تعيش تونس هذه الأيّام على وقع احتجاجات شعبية في أغلب جهات البلاد، وحراكاً اجتماعياً بلغ ذروة زخمه بداية الأسبوع ليجنح نحو المظاهرات الليلية، وما يلازمها من عمليات السطو والنهب والتخريب، ليخفت سعير أوار هذه التحرّكات ليلة الأربعاء في نوع من الهدوء الحذر.
شتاء "ساخن " ككلّ "شتاءات تونس" منذ ثورة يناير 2011 بحيث تحوّل الاحتجاج الموسمي طقساً سنوياً للتذكير بمطالب الشباب المنتفض، وقوامها ثلاثية "شغل.. حرية.. كرامة وطنية"، التي هزّت أركان نظام بن علي وأسقطت مداميكه الراسخة بعد 27 يوماً فقط من الاحتجاجات.
غير أن تحرّكات هذه السنة تتمايز عن سابقاتها بالنظر للعديد من المعطيات، فعلى غرار ارتدادات جائحة فيروس كورونا الاجتماعية والاقتصادية؛ والتي أنهكت الاقتصاد التونسي المتهالك بطبعه ما تسبّب في ارتفاع معدلات البطالة واحمرار كل المؤشرات الاجتماعية وتراجع نسب النمو الاقتصادي بشكل لافت، وكل ذلك تحت فيء مناخ سياسي مأزوم منذ انتخابات 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 التي أفرزت برلماناً متشظّياً فسيفسائي التركيبة، عجز عن ضمان الاستقرار السياسي لغياب تحالف برلماني صلب، حيث سقطت تحت قبّة باردو أكثر من حكومة (حكومة الحبيب الجملي وحكومة إلياس الفخفاخ) في ظرف 8 أشهر فقط، كما أُسعِفت حكومة المشّيشي الحالية بفقه "الضرورات السياسية"، حيث إن سقوطها يعني بالضرورة حلّ البرلمان، والذهاب إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها لا تغري جلّ الأحزاب، بالنظر للتغيّرات المتسارعة التي يعرفها المشهد السياسي برماله المتحرّكة سنعود على تحليل معطياته لاحقاً.
احتجاجات عفوية أم مفتعلة؟
عفوية أم مفتعلة؟ هكذا يتساءل المتابع للاحتجاجات التي تعيشها تونس هذه الأيّام، وهو سؤال ليس من السهولة بمكان ولا يمكن طبعاً أن تكون الإجابة عنه بصفة قطعية أو دغمائية، ومن باب الإنصاف فسنحاول الإجابة عليه بطريقتين، ونحاول دعم كل إجابة بمؤيّداتها حتى لا ننزلق نحو تغليب رأي على آخر.
تحركات عفوية
ويجادل أصحاب هذه الإجابة بالقول إن المشهد السياسي التونسي يؤكد أن كل الأطراف الحزبية والسياسية المنهكة والتي بدأت تفقد ألقها الجماهيري بعد سنوات عجاف، أصبحت عاجزة عن تحريك الشارع والتعبئة، خاصة أن أغلب الاحتجاجات الحالية قد غابت عنها الشعارات السياسية، وكانت مظهراً "بافلوفي" يرتكز على استثارة التهميش واستجابة المهمّشين، فالاحتجاج ردّة فعل شعبية منتظرة أمام فشل النخبة السياسية حكماً ومعارضة، في تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بعد 10 سنوات من الثورة، فهذه التحرّكات دينامية طبيعية، ومن الإجحاف التعامل معها بالتفسير التآمري للأحداث.
