السلاح في مواجهة الربيع.. كيف تتأجَّج الممارسات القمعية بحق المتظاهرين السلميين؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/01/23 الساعة 13:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/01/23 الساعة 15:44 بتوقيت غرينتش
الشرطة المصرية ألقت القبض على رجل الأعمال محمد الأمين/منصات التواصل

الخشونة والميل نحو العدوانية سمتان ملازمتان لكل من يحمل السلاح في مواجهة العزل من عامة الناس، وتتفاقم تلك النزعة إن حظي صاحبه بشرعية كالتي تملكها الأجهزة الأمنية والعسكرية في الدولة الحديثة. فقد كان أشد عنف مورس على مر العصور هو عنف الدولة حين تقرر أن تصادم الشعب وتوجهاته وتتنكر لاحتياجاته ولحقوقه المشروعة، فتسحقه وتذله، مستثمرة احتكارها لوسائل القهر والإكراه، معتمدة على خطاب إقصائي يخرج كل من رفض ممارساتها من ملة "الوطنية" التي تفصل تفصيلاً على هوى مصالح المتحكمين فيها.

تلك قاعدة عامة أكدها الماضي المرير المشترك لمختلف الأمم، ولولا حركة الشعوب وتدافعها ما تم كبح جماح عنف السلطة ومنعها من أن تنفرط من عقالها، فبمقدار حيوية الجماهير وقوة نضالاتها بمقدار ما تتمكن من تحصين إرادتها داخل المؤسسات التي تؤمن الحماية لها من جهاز السلطة العنيف. وهذا حال الأمم التي تمكَّنت بيقظة شعوبها من تقليص عدوان السلطة وحشره في أضيق نطاق، ومع ذلك فإن تلك الميول العدوانية لا تختفي تماماً، حيث تستهدف الشرائح والفئات الهشة من الأقليات أو من المهاجرين، فتلجأ إلى تفريغ كبتها السلطوي في وجههم مثلما حدث مع جورج فلويد في أمريكا وقبله أداما تراوري في فرنسا أو مع السادية التي أظهرتها مؤخراً صور الاعتداء الوحشي على ميشال زيلكر من طرف عناصر من الشرطة الفرنسية.

السلاح في مواجهة الربيع


لسنا أمام ممارسات شاذة بدليل تسامح السلطات معها ومحاولة التستر عليها كما ظهر في قرار الدولة الفرنسية في سابقة من نوعها حظر تصوير رجال الأمن، وذلك حفظاً للمجال المخفي من اعتداءاتها على جزء من مكونات الشعب الفرنسي. ثم إن شعارات الحقوق والحريات في بلاد الحريات تتبخر كلما أحست دوائر النفوذ الكبرى بتهديد مصالحها فتتنكر لتعاقدها مع مجمل الشعب مثلما حصل في الحقبة الماكارثية سيئة الذكر في الستينات وفي قمع شارل ديغول لمظاهرات الطلبة في نفس الفترة، وما يجري من استهداف للاحتجاجات الاجتماعية في بلاد حقوق الإنسان يمضي في هذا الاتجاه، غير أن كل هذا يخلق ردة فعل قوية ومقاومة شرسة تعزز رفض تلك الشعوب للإخضاع وللخصم من حقوقها. 

على أن الحال في الأنظمة الاستبدادية يبقى أسوأ ألف مرة من تلك النماذج الغربية، فلئن ألجمت المجتمعات الحرة السلطة وحصرت تجاوزاتها في انفلاتات هنا وهناك، وأعادت مقاومتها الأمور إلى نصابها، فإن السلوك المجتمعي في البلدان التي لم تقطع مع عبودية حكامها والخضوع لأعوانهم هو على النقيض تماماً من سابقه، فهو يغذي ويرسخ تغول الأجهزة السلطوية ويعطيها شيكاً على بياض، فيطلق يدها لكي تعيث إفساداً وإرهاباً للناس واهباً للمجرمين المتدثرين بلباس السلطة الرسمي الحصانة التي تشجعهم على تعميق ممارساتهم. 

