الأشياء. وفي ذلك، لم يهدف لتفسير العالم كما لم يرغب في تغييره، بل حدد موقفه منه، وأفصح عن قصوره وتشوهه. هو ليس ساحراً يخرج من الجماد الصامت وروداً حية، بل يجري التحول للعكس؛ فعندما يواجه الأوهام البراقة، ويتساءل عن مسوغات وجودها، يتمزق النسيج ويتفتت كاشفاً عن حقيقة بائسة تبعث على القلق وتعري القبح المستتر.
أعمدة كافكا
قدم كافكا في الثلاث روايات غير المكتملة، أمريكا/المفقود، والمحاكمة، والقلعة، صورة مؤثرة للرغبة في المساواة والعدالة والحرية. يعاني كارل روسمان في الأولى من اللامساواة، وإن كانت الحرية ليست المشكلة هنا، فحتى لو كانت حرية أن تموت دون أن يأبه أحد؛ لكنها موجودة. مثل الأخوة في ظهورها الخافت الذي لا يتعدى معين للكفاح في الحياة. إن المشكلة الرئيسية هي غياب المساواة، واحترام الإنسان لكونه إنساناً، وانتهاك كرامته؛ لأنه لا يملك ما يجبر الأخرين على تقديره سوى إنسانيته.
يعاني جوزيف ك. من معضلة الحرية، تبدأ الرواية "لابد أن أحداً قد افترى على جوزيف ك، إذ اعتقل ذات صباح دون أن يكون قد اقترف شراً". وبعد أن كان يعمل في وظيفة مستقرة، له سلطاته وموظف يشرف على خدمته، أصبح متهماً، غير أنه يستطيع التحرك بحرية، ما من أحد يقف في وجهه، إلا إحساسه بالخطيئة والشعور بالذنب "المحكمة لا تريد شيئاً منك، إنها تفتح أبوابها لك عندما تأتي وتعفيك عندما تذهب". لكنه ظل حبيس رغبة الحصول على تفويض، يكفل له التصرف بحريته.
في مجتمع القلعة والقرية، كل شيء مسجل بدقة. وسواء كان الإنسان مالكاً أو عاملاً أو عبداً، فهو يعرف موقعه الذي لن يتحرك خارج حدوده المرسومة "لسنا في حاجة إلى مساح. لن تجد هنا عملاً تقوم به. فكل حدود أملاكنا الصغيرة، وكل أرض مسجلة هنا وفقاً للقوانين. لا يحدث عندنا تبديل في الملاك: أما خلافتنا البسيطة حول الحدود فنحن نصفيها فيما بيننا. ما حاجتنا إذن في هذه الحالة إلى مساح". هنا في رواية القلعة يواجه ك. معضلة الأخوة. من خلال معاملته لمساعدَيه. ومن خلال نظرة المستسلمين له، كمبشر بحياة جديدة يحيط به هالة من الضياء والغموض، كرجل متعلم بملابس رثة، ولا يجب أن يهمل هكذا.
في عام 1903، كتب كافكا لصديقه أوسكار بولاك: "فقط عندما يركز البشر قواهم، ويساعدون بعضهم بعضاً بحب، يحافظون على أنفسهم على ارتفاع إلى حد ما فوق قاع جهنمي يتجهون نحوه. إنهم يتصلون ببعضهم عبر حبل، ومن السوء بمكان إذا ما انحل الحبل حول أحدهم وهوى قليلاً أكثر من الآخرين نحو الفضاء الفارغ في الأسفل، ومروع إذا ما انقطع الحبل حول أحدهم فسقط".
بجانب تلك الأعمدة الثلاثة التي شيدت عليها روايات كافكا السابقة، إن الشعور بالاغتراب غيمة كبيرة خيمت على أعماله. وظهرت بأشد صورها مع غريغور سامسا "عندما استيقظ غريغور سامسا في أحد الصباحات من كوابيس، وجد نفسه في سريره وقد تحول إلى حشرة عملاقة".
عندما أراد الروائي الروسي فلادميير نابوكوف تفسير القصة لطلابه، قال: "ليس بمقدورنا الاقتراب من تعريف ما هو فن أكثر من القول: إنه جمال ومشاركة في الأحاسيس. وحيث يوجد جمال يوجد أيضاً مشاركة في الأحاسيس، وذلك لسبب بسيط هو أن الجمال لا بد أن يموت. إن الجمال يموت دائماً، التصوير يموت بموت المصور، والعالم يموت بموت الفرد. ومن يرى في انمساخ كافكا أكثر من مخيلة حشرية، أرحب به في صفوف القراء الجيدين الحقيقيين".