تحركات مفتعلة
فكل طرف يتّهم الطرف المقابل بتأجيج الاحتجاجات والدفع بها إلى أتون الفوضى، خاصة أنها تحوّلت في جزء كبير منها إلى تحرّكات ليلية جنحت نحو التخريب والنهب والترهيب، حيث ربط البعض بين تزامن اضطرام الاحتجاجات وبين إعلان رئيس الحكومة هشام المشيشي عن تعديل وزاري قام بمقتضاه بإعفاء الوزراء المحسوبين على قصر قرطاج، واستناداً إلى هذا المعطى ذهب البعض إلى اعتبار أن الاحتجاجات رسالة سياسية من التنسيقيات التي تكوّنت في كلّ الجهات منذ أشهر، وتبنّت مشروع قيس سعيد السياسي، الذي يقوم على الديمقراطية المباشرة والنظام المجالسي اللوكسمبورغي، واقتراح تغيير النظام السياسي من برلماني معدّل إلى رئاسي، فقد نشرت الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية على موقع فيسبوك مقطع فيديو وثّق زيارة رئيس الجمهورية لحيّ المنيهلة الشعبي بتونس العاصمة خلال ذروة الاحتجاجات، حيث ظهر مجموعة من الشباب المناصرين للرئيس، وهم ينادون بإسقاط البرلمان وإلغاء الأحزاب (وهي أفكار بشّر بها سعيد خلال حملته الانتخابية)، الأمر الذي أثار جدلاً واسعاً لدى الرأي العام، حيث كان من الممكن أن يقوم الفريق الاتصالي والإعلامي لرئيس الجمهورية بحذف هذه الشعارات المخالفة للدستور أثناء عملية "المونتاج"، ومن جهة أخرى اتّهمت رئيسة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي في ندوة صحفية عقدتها بداية الأسبوع، حركة النهضة بالوقوف وراء الاحتجاجات دون أن تقدّم مؤيداتها لهذا الطرح، الذي وصفه المراقبون بالطرح السياسي، بالنظر إلى أنّ النهضة تعتبر الداعم الأكبر للحكومة الحالية وأكثر المتضرّرين من التحرّكات الاحتجاجية.
مشهد سياسي غامض
من المعروف أنّ المسار الديمقراطي في تونس، قد عرف منذ 2011 مطبّات سياسية عديدة، وعقبات كانت ستؤدي إلى إجهاض هذا الجنين الديمقراطي، لا سيما في صيف 2013 عندما هبّت رياح الانقلاب الدموي المصري على تونس، وحاولت بعض الأطراف استنساخه، غير أن لقاء البريستول بالعاصمة الفرنسية باريس، في آب/أغسطس من السنة المذكورة (عُرِف إعلامياً بلقاء الشيْخين) الذي جمع زعيم حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي، بالراحل الباجي قايد السبسي زعيم حركة نداء تونس العلمانية، مكّن من تجسير الهوّة بين الفرقاء، وقرّب وجهات النظر بتجاوز منطق "الاحتواء والمغالبة" نحو منطق "التوافق" باعتبار أن موازين القوى السياسية والشعبية كانت متكافئة، ما رسّخ ذلك المبدأ الكيسنجري خلال الحرب الباردة "السلم غير متاح والحرب غير محتملة".
كما أشرنا فإنّ تونس عاشت في أكثر من مرّة شكلاً من أشكال سياسة "حافة الهاوية" ثم تنجح نُخبها في إدارة الأزمة باقتدار والعُبور إلى الاستقرار الهشّ الذي يكون محطّة عابرة تفصل بين أزمتيْن.
فما تعيشه تونس اليوم يمكن أن يكون تجلّياً من تجلّيات سياسة "حافة الهاوية"، لكن مع صعوبة في الاستشراف فإذا كانت الأزمات السياسية السابقة واضحة المعالم، بوجود قطبين متنافسين (النداء والنهضة) اهتديا إلى أدوات الحوار بفضل تنازلات زعيميهما "ليّنا العريكة" (الغنّوشي والسبسي)، اللذين احترفا لعبة التوافق برعاية دولية وإن كانت غير معلنة، فإن المشهد السياسي الحالي لا يمكّن استغوار معالمه فقد أظهر آخر استطلاع رأي نشرته مؤسسة سيغما كونساي sigma conseil تفوّقاً صريحاً للحزب الحرّ الدستوري في نسبة نوايا التصويت بـ40% متفوّقاً على حركة النهضة، التي حلت ثانية بـ15% فقط وهو ما يعني أن الذهاب في الوقت الحالي لانتخابات تشريعية سابقة لأوانها يعتبر مغامرة غير محمودة العواقب، لحركة النهضة ولبقيّة الحساسيات السياسية بالنظر لراديكالية توجّهات الحزب الدستوري الحرّ المحسوب على النظام القديم، وزعيمته عبير موسي التي بنت مشروعها السياسي على استعداء الإسلاميين بشكل قائم على الإقصاء، وهو خطاب ألفى صداه لدى القواعد الشعبية التجمّعية (نسبة لحزب التجمع الحاكم في النظام السابق) خاصة بعد انهيار حركة نداء تونس، وتحالف حزب قلب تونس مع حركة النهضة.
حوار وطني.. أي شكل؟ متى وكيف؟
أمام حالة الانسداد السياسي والأزمة غير المسبوقة التي تعيشها تونس، وهي أزمة متعددة الأبعاد تنوّعت المبادرات التي تنادي بحوارات اجتماعية وسياسية واقتصادية، للبحث عن حلول ومن أكثر هذه المبادرات جديّة مبادرة الاتحاد التونسي للشغل (أكبر نقابة عمالية) الذي عرضها أمينه العام نور الدين الطبوبي على رئيس الجمهورية منذ أسبوعين، غير أن هذه المبادرة لا زالت لم تبح بأسرارها مع تردّد رئيس الجمهورية قبل قبولها، ثم قبولها شكلاً محاولاً فرض شروطه بضرورة تشريك شباب ممثّل عن كلّ الجهات فيها وتحويلها إلى مبادرة لـ "تصحيح مسار الثورة "، حسب تعبيره، قبل أن يتراجع عن ذلك تحت ضغط المنظّمة الشغيلة؛ والقبول بها بصيغتها الأصلية غير أنّ أغلب المتابعين أجمعوا على صعوبة نجاح هذا الحوار، لعدة أسباب أهمّها إقصاء بعض الأطراف السياسية على غرار ائتلاف الكرامة الذي رفع اتّحاد الشغل الفيتو ضده بسبب ما وصفه بـ "خطابه العنيف"؛ والحزب الدستوري الحرّ الذي يرفض الجلوس مع حركة النهضة في طاولة تفاوض واحدة، علاوةً على تحفّظ رئاسة الجمهورية حول مشاركة من سمّتهم "الفاسدين"، في إشارة لحزب قلب تونس الذي تمّ إيقاف رئيسه نبيل القروي قبل أسابيع، على خلفية شبهة تبييض أموال وتهرب ضريبي.
اتحاد الشغل من جهته عبّر عن امتعاضه من طريقة تعاطي رئيس الجمهورية مع المبادرة المذكورة، إذ أكد سامي الطاهري الأمين العام المساعد للمنظمة الشغيلة، في تصريح إعلامي بأن الخطّة "ب" جاهزة، حسب تعبيره، في صورة تعذّر تطبيق نظيرتها "أ"، وذلك في إجابته حول سؤال يتعلّق بكيفية تعاطي اتحاد الشغل مع تلكؤ رئيس الجمهورية في تحديد تاريخ بداية الحوار وضبط خطوطه العريضة.
ختاماً يمكن أن نلخص بأن الحراك الشعبي الذي تعرفه تونس سيكون اختباراً للديمقراطية بعد 10 سنوات من الثورة عمّا إذا كانت ديمقراطية ورقية شكلية، عاجزة عن الصمود أمام الهزات التي تعترضها والعلل التي تعتورها، أم أنها كما وصفها المفكّر مالك ابن نبي بأنها تتجاوز صناديق الاقتراع وشكلانية تسليم السلطة، نحو الشعور الديمقراطي الذي تضطلع الثقافة بمهمّة تنميته في نفسية المجتمع وعقله، فتجعله محصّناً من جهة ضد السلطوية وعودة الاستبداد، ومن جهة أخرى ضدّ الحنين للديكتاتورية والعبودية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.