رأيت طارق البشري للمرة الأولى وهو في عنفوانه الفكري، كان ذلك حسب ما أذكر في سنة 1990. ففي أحد الأيام قال لي زميل إن لديه دعوةً لحفل نقابة المهندسين، وإنه يمكنه أن يُحضر معه شخصاً آخر، وإنني لو أردت سيعجبني ذلك، خاصة أنه ستكون هناك أسماء مهمة، وما إن ذكر اسم طارق البشري حتى وافقت. ولم أكن قد قرأت للرجل شيئاً سوى مقالته الفارقة عن "رحلة التجديد في التشريع الإسلامي" (1979). وهي موجودة الآن في كتابه "الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي". فيما بعد عرفت أنه كان أول ما كتبه بعد تحوله الفكري من اليسار ليمين الوسط!
والحقيقة، بعد متابعتي للرجل عرفـت أن أغلب قضاياه الكبرى لم تتغير بعد هذا التحول، هي فقط حملت مسحة جديدة، لكن ظل موقفه منها كما هو. وعلى سبيل المثال فإن الفكرة العميقة لقضيته الأثيرة عن التحرر الوطني والجماعة الوطنية لم تتغير كثيراً.
كان الحفل في نادي النقابة على نيل الزمالك، أخذتُ أبحث عن الرجل بعيني حتى وجدته، كنت أريد أن أعرفه عن قرب.
وكنت في بدايتي أحب التعرف على كُتابي المفضلين، لأختبر الجوانب الشخصية فيهم، وإذا كانت ستعجبني كما أعجبتني أفكارهم التي تأثرت بها. ولا أخفيكم أنني من كثرة الصدمات ارعويت وأقلعت عن هذا السعي الصبياني. رغم ذلك، وفي حالات قليلة حقيقةً، وجدتُ أن الشخصية جميلة جمال ما تكتب، وأذكر هنا فقط يحيى حقي وطارق البشري. وللحقيقة بينهما تشابه كبير في الروح وأسلوب التعامل، وحرصهما على الانتماء لمنظومة الدولة.
المهم أنني اقتربت من الرجل وسمعته وهو يتحدث، وبعد الحفل كان على من يريد السير حتى النقابة للمواصلة. وقد اعتذر صديقي وانصرف، أما أنا فظللت بقرب طارق البشري، الذي كان يسير مع مجموعة من سنه تقريباً، كلهم شخصيات لهم إنجازاتهم، وأنا الوحيد المتطفل عليهم. وقد نظر البشري جهتي مرتين، ولكنني صممت على البقاء والاستماع. فقال لي: هل تعمل في الصحافة؟ فقلت: نعم. ولم تكن كذبة لأنني كنت أجرب حظي آنذاك، فقال لي: هذا ما توقعته، ولكن كل ما تسمعه الآن ليس للنشر، ثم أكمل كلامه وأنا أسير بجواره على أحد كباري النيل.
وكان أحد أصدقائه المقربين والمشهورين، ولا داعي لذكر اسمه هنا، يقول له متعجباً: ولكن كيف قابلت الرجل ولماذا صممت على هذا؟ وفهمت من سياق الكلام أنه يعني شخصاً كان قد قتل زوجته وكان حديث المدينة آنذاك. وكان قد حدث ولعدة مرات أن نسوة قمن بقتل أزواجهن وتقطيعهن، وبينما ظن البعض أن الأمر مقصور على النساء جاء هذا الرجل وفعل شيئاً مشابهاً مع زوجته. ولذا قال البشري إنه تعجب للأمر جداً، وكان يريد مقابلة الرجل بعد أن اعترف بالجريمة، وأن يعرف منه شخصياً لماذا فعل ذلك، وكان هذا كما قال لأغراض معرفية، وقد سمحت له النيابة بالفعل بالجلوس مع الرجل وسؤاله.
وهذا أمر كما ترى لا يتأتى لكل مؤرخ وباحث، وفيما بعد كنت كلما صدر شيء للبشري استعدت هذا الموقف وجدت أنه يمثل طارق البشري بدقة.
وللبشري وجوه عدة يعرفها من تابع تطوراته الشخصية والعلمية. وقد قرأت له كل ما كتبه تقريباً، واستمعت له مرات عدة فيما بعد، فلم تتزعزع صورته النبيلة المحبة للعلم والمعرفة والمنغمسة في مشاكل المجتمع الذي تحبه وتبغي له الخير، ليس فقط بالقلب، ولكن باللسان واليد أو بالفكر والعمل.
وحتى لا أستطرد أقول إن طارق البشري له وجوه عديدة، فهو مؤرخ وفقيه قانوني ومفكر سياسي وموظف، ابن للمنظومة القضائية للدولة المصرية المعاصرة. وهو بالمناسبة يبجل هذه المنظومة ويدافع عنها دