التنجيم والأبراج الفلكية.. خرافات علمٍ زائفٍ البشر بحاجة إليها

عربي بوست
تم النشر: 2021/01/21 الساعة 14:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/01/21 الساعة 14:21 بتوقيت غرينتش

لعمري لم أكن مؤمناً بفكرة الأبراج الفلكية، كنت أشاهد بذهول كيف أن صديقاتي كنّ أيام الجامعة يتهافتن على الصحف الورقية كل يوم لقراءة الأبراج في "الصفحة الأخيرة" بعد اطلاعهن على الأخبار السياسية بحكم تخصصنا في العلاقات الدولية، وكيف يسقطن ما يقرأنه من هذه الخرافات على الأحداث داخل الفصل وفي الاستراحة من نظرات هيامٍ وعشقٍ بهذا الشاب الأشقر وذاك الحنطيّ الأمرد، أو نفحات تفاؤل ونُذُر شؤم في هذا اليوم أو ذاك الامتحان!

حينما دخلت المعترك الصحفي، لاحقاً، زاد منسوب يقيني بسخافة الأبراج، خصوصاً بعد مشاهدتي بأم العين كيف كان "يُطبخ" هذا الطالع كل يوم في قسم المنوعات، وكيف تُحرّر الوصفات الجاهزة وتُرسل على وجه السرعة الى النشر: أماني الناس وجرعات آمالهم كانت بضع أوراق، محتواها يتكرر كل فترة ويُخلط عشوائياً وفقاً لأهواء المحرر وألاعيب الصُدَف، فمضمون برج الدلو اليوم قد يمسي بعد شهر أو شهرين قَدَراً محتوماً لمواليد برج الجوزاء، والحوت قد يتحول إلى مصير مرسوم بريشة القدر عند مواليد برج الميزان، والحمل يتحول بسحر ساحر إلى أسد! لم يكن حال الأبراج في الصحيفة التي كنت أعمل فيها أسوأ حالاً من أي صحيفة أخرى، فالصحف كلها كانت تتّبع الأسلوب نفسه.

هذه المشهدية أثارت في داخلي الحشرية لمعرفة سبب تعلّق الناس، إلى هذا الحد، بالأبراج على الرغم من زيفها ومعرفتهم هذا الأمر. خضت غمار البحث، وأول ما أُتيح لي معرفته بفعل المقارنة اللغوية هو ضرورة التمييز بين مصطلحي Astronomy الذي يختص بعلم الفلك (علم من Science) الذي يُعنى بدراسة الظواهر الفلكية من كواكب وأقمار ونجوم ومجرات، وهو علم صحيح يخضع لمناهج البحث العلمي، وآخر يدعى Astrology يشير إلى علم التنجيم والتبصير (علم من Knowledge) ولا يمت إلى العلوم بأي صلة، بل هو يُصنف علماً زائفاً أو Pseudoscience ينطوي على تصريحات واعتقادات وممارسات، يدعي قائلوها أنها علمية وحقيقية بلا أي دليل تجريبي، ومن دون أن تكون متطابقة مع أي نهج علمي، برغم ادعائهم التخصص في جامعات أجنبية مرموقة (المواد التي تُدرّس إن وُجدت فعلاً تتعلق بتاريخ هذه الظواهر من زوايا أنتروبولوجية حصراً). 

 والعلم الزائف يتسم بالتناقض والمبالغة في الادعاءات ويتميز خصوصاً باستحالة الدحض مثل علاج التحويل الجنسي الذي يُعرف بالإنجليزية بـ Conversion therapy أو الحاسة السادسة وتعرف بـ Extrasensory Perception، فهذه الأمثلة تعتمد على الانحياز التأكيدي، والانغلاق وعدم تقبل تقييم الخبراء في ظل غياب الممارسات المنهجية في تطوير النظريات المزعومة، إذ يتمسك بها معتنقوها حتى بعد مرور زمن طويل على فقدها لمصداقيتها بالتجربة والدليل، ولهذا ينظرون إلى مصطلح العلم الزائف على أنه ازدرائي لهم.

تاريخياً كان التنجيم ولا يزال مرتبطاً وبحركة الكواكب، وهو ينطلق من اعتبار كوكب الأرض محور هذا الكون، وهي نظرة تقليدية متخلفة سببها بدائية الوسائل العلمية في حينه، كما أنها تعود لحضارات قديمة خَلَت مثل حضارات بلاد ما بين النهرين، والفراعنة في مصر، والعصر الهلنستي لدى الإغريق. اشتهر البابليون والكلدانيون في هذا الشأن وجعلوه لهم مهنة، تمايزوا به من خلال التنبؤ بالمطر والصحو وكذلك بالخسوف والكسوف، فقسّموا قبة السماء إلى 12 قسماً وباتت ما يُعرف اليوم بالأبراج الفلكية.

