في ذكرى "25 يناير" ما زلت أتذكر جيداً تفاصيل هذا اليوم الثوري في مدينتي المنصورة التابعة لمحافظة الدقهلية، ورغم مرور 10 سنوات كاملة على هذا الحدث، فإنه سيظل وسيبقى خالداً في أذهان المصريين بل والعالم أجمع.
خرجنا يومها في مظاهرة وكان عددنا لم يكن يتجاوز 20 ناشطاً فضلاً عن 5 من الصحفيين، وفي العادة كان هذا هو العدد الذي يشارك في أغلب الفعاليات التي تقام بمدينة المنصورة، سواء أكان تضامناً مع عمال أو موظفين أو وقفات احتجاجية صامتة.
خرجنا أمام أحد كبرى مساجد المدينة وبدأنا في رفع اللافتات المكتوب عليها "لا للطوارئ" ومن ثم اصطففنا وبدأنا بالتحرك تجاه منطقة الثلاجة واستاد المنصورة وفي الخطوات الأولى بدأ أحمد خربوش الناشط بالحزب الناصري بالهتاف ضد قانون الطوارئ ووزير الداخلية، وكنا نردد الهتاف من خلفه بكل ما أوتينا من قوة وصوت.
في هذه اللحظة كان قلبي يرتجف، فقد كانت خطواتنا الأولى بوحدة تامة، لكننا وكان هتافنا قوياً يتردد صداه بين مساكن المدينة، ومن ثم بعد قرابة مئتي متر في اتجاه الاستاد، بدأ العشرات من المواطنين بالانضمام إلينا، منهم من كانوا معنا بالمسجد وآخرون تركوا محلاتهم وأعمالهم واصطفوا وراءنا في المظاهرة.
بدأ عددنا يتزايد حتى وصلنا إلى الضعف وأكثر، وهنا شعرت بثقة في النفس أكثر، وبدأ صوتي في الهتاف يعلو خلف أحمد خربوش؛ لنصل إلى منتصف شارع الثلاجة – أحد الشوارع الرئيسية بالمنصورة- ليصل عددها إلى مئة متظاهر فأكثر.
هنا خفق قلبي في قدمي من إحساس الارتباك الذي أشعر به إلى أين ستتجه الأمور؟! هل سننجح حقاً؟!
في هذه اللحظة كان إحسان صديقنا من حركة السادس من أبريل يهتف: "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية".. الهتاف الذي بات النغمة الرسمية لثورة يناير ولكل متظاهريها حتى اليوم، كان لحن الهتاف يَلوك الروح ويدفع الأدرينالين في الجسم بشكل جنوني.
"عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية" لحن للنشوة الخام، للرقص بجنون، للبكاء بحرقة، رومانسي تراجيدي شعبي في اللحظة ذاتها.
"عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية" لحن لكل الأذواق، للأرزقية ولمن هم لهم شقق فاخرة على المشاية.
"عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية" هو المرادف المصري لمقطع نشيد "الأممية غد الأممية سيوحد البشر".
"عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية" هو مصر في صرخة.
في هذه اللحظة صرخت بأعلى صوتي من خلف إحسان، "عيش حرية عدالة اجتماعية" وسط هتاف الجماهير التي انضمت لنا، وكانت كرة الثلج تتدحرج بشكل لم نتوقع أن نرسم له تفصيلاً أو خطة، وانهارت كل اجتماعاتنا في أروقة وغرف الأحزاب سراً، الشعب من خلفنا الآن يهتف.
كنا ننظر إلى بعضنا البعض وسط الجماهير بدهشة وصدمة، احتضنت الخرشوفي ونحن نصرخ بالهتاف والضحكات معاً.
وكأننا حصلنا على انتصار مفاجئ دون تخطيط أو حسبان.
كان أغلبنا نحن العشرين فرداً الذين بدأوا المسيرة في وضع المتابع، فقد أخذ الجمهور بعدها زمام المبادرة وأخذوا الهتاف من حناجرنا إلى عروقهم المشدودة ووجوههم التي غَطت في الحمرة من أثر الهتاف والصراخ: "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية".
احتضنت النديم وكنا نقفز لأعلى بين كل متر ومتر مرتين أو ثلاثة لنتابع تزايد الأعداد في الخلف.
من عاش قلق الثورة وما قبلها من المؤكد قد قفز هذه القفزة في مسيرة ما في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، إنها قفزة أبوية لتائقٍ يطمئن على صحة أبنائه في مسيرة حياتهم، قفزة لقياس مدى الأمان، لتحديد مستوى صوت الهتاف، لتحديد مكان المسيرة وخط سيرها.
قفزة لتسجيل الانتصار في الذاكرة، لتجرع دفعات من السعادة والقوة من عيون الغاضبين وهتاف الراكضين في رَحِم المظاهرة.
قفزة تُسرب الحب في عيون الحضور، قفزة غيرة للاطمئنان من تحرش نظرات الأمن بفلول اللاحقين بالمظاهرة.
كنت أقفز لأعلى بشكل متتالٍ وأرفع رقبتي لأكبر قدر ممكن لكي أتمكن من إحصاء تقريبي للمشاركين، كانت عروق رقبتي تتمدد وتكاد تنفجر وتنساب من رقبتي من شدة ضغطي؛ لكي أرفع رأسي لأعلى قدرٍ ممكن كي أتفحص العدد والحضور بنظرة كاملة.
وأصرخ وسط الهتاف للنديم: "ألف يا نديم.. ألف يا إحسان.. ألف يا خربوش".
كان رقم ألف بالنسبة لنا نحن الذين أمضينا قرابة ثلاث سنوات ونحن لا نتخطى العشرين أو الخمسة والعشرين محتجاً أو متضامناً وفاعلاً في الحركة السياسية رقماً مبهراً وتغييراً جذرياً في مشهد الحراك السياسي في مدينة كالمنصورة.
كنا نمر جوار سور شريط القطار، والهتاف بلغ أشده، والشعارات حاضرة في قلوب الجماهير وكأنها كانت تنتظر لحظة الخروج والانطلاق.
وكأن الجميع كان مدرباً على هذه الشعارات والهتافات والثورة من قبل، لم نكن نحن فقط إذاً من لدينا خبرة سياسية في الوقفات الاحتجاجية وغيرها من الفعاليات، كانت الثورة حاضرة داخل رُوح الشعب، وكنا نحن فقط من شدَّ الفتيل.
كان الجميع على الأغلب للمرة الأولى يلتقون في مثل هذا التجمع، وكنا نحن النشطاء نلتقي لأول مرة مع هؤلاء المتظاهرين والمحتجين في المنصورة، لكن وجوهنا كانت جميعها مألوفة لبعضها البعض، كانت ابتساماتنا لبعضنا البعض بناء على سابق وِد، مشاعر، إحساس بالغضب والرغبة في الهتاف.
كنا مع الثورة في أحلامنا، خيالاتنا، أفكارنا، أسرتنا في المساء، تأففنا في ساعات العمل، إحباطنا ساعة استلام الرواتب، بلاهتنا أمام نتيجة الجامعة المعلقة على الجدران لنلتقي فجأة في الثلاثاء بالخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني.
سأظل أكتب كل عام تفاصيل هذا اليوم الثوري الذي أبهرنا وأبهر العالم كله، سنظل نتذكر ونتذكر حتى يتجمع هذا الجمع مرة ثانية لنكمل ما بدأناه ونهتف مجدداً: "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.