ترى الفيلسوفة والباحثة السياسية حنة آردنت أن الحصول على الثورة سهل، بينما الاحتفاظ بها صعب، نفس الكلام صاغه من قبل تروتسكي مؤسس الجيش الأحمر السوفييتي، والحقيقة أن ما شهدناه بأعيننا وقرأنا عنه يثبت هذا الكلام، وكل ما حدث بعد 25 من يناير/كانون الثاني يدعم هذا الرأي.
ظن المصريون أن الزمن تغيَّر وأن ما قيل في القرن العشرين لا يعني قرننا هذا، ولنكن صريحين، ولنقل إننا جميعاً خُدعنا، جميعنا، ما عدا شخصاً واحداً "حازم صلاح أبوإسماعيل" وحده من ظلَّ يصرخ: "إن الثورة لم تنجح بعد".
نعم لم تنجح، ففي يوم 30 يونيو/حزيران من عام 2013، انقلب العسكر بقيادة وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي على الرئيس المنتخب محمد مرسي.
في ذكرى ثورة 25 يناير، نسترجع بعض الأحداث المهمة، ونطرح أسئلة ثلاثة، ونستنطق الماضي بحثاً عن الحقيقة والأجوبة الشافية، رغم أننا ندرك أن كل الإجابات لم يعد بإمكانها إنقاذ الوضع، ولكن وكما يقال "من الأخطاء نتعلم"، فبطرحها -لربما- نقدم دروساً للأجيال القادمة.
جماعة الإخوان وحازم صلاح أبو إسماعيل
حسب تقرير نشر للجماعة، تم اجتماع مجلس شورى الجماعة في 10 شباط/فبراير 2011 في مقر نواب الجماعة في منطقة جسر السويس بشرق القاهرة، واتخاذ قرار بعدم الترشح في الانتخابات الرئاسية ثم التأكيد عليه في مجلس الشورى العام المنعقد بتاريخ 29 – 30 نيسان/أبريل 2011 بأننا لن نرشح أحداً لرئاسة الجمهورية، ولن نؤيد أحداً من الإخوان إذا رشح نفسه.
بدا للوهلة الأولى أن الإخوان في مصر لن يدخلوا السباق الانتخابي، ليكتفوا بدعم مرشح معين تحدده القيادات بعد دراسة لمشروعه.
وظن الجميع أن الاختيار سيقع على الدكتور "حازم صلاح أبوإسماعيل" لعدة أسباب من بينها توافق الرؤية بين الاثنين فكلاهما ذو بعد إسلامي، وحازم صلاح معروف بمعارضته للحكم العسكري شأنه شأنه الإخوان، إلا أن غير المتوقع حدث، فقدم الإخوان مرشحهم الانتخابي "خيرت الشاطر"، لكن كمستقل، وبعد ذلك تداركت الوضع القانوني ورشحت الدكتور محمد مرسي كممثل لحزب "الحرية والعدالة"، فكأن أن حدث ما كان متوقعاً فتسلَّم محمد مرسي زمام الأمر، وخاض الإخوان الانتخابات واكتسحوها، ودانت لهم مصر، ولكن ما لم يفكر فيه الإخوان حدث، والثورة كانت أعنف من أن تقف أمامها أفكار الجماعة، فتشجع السيسي وزير الدفاع الذي رقاه مرسي بنفسه، بعد أن خدعه بحيله الإيمانية، إذ أكد كثيرون أن وقوع الاختيار على السيسي كان لتقواه وورعه، ومرسي نفسه تحدث عنه أمام المقربين منه ووصفه بالتقي، ولهذا أغلق آذانه وآذان الجماعة عن تحذيرات الكل، وعلى رأسهم حازم صلاح أبوإسماعيل.
السؤال الأول
لما (حسمت) الثورة في مصر، ظهر المفكر الدكتور حازم صلاح أبوإسماعيل كمرشح للرئاسة في مصر، واستقبل الشباب بصدر رحب وابتسامته المعهودة، وهدوء يشي بذكاء متوقد، وظن البعض أن الانتخابات المصرية ستنتهي بفوز الرجل لا محالة، فبماضٍ سياسي مهم، إذ عمل مع والده في مجال السياسة وأشرف على حملاته الانتخابية كما كان له تجربة سياسية سنتَي 1995 و2005، ففي هذه السنة فاز بالصناديق على الوزيرة آمال عثمان في انتخابات مجلس الشعب، وخسر بالتزوير كما هو معروف.
