هل يُمكن التعافي من تجربة فقدان طفل؟ وهل هناك شيء بهذا الاسم حقاً؟ هل يُمكن التعافي من هذه التجربة المريرة، التي تفعل بالقلب مالا تفعله أي تجربة حياتية أخرى؟
وهل هناك إذا جاز ذلك طريق واحد للتعافي منها؟ أم أنّ لكلٍّ منّا طريقته الخاصة؟
دارت بعقلي كل هذه الأسئلة، حينما انتهيت من مُشاهدة الفيلم المعروض حديثاً على شبكة نتفلكس، Pieces of a Woman. هذا الفيلم الواقعي العميق، العاطفي والمؤلم، الهادئ هدوء ما بعد العواصف، أثار بداخلي الكثير من الأفكار، عن معنى الألم، وعن كيفية ما يراه كل منّا في محوه، أو بشكلٍ أدق في إسكاته.
قبل أن تُشاهد الفيلم
تتكرر عبارة "هذا الفيلم لا يصلح لجميع المُشاهدين" كثيراً، وأحياناً ما يكون هدف هذه العبارة هو إثارة الغموض لدى المُشاهد، كي يدفعه لمشاهدة الفيلم رغم هذا التحذير، إلا أنّي أرى فعلاً أنّ فيلم Pieces of a Woman لا يصلح لقطاع لا بأس به من المشاهدين، منهم الأمهات اللاتي فقدن أطفالهنّ في أي مرحلة من العمر، لا يصلح للزوجات اللاتي عانين من إجهاضٍ أو حملٍ أو ولادة صعبة، لا يصلح لضعاف القلوب عامة، وفي رأيي أنّه لا يصلح لمعظم الرجال، فقلة قليلة منهم من سيتحمل مشاهدة فيلم أول 25 دقيقة تقريباً منه عبارة عن مشهد لأم تمر بمخاضٍ مؤلم، ثم ولادة، لا تكتمل فيها السعادة إلا لدقائق معدودة.
لذا وجب علىّ أن أقول إنّ هذا الفيلم مُوجع، وغير رحيم لكل من مرّ بتجربة مماثلة، وهو مُخيف لكل زوجة ترغب في الحمل، ولكل أم على وشك أن تضع مولودها، لأنّه في النّهاية يُجسّد الخوف الأعظم لكلٍّ منهم، وهو الفقد، فلا أعتقد أنّ هناك ألماً في الحياة، أشدّ من ألم الفقد.
بداية قوية و 22 دقيقة من التوتر
يبدأ الفيلم بداية صعبة حقاً، أشبه بالعاصفة، التي تشتدّ تدريجياً بشكلٍ موتّرٍ للأعصاب، وذلك في ثُلث الفيلم الأول تقريباً، ثم تهدأ الأمور هدوءاً لا يحمل معه أية راحة للأسف.
لا يُمكن لأحدٍ ممّن شاهد مشهد الولادة الذي امتدّ لحوالي 22 دقيقة أن ينساه، خاصة حينما يعلم أنّ هذا المشهد تم تصويره بتقنية الـOne shot بالكامل، وهو ما يعني أنّه تم تصويره كلقطة واحدة، بالفعل كما ظهر على الشاشة، ولم يتم اقتطاعه كعادة المشاهد الطويلة، رغم أنّه تم التنقّل فيه بين ثلاث غرف، غرفة النوم، والمعيشة، والحمّام، ومُتتبّعاً لثلاثة أشخاص، يتحركون باستمرارٍ.
كان هدف المخرج ومدير التصوير من أن يصدر مشهد الولادة بهذا الشكل وبدون أي قطع أن يجعل المشاهد في وضعٍ عالٍ من التركيز، بحث لا يُمكنه أن يُدير رأسه بعيداً عن الشاشة، وهو الشيء الذي حدث مع أغلب من شاهدوا الفيلم فعلاً.
في ذلك المشهد الصعب، ظهرت مارثا، الزوجة التي في حالة ولادة، وزوجها شون، والطبيبة إيفا، التي تقوم بعملية التوليد في المنزل حسب رغبة الزوجين. هذا المشهد بالنسبة لي يُمكن تصنيفه كمشهدٍ ينتمي لأفلام الرعب النفسي بجدارة، فهو ينقل للمُشاهد فوراً مشاعر القلق، والخوف، والتحفّز، تاركاً مع نهايته، بوصول سيارة الإسعاف بصوتها المُقبض، أملاً خافتاً، إلّا أنّ هذا الأمل الكاذب سينقلب للأسف بعدها بدقيقة واحدة إلى فراغٍ هائل الحجم، اسمه الفزع.
ما بعد العاصفة.. الهدوء المُميت
ما الذي يحدث بعد مرور العاصفة؟ الهدوء.. الكثير منه فعلاً، ولكن ذلك الهدوء كان ثمنه خسارات كبيرة، لا يُمكن تعويضها. الكثير من الأشياء المحطمة، والمباني المتهدّمة، والأشجار المكسورة، وغيرها من الخسائر التي سيتكلف إصلاحها جهداً ووقتاً وتكلفةً.