وقد رأينا جانباً من ذلك في بلداننا على الأقل منذ أحداث الربيع العربي من خلال حفلات الإرهاب البشعة التي ارتكبت بحق الجماهير الثائرة مقابل حالة من التبرير الغريبة التي تجاوزت الخوف من الأجهزة القمعية وتلافي غضبها وانتقامها، إلى الاجتهاد المبالغ فيه من طرف بعض القطاعات لدعم الممارسات السلطوية التي لم تكن مضطرة إلى مدها بجرعات التملق الكثيفة والتي فكت العزلة عن نهجها القمعي وأعطتها مسوغاً لسحق كل مخالف لها، والنتيجة هي إفشال محاولات التحرر المتواصلة. 

ثمة من يعاني من فوبيا الاحتجاجات ولا يستطيع حتى وهو يقر بكارثية الأوضاع التي يعيش فيها أن يرفع رأسه أمام ظلامه، فضلاً عن أن يصرخ في وجوههم، ذلك لأنه يعتبر هذا قلة أدب وتطاولاً إن صدر من غيره، أما هو فتستولي عليه الرهبة من تلك الأجهزة المؤذية جراء ما خلَّفته قرون من التبعية لها على اللاوعي المجتمعي، لذلك فهو يعارض كل محتج كيفما كانت طبيعة مطالبه. والأنكى أنه لا يكتفي بعدم الاتفاق مع المحتجين وعدم مساندتهم إلى مصادرة حقهم من الأساس في الدفاع عن مطالبهم والتحريض عليهم متشفياً بما يلحقهم من أذى والذي قد يعرض سلامتهم الجسدية وربما حياتهم للخطر.

معارض أم معالج نفسي؟


المثير أن هالة تلك الأجهزة العنيفة تصيب أيضاً من يتعرض لقمعها ممن يفترض بأنهم متخلصون من سطوتها من قطاع من معارضيها، حيث تضعفهم بعض ممارساتهم من حيث يتصورون أنها تخدم موقفهم، فلا يستطيعون التخلص من النبرة الاعتذارية تجاه الدولة ومؤسساتها حتى وهم يحتجون عليها. ففضلاً عن نسبة إجرام المستبدين للمجهول أو لكيانات هلامية (الدولة العميقة، المخزن …) فإنهم يبالغون في تبرير تموقعهم كأنهم مذنبون، فيظنون أنهم بذلك يستدرون عطف النظام ويستقطبون أنصاره، لدرجة أنهم يسارعون إلى التماس الأعذار لمن يشج رؤوسهم ويكسر عظامهم تحت مبرر انعدام الحيلة أمام من يتلقون الأوامر من الأعلى أو بسبب غسيل المخ الذي يتعرضون له أو بسبب تعاطيهم لحبوب الهلوسة وما إلى ذلك من المبررات غير المعقولة. ومنهم من يوزع الورود عليهم ويبالغ في التودد لهم، والمستفز أن هناك من يقرر أن المعركة ليست معهم ثم ما يلبث أن يقرر أنها ليست أيضاً مع رؤسائهم المباشرين وليست حتى مع رأس النظام. فإن لم تكن المعركة مع كل هؤلاء فمع من هي إذاً؟ 

المعارض ليس مضطراً لتفهم أحقاد الظالمين وتفسير دوافعهم، ولا داعي لأن ينصب نفسه معالجاً نفسياً لعاهات السلطويين خصوصاً أن نتائج ذلك تكون عكسية، فالممارسات السلطوية تتفاقم بل تتضخم وما يُعْتَقَدُ أنه سيؤدي إلى التخفيف من تعنت تلك الكيانات العنيفة لا يقود عملياً إلا إلى التخفيف من لهجة المحتجين وتمييع معركتهم ضد الفساد والاستبداد، لأن الكائن السلطوي المسكون بروح المغالبة لا يستطيع أن يفهم من سلوك المعارضة هذا إلا أنه انهزام لها. 

وحدها اليقظة المجتمعية الدائمة الكفيلة بلجم السعار السلطوي وفرض الرقابة عليه مثلما حدث ويحدث في الدول التي تحترم إرادة شعوبها. هذا هو المدخل الذي يجب البناء عليه من طرف كل من يهتم بالتغيير حقاً.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أنس السبطي
كاتب رأي مغربي
كاتب رأي مغربي
تحميل المزيد