شكَّل الشيخ صدمة للكل، وخاصة بعد أن جمع أكثر من 150 ألف توكيل، وهو العدد الأكبر في سباق الانتخابات، ولمّا أرادت القوى المتحكمة إحراجه وإزالة المهابة عنه باستدراجه لمقابلات مباشرة مع (مفكرين) و(خبراء) حدث العكس، فقد زادت شعبيته أكثر فأكثر، وبدا وكأنه الحاكم الشرعي لمصر وأن الانتخابات محسومة لصالحه وهذا باعتراف الكل، وهذا الذي لم يعجب المجلس العسكري والقوى الخارجية، خاصة أن الدكتور حازم أبدى موقفاً واضحاً من التدخلات الأجنبية، وألحَّ على ضرورة بناء دولة مصرية قوية تستنكف عن الخارج، فكان مخطط الإطاحة جاهزاً، ولكن لأي سبب؟
لم يكن أمام مسيِّري الثورة المضادة من حل آخر سوى الاعتماد على أحد بنود الترشح للانتخابات، والذي ينص على ضرورة وجود مرشح من أبوين مصريين، وكان هذا متحققاً في حازم أبوإسماعيل، ولكن شاءت القوى المضادة أن تجعل أم الدكتور أمريكية الجنسية، رغم انعدام دليل على ذلك، وحتى مع حكم قضائي يسقط هذه التهمة، فإن لم يكن ليحسم بالقضاء، ولو كان للقضاء كلمة لما وصلت مصر لما وصلت إليه اليوم. فكان أن أسقط الرجل من الانتخابات.
حتى بعد أن خرج من مضمار الانتخابات الرئاسية بقي الدكتور حازم متابعاً وفاعلاً في الأحداث السياسة، ورأينا جميعاً كيف كان ينصح القيادة المصرية ويحذرها مراراً وتكراراً، ولا يمل من ذلك، وكم هي المرات التي تحدث فيها عن نوايا العسكر في الانقلاب، وعن تحركاتهم الخفية، والتي لم ينتبه لها الإخوان ولم يعِرها الرئيس أي اهتمام ولا طلب من الشيخ حازم أن يكون مستشاراً له ولو في الخفاء، والرجل يستحق المنصب ونحن اليوم متأكدون من ذلك.
لهذا نتساءل: لِمَ لَمْ تتحالف جماعة الإخوان المسلمين مع الشيخ حازم صلاح أبوإسماعيل؟
السؤال الثاني
هل يجادل عاقل في كون الناس اليوم تقاد بريموت كنترول، وبأن مشاعرها تساير هوى الإعلام، فإن بكى بكت، وإن ضحك ضحكت وسرت وأبدت غبطتها، وما قاله الإعلام قالت، ومن أحبهم أحبته، ومن ذكرهم بخير ذكرته بخير.
يقول الصحفي الأمريكي جون بلجر في كتابه "الحرية في المرة القادمة": "… قتل اثنان وستون شخصاً بصاروخ أمريكي انفجر في منطقة الشولة من بغداد. في ذلك المساء، قام برنامج أخبار الليل (نيوز نايت) في محطة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بتخصيص خمس وأربعين ثانية للمجزرة، أقل من ثانية لكل وفاة، وفي لندن قتل العدد نفسه تقريباً وتلقى ذلك الانفجار التغطية التي جعلتنا بين عشية وضحاها عارفين معرفة حميمة بحياة الضحايا…".
الحرية إذن جاءت بعد ثورة شعبية أطاحت بحكم استبدادي دام لحوالي ثلاثين سنة، لذلك كان لزاماً على الثورة وقادتها أن تعير الإعلام الاهتمام البالغ، بل كان من الأولى أن تنصب عليه قيادات من داخلها تراقبه وتحكم سيطرتها على ما ينشره، ولو فرض الأمر استعمال القوة والترهيب فالمرحلة الأولى كانت في حاجة ماسة لهذا الترهيب أكثر من حاجتها للطيبة الزائدة والسذاجة، التي للأسف تميّزت بها القيادة المصرية، والتي بسببها حدث ما حدث، ووصلت الأمور إلى ما وصلت إليه اليوم.
في فترة حكم الدكتور مرسي رحمه الله، عملت دائرة الإعلام المعارض للإخوان بشكل لافت، بل وفاضح، وتنافس الإعلاميون على إهانة الرئيس والسخرية منه، الأمر الذي استنكره كل عاقل، وحذر منه كل لبيب، وأدركه كل متابع ما عدا الرئاسة، فقد ظنت أنها بهذا تُثبت انتهاجها لسياسة الانفتاح على النقد، وتُؤسس لدولة الحرية، ونسيت أن للحرية حدوداً، وتغافلت عن كون زمرة من الإعلاميين هم على دين مبارك، واعتقد مرسي أن مصر هي أمريكا التي عاش فيها ودرَّس فيها، فلم يستطع أن يكبح جماح الإعلام ولا لَيّ ذراعه، بل على العكس، قام الإعلام بإسقاط هيبة الرئيس شيئاً فشيئاً، حتى بات الكل يرى فيه شخصاً ضعيفاً بعد أن أبان أول الأمر عن شجاعته وإقدامه، وبهذا دقّ الإعلام مسماراً آخر في نعش الثورة المصرية.
يقول مايلر كُويلاند في كتابه "لعبة الأمم": "يجب أن تستحوذ مسألة الدعاية المضادة -التي تقوم القوى المعارضة ببثها- على اهتمام خاص، بسبب ما يمكن أن تثيره من مشاكل، فعلى حكومة الثورة أن تكون مستعدة لفرض الرقابة على الصحافة حال إحساسها بضرورة ذلك، يمكن تحقيق ذلك عن طريق التهديد بتنفيذ بعض الأنظمة المتعلقة بإثارة الشغب وتهديد الأمن…"
إذا توفقنا مع آخر جملة نجد أن الرئاسة المصرية لم تتعامل بالجدية اللازمة مع ملف الإعلام، وتركت الكلام يخرج على عواهنه، مع إدراكها -ربما لم تدرك- بقوته التدميرية، وعكسها تماماً فَعَل النظام الانقلابي، فبمجرد وصوله للسلطة ومن أول يوم أدار الإعلام كما ينبغي، ووضع يده على كل شبر من مدينة الإعلام، وطرد من رأى فيهم تهديداً لمصالحه، وعلى رأس هؤلاء "باسم يوسف" الذي رأيناه أيام مرسي كثوري وناقد سياسي يحمل هموم الشارع، فلما جدّ الجِد وانقلب المنقلبون خنع وطوى صفحة الماضي، وانسحب بعد أن أدى الدور الذي صنع له.
لهذا نتساءل: لِمَ تركت الرئاسةُ الإعلام يصول ويجول دون رادع يردعه؟
السؤال الثالث
استطاع الإعلام أن يروّج لفكرة "ضعف الرئيس"، فصدَّقها معظم الناس، وكنت ممن صدقها أول الأمر، ولكني بعد تحقق وبحث مستفيضين خلصتُ إلى أن الرئيس مرسي كان شجاعاً لأقصى درجة، بل شجاعته تجاوزت كل مَن حكموا مصر، ولا يُقارن بعبدالناصر، لأن بين الشجاعة والتهور فاصلاً لا يكاد يُرى بالعين المجردة، تُبصره تليسكوبات المتخصصين، فالرئيس مرسي رحمه الله، وإن كان وصوله للرئاسة مفاجأة غير متوقعة، وإن كنا قد راهنا على وصول الدكتور حازم أبو إسماعيل، وتأسفنا على خروجه كما أسلفنا الذكر، إلا أن الصورة التي ظهر بها، والقدرة التي بها وجّه خطابه للملايين، والصبر الذي التزم به، والحكمة التي بها لم يُرد أن يمضي حيث يريد المتربصون، ففضل أن يترك الأمور تسير في مناخها العادي، دون أن تدخل البلاد في حرب أهلية يأكل فيها الأخ أخاه، كل هذا وأكثر أظهر لنا معدن الرئيس، وألزمنا نحن المعارضين أن نقف احتراماً له، وأن نتراجع عن كلام قلناه في حقه، ونتأسف على رجل أراد لأمته الخير وأراد لبلاده الخير، شخص وثق في جيشه أيما ثقة، وأحب شعبه دون تمييز، وقرر أن يضمن مستقبل أبناء مصر، ببناء وطن قوي يحتضن الكل، ولهذا وافق مرغماً على مستشارين لا يرغب فيهم، ولهذا حين اشتمّ رائحة الغدر من وزير دفاعه، وحين طالبه أوباما بوضع عمرو موسى أو البرادعي، أحباء أمريكا، رفض ذلك، نعم رفض أن ينقلب على أصوات الشعب الذي وثق به، ولو أنه يدرك أن ذلك يعني رأسه.
لسنا نبالغ إن قلنا إن مرسي وحازم أبو إسماعيل، وحتى عبدالمنعم أبو الفتوح المنشق عن جماعة الإخوان، حين رشحوا أنفسهم كانوا مدركين أن الأمر قد ينتهي بموتهم كما حدث مع الرئيس الجزائري "محمد بوضياف"، الذي قُتل من طرف حارسه الشخصي.
لهذا نتساءل: لماذا ظلَّ الرئيس صامتاً حين أدرك أن المجلس العسكري يحيك له وللثورة مؤامرة؟
نهاية لا بد منها
خوف الدكتور محمد مرسي من تشتت الصف المصري، و شبح سيناريو سوريا الذي ظل يطارده حتى آخر يوم، بالإضافة إلى تخلي المصريين عن الثورة المستمرة التي صاغها الدكتور حازم أبو إسماعيل، أمور أسهمت في إجهاض الثورة المصرية.
لكن مقتل الدكتور مرسي، وسجن الشيخ حازم، وانتكاسة باسم يوسف وإعلام الأجرة، وظلم العسكر وسياستهم الرامية لتجويع المصريين، كلها أمور أيقظت المصري وجعلته أكثر وعياً عن ذي قبل، مستعداً للمستقبل، ولو ظهر أنه خائف، منتظراً الفرصة لتعويض خسارته، ورد الصاع صاعين لمن صفع وجه ثورته المجيدة. وأمله في فكرة أساسية سُطّرت قبل قرون، مفادها "أن الثورة لا تنتهي"، فالثورة المصرية لم تنتهِ بعد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.