القارئ الجيد، هو من لم ينظر للرواية كونها قصة عن وحش، بل عن الوحشية ذاتها. هناك قصص كثيرة عن بشر تحولوا لأمساخ، وحيوانات منفرة، لكنها ارتدت ثوباً أخلاقياً، وقدمت التحول كانتقام يحقق القصاص العادل. أو نتيجة خطأ بشري أثناء تجربة علمية، كان لها غرض أخلاقي نفعي يعود على البشرية، مثل الذبابة للكاتب جورج لانغلان.
كان تحول سامسا الحبكة الرئيسية ولم يكن مجرد التواءة أو حيلة لجأ لها الكاتب، كما لم يكن تحولاً مجازياً، فقد شعر سامسا بتحوله طوال الكتاب. إن عدم قدرته على التعبير حال دون فهم عائلته لشعوره بهم؛ حيث انسلخ عن الواقع حتى مع بقاء وعيه بداخله، فلم يعد قادراً على النطق، ولم يعد يدر دخلاً على الأسرة مثلما كان يفعل. ما فعله كافكا، على حد تعبير ميلان كونديرا "تحويل مادة مضادة للشعر بشكل عميق إلى ملحمة لم يعرف لها مثيل من قبل". ملحمة كتبها على الجبهة وحده، ونحن كقراء كنا وراء الجبهة، لكن لكل منا معركته التي لو صادف، وهذا احتمال ليس ببعيد، بأن تكون جبهته مثل موقعة سامسا، سيصبح صوت كافكا في الرواية، نافذة على مشاعر الخوف والحيرة والعجز المذل. فالعائلة التي شعر بالامتنان والحنين لها، رحلت إلى حياة سعيدة بعد استسلامه وتقبله لحقيقة عدم قدرة هذا الشيء على العيش في العالم.
يسأل غريغور سامسا نفسه وهو غارق في الظلام "ما الذي أفعله الآن إذن؟" اكتشف بأنه عاجز عن الحركة، لم يفاجأ، فقد بدا له العكس، بأنه من غير الطبيعي أن يكون قادراً حتى ذلك الحين على التحرك الفعلي بتلك الأقدام المنحنية والضعيفة، وشعر بالراحة نسبياً. جسده يحكه، لكن الألم يخبو ببطء، حينها عاد ليفكِّر في عائلته بحب وعطف. شعر بوجوب مغادرته بشكل أقوى حتى من شعور أخته. ظل بعد ذلك في حالة من الخواء والتأمل المسالم حتى سمِع ساعة البرج وهي تشير إلى الثالثة فجراً. ظلّ يشاهد بينما بدأ ببطء كل شيء حوله يصبح مضيئاً، وفي خارج نافذته أيضاً، حينها، وبطريقة خارج سيطرته، تدلّى رأسه إلى الأسفل كلياً، وفاضت آخر أنفاسه واهنةً من مناخيره.
تحليل كافكا
حظي أدب كافكا بكم كبير من التحليلات والتفسيرات، آثاره تغري بمحاولة الفهم؛ حيث يندمج القارئ أو الباحث الفضولي قريباً من أبطال كافكا، الذين حاولوا تفسير ما يرونه دون الوصول إلى نتيجة. إن كل عمل فني أصيل يعبر عن شكل للوجود الإنساني في العالم، على حد تعبير الفيلسوف روجيه جارودي. وكافكا بنى عالماً عامراً بالأحداث، ثم تركنا معلقين كاشفاً عيوبه، وتاركاً قرار تجاوزه وإيجاد حل على عاتقنا. فعالمه هو عالم الاغتراب والوعي بها. ولم تكن أعماله الثلاثة الكبرى غير مكتملة إلا لأنه وصل إلى الدرب الأخير قبل الحل بخطوات ورفض التقدم أكثر من ذلك. يقال إن لكل كافكاه، وكافكا الحقيقي، ينطبق عليه وصفه لبيكاسو. حين قال يانوش إنه "يشوه بإرادته". فأجابه كافكا: "لا أظن ذلك، إنه يسجل التشوهات التي لم تدخل بعد مجال وعينا. فالفن مرآة تتقدم كما تتقدم الساعة".
وأمام تلك المحاولات اللانهائية لتفسير آثار كافكا، يجب "أن نقبل سر الأشياء"، كما يقول الملك لير، نقبل أن لكل كافكاه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.