هكذا كانت العاصفة التي مرّت بالزوجين شون ومارثا، عاصفة أخذت في طريقها كل مظاهر السعادة، الانسجام الذي كان يجمعهما، علاقة مارثا الطيبة بأمها، حتى إنّها حرمتها من الحديث كما كان سابقاً، صمتت مارثا طويلاً، رغم محاولات شون التي بدأت بداية طيبة، وانتهت بنهاية عنيفة، حينما ضربها شون في أحد الأيام التي نفد صبره فيها، بكُرة اليوجا العملاقة في وجهها.
لا أعرف هل يحمل الفيلم رسالة سرية ما لكل امرأة، مفادها أنّ ذلك الألم الذي مرت به مارثا هو في النهاية ألم المرأة فقط؟ بمعنى أنّ طبيعة الرجل تقوده لأن يحزن قليلاً، ولكنه يُحاول أن يستعيد حياته سريعاً، وإذا منعته زوجته من ذلك، أو ذكّرته في كل حين بفاجعتها، فهو لا يحتمل ذلك، فإما أن يخون، وإما أن يهرب، وهو ما فعله شون بالضبط، حينما قام بفعل الأمرين معاً.
فقد قام شون بخيانة مارثا فعلاً، ثم تركها للحزن ومضى، هذا الحزن الذي لم تظنّ مارثا أنّها يجب عليها أن تُواجهه بالطريقة التي تراها أمها، بمقاضاة الطبيبة، والمطالبة بتعويض، ولكنها في الوقت نفسه لم تكن تعرف كيف تقاوم ذلك الألم الذي لا يهدأ ولو للحظة.
بقايا مارثا، التي بدأت في الاكتمال من جديد
"بقايا امرأة" هو اسم الفيلم والمعُبّر عنه بشدة، وهو الشعور الذي قد تشعر به أي امرأة تعرضت لنفس التجربة.
لم تكن المشكلة الوحيدة في فقدان مارثا لطفلتها الوليدة، بل كانت هناك مشكلة أخرى، وهي أنّ الجميع ممن حول مارثا يدفعونها دفعاً لتقديم دعوى ضد الطبيبة، رغم رفضها لذلك.
بعض الناس يظنون أنّنا حينما يحدث لنا شيء سيئ يجب علينا أن نتهم شخصاً ما، أو شيئاً ما، يكون هو المسؤول عمّا حدث لنا. وأنّه إذا تمّت معاقبة ذلك الشخص، أو تدمير ذلك الشيء، فإنّنا حينها نحصل على السلام النفسي، وكأننا لن نتجاوز الألم إلا حينما نحصل على تعويضٍ ما، أو يُعاقب شخص ما، حتى ولو كنّا غير متأكدين من كونه مذنباً فعلاً.
"ربما كان هناك سبب لما حدث، ولكننا لن نجده في هذه الغرفة".
تعافت مارثا فعلاً، ولكن ليس بالشيء الذي اعتقده من حولها، تعافت مارثا بإنبات البذور، تعافت بالتأمل في صورة ابنتها التي التقطها زوجها لها فور الولادة، تعافت بعدم إلقاء اللوم على الطبيبة المسكينة التي كانت تُمثل كبش الفداء لوالدة مارثا وزوجها شون.
تعافت بمواجهة الألم، وبالشجاعة في الشهادة أمام المحكمة، بأنّ الطبيبة لم تتعمد أذية ابنتها.
آمنت مارثا بأن ابنتها لم تأتِ للعالم لهذه الدقائق المعدودة كي تؤذي شخصاً آخر بلا سبب.
آمنت بأنّه ربما لا يكون هناك سبب معروف لما حدث، ورضيت بأنّها لن تستطيع أن تعرفه، ربما على الإطلاق، وكان في كل ذلك تعافيها.
Pieces of a Woman.. القصة الحقيقية
ما قد يؤلم أكثر، أنّ كاتبة الفيلم، المجرية Kata Wéber، لم تكتب الفيلم من وحي خيالها، وإنّما هو مستوحى من قصة فقدها هي ذاتها لطفلها، والذي كان والده هو Kornél Mundruczó، مخرج الفيلم نفسه. ورغم أنّها ليست المشاركة الأولى بين الثنائي Wéber وMundruczó ككاتبة وكمخرج، إلا أنّ هذه التجربة الفريدة من نوعها جمعت بينهما كحبيبين فقدا طفلتهما، التي لم تكتب لها النّجاة للأسف.
وكان من بين ما ذكرته Wéber بخصوص هذا الحادث خلافها مع أمها حول فكرة التعافي من تجربة فقدان طفل، بالضبط كما ظهر في الفيلم.
في النهاية.. لا أتمنى لأيٍّ منّا أن يمر بتجربة الفقد، ليس فقط لألمها الشديد، وإنّما لأنّنا في الغالب لا نعرف كيفية تجاوز هذه المحنة بشكلٍ صحيح، ولأننا حينما نفقد طفلاً، كثيراً ما نفقد بعد هذه التجربة أشخاصاً آخرين على قيد الحياة، وهم في الغالب أقرب الأقربين.
حينما نفقد غالياً نتحول إلى بقايا إنسان، وليس هناك من ضامنٍ يضمن لنا أنّنا سنكتمل مرة أخرى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.