في زيارة مع بعض الزملاء لقاهرة المعز، ألقى بي حظي العاثر على كرسي مهترئ في ميكروباص هو أقرب للتابوت منه لوسيلة المواصلات، تشبه مقاعده حطام القطارات، ويكاد محركه يصرخ ألماً ليقول: "أنا تعبت. كفاية كده. هلكتوني!".
قلت لنفسي: سيمر الوقت سريعاً وسأنسى وخز المقعد الحديدي وأنا أتأمل لافتات الإعلانات العملاقة المنمقة بلغات عدة، التي تفوح منها رائحة الطبقية؛ لدعوتها الناس للاشتراك في النوادي الفخمة واشتراء الشقق السكنية في كمباوندات تشبه القرى السياحية المنعزلة والمعزولة عن محيطها القومي والثقافي. لكن (تامر)، ذلك المذيع الشاب على إحدى المحطات الإذاعية، لم يترك لي الفرصة لذلك التأمل.
يعتمد برنامج "تامر" على طرح موضوع والاستماع لمشاركات المستمعين عبر الهاتف، أي أنه برنامج جماهيري ويمكن استغلاله بشكل جيد لحل مشكلات متنوعة في أماكن مختلفة لو أُحسن استغلاله، وذلك لقدرة الإذاعة – بوصفها كيان إعلامي كبير – على التواصل مع المسؤولين ومطالبتهم بل والضغط عليهم لحل إحدى المشكلات أو أكثر.
ويمكن كذلك استخدام البرنامج في التوعية الحقيقية بمشكلات كبيرة تناسب الحدث مثل الوقاية من فيروس كورونا، أو أهمية تناول الأغذية الصحية، أو مخاطر التدخين، أو مخاطر استخدام الأطفال للأجهزة الإلكترونية لوقت طويل، أو كيفية التعامل مع الطفل في طور المراهقة، أو كيفية التعامل مع الأطفال ممن يعانون من صعوبات تعلم أو ممن يجدون مشقة في التعبير عن مشاعرهم، إلخ. الموضوعات لا حصر لها، لكن "تامر" وزملاءه من معدي البرنامج اختاروا موضوعاً تافهاً، ألا وهو: ماذا تفعل لو كانت زوجتك أطول منك؟!
طول القامة وقصر النظر
توالت المكالمات بينما أنا وزملائي بين مطرقة الكراسي الحديدية وازدحام المواصلات وعوادم السيارات والخوف من انتقال العدوى وسندان "تامر" وسخافة تعليقاته وسفاهة شكوى مشاركيه، كما ظهرت في قول إحداهن: "لا يمكن أن أتزوج شخصاً أقصر مني حتى وإن كان طيباً أو ناجحاً. لا يمكن". وقال آخر: "بصراحة، أشعر بحرج كبير عندما أمشي بجوار زوجتي لأنها أطول مني، وأتجنب أن أظهر معها في أي مناسبة أمام الناس". أما القول الفصل فقد جاء من إحدى المشاركات، حيث قالت: "يجب أن يختار الشابُ زوجةً أقصر منه، ويجب ألا تتزوج الفتاةُ إلا من شخص أطول منها". هكذا، وبكل بساطة، أُلغيَت كل الأعراف والمبادئ الدينية والأخلاقية في اختيار شريك العمر، وحل محلها شرط واحد، وهو طول قامة الرجل على المرأة.
ربما قصد المشاركون بأن هذا الشرط شرط إضافي لشروط أخرى مثل حُسن الخلق وامتهان وظيفة وقدرة مالية وجسدية تؤهل للزواج، لكنهم قصدوا كذلك بأن طول أو قصر القامة قد ينفي كل هذه المعايير حتى وإن تحققت؛ ما يعني أن طول القامة أهم من الأخلاق الحميدة ومستوى التعليم وقدرة الرجل على الإعالة.. إلخ.
جاءت تعليقات "تامر" ومشاركات مستمعيه كسهم أصاب آذاننا – أنا وزملائي – لأننا لم نصدق أن مستوى الوعي قد وصل لهذه الدرجة حتى وإن كان المشاركون لا يمثلون عينة كبيرة أو قطاعاً عريضاً من الشعب، وبدأنا نعلق بدورنا على دور الإذاعة في بناء الإنسان والارتقاء بالذوق العام.
لم تطل مناقشتنا حتى أذاع "تامر" فواصل غنائية سماها "شعبيات"، وهي أغاني لا تهدف لشيء إلا للا شيء، كلمات غامضة مبتورة السياق مليئة بألفاظ هابطة، ومزيكا (ولا أقول "موسيقى") مزعجة تؤذي السمع. جاءت هذه الأغاني الهابطة ملائمة للآراء الهابطة (مع كامل احترامي لأصحابها) على الإذاعة التي لم أظن أنها هبطت لهذا المستوى.
متى نعود؟
في يوم من الأيام ليس ببعيد، كانت الإذاعة تشكل رأي عام قوي وتوجهه نحو هدف قومي رفيع (مثل: الوحدة العربية، وتشجيع الاقتصاد المصري) وتنمي الذوق الرفيع والحس المرهف، فهل نعود لذلك على الأقل؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.