 ويُعدّ التنجيم اليوم أو علم الأبراج -إن صح القول- نوعاً من أنواع كشف طالع المواليد من خلال حركة الكواكب أو genethlialogy وغالباً يُربط بعوامل الطبيعة الأربعة: الماء، التراب، النار، والهواء. يلجأ الناس إليه في أيامنا بهدف اللهو والتسلية، ولأنه يبعث في نفوسهم الأمل، خصوصاً حينما يوحي لهم زوراً بأنهم أكثر فهماً ومعرفة لذاتهم، فيشعرهم بواسطة الإيحاء أنهم أكثر فطنة وبصيرة وذكاءً، وهذا يتعلق بطريقة تفكير الناس التي ما زالت تتمسك بهذه الطقوس وتلجأ إليها في لحظات الضعف والخوف.

تشير الإحصاءات إلى أن 90% من البشر يعرفون برجهم، ونصف هؤلاء تقريباً يميلون إلى الاعتقاد على سبيل المثال، بأن مواليد برج الدلو متقلّبو المزاج، ومواليد برج الأسد صعاب المراس مشهورون بالعند. لكن هل يصدقون هذه التوقعات فعلاً؟ الإجابة العلمية الدقيقة على هذا السؤال أمر صعب جداً. أغلب الناس اليوم تتابع الأبراج من باب التسلية والترفيه، وهذا الأمر تؤكده الإحصاءات التي يقدمها محرك البحث العملاق Google. 

بحسب Google trends فإن عمليات البحث عن أخبار الأبراج والتنجيم (نسبة لبحث المستخدمين عن مصطلحات محددة تدخل ضمن مجال التنجيم) في المواقع كلها عالمياً تتراجع سنة بعد سنة بشكل عام، لكنها في المقابل ترتفع نسبياً بشكل ملحوظ جداً في فترات موسمية مجددة، خصوصاً في الفترة الزمنية الممتدة بين عيد الشكر (ميلاد المسيح) ورأس السنة الميلادية، وهذا مؤشر إلى أن الأمر يمسي ترفيهياً وموسمياً إلى حد بعيد، بخاصة مع بداية السنة الجديدة وما يرافقها من شغف وتطلع لمعرفة ما تخفيه.

 لكن ما الذي يدفع الناس إلى حُبّ الاعتقاد بالتنجيم؟ يردّ العلم سبب ذلك إلى ما يسمى تأثير فورير، نسبة إلى المحلل النفساني الأمريكي برترام فورير، ويسمى أيضاً تأثير بارنوم أو Barnum effect، وهو ظاهرة نفسية تشير إلى ميل الأفراد لرؤية كلام المنجمين في وصف أحوالهم وشؤونهم على أنه دقيق غالباً، ولكن هذا الكلام بدوره في الواقع يكون غامضاً لدرجة أنه يناسب الناس كلها بلا استثناء، عموميات من القصص الوصفية والسرد… وهنا تكمن الحيلة.

 أما علم الأنسنة أو الأنتربولوجيا فيقول إن الناس غالباً، تتحول إلى الاعتقاد بالسحر أو التنجيم عند شعورها بالاضطراب أو بعدم اليقين وكذلك بلحظة إحساسها بالخطر المحدق. الحرص على المستقبل وانشغال الناس بمصائرها يدفعها نحو التنجيم والتبصير وكشف الطالع… نلجأ الى السحر والشعوذة حين الشك والتساؤل وكذلك لغرض التفوّق على الآخرين عملاً بمبدأ: "إني أعلم ما لا تعلمون" أو "إني أعرف كيف أنك فعلت هذا"، لكن في المقابل يُقرّ العلم بأن للتنجيم منافع جمة، فالإنسان تُحركه الحاجات وطالما أنه مثابر على طلب هذه الطقوس فهذا يعني أن طبيعته البشرية ما زالت بحاجتها. فالتنجيم ضروري للتوازن النفسي لتظهير الأمل داخل النفوس. فكلما انتفت حاجة بني بشر إليه، أهملته وذَرَته وكفرت به. 

هو بمنزلة ما يسمى في علم الطب بـ Placebo أو العلاج الزائف الذي يلجأ إليه الأطباء في بعض الحالات المَرَضية، فيكتبون وصفة طبية بنوعية أدوية خاصة لمرضاهم، هي عبارة عن سكاكر ملونة على شكل حبوب يشتريها هؤلاء المرضى من الصيدلية على أنها أدوية ناجعة، ويبتلعونها بمواعيدها المحددة فتوهمهم بقدرتها على الشفاء!

فرضية متقدمة أكثر، تعيدنا وفقاً لنظرية التطور إلى الأسلاف. في ذات يوم لم تكن هذه الأسلاف بشراً تسيطر على هذه المعمورة كما الآن، بل كانت فرائس لضوارٍ تفوقها شراسة وقوة، حيث يتملّكها الرعب الدائم وترتعد خوفاً كلما هبت الرياح وحرّكت العشب، فظنت أن مفترساً سيقفز من بينها، فتحول الترقب الفائض إلى حرص، والحرص بدوره تحوّل إلى توقّع!

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عماد الشدياق
صحفي وكاتب
صحفي متخصص في العلاقات الدولية
تحميل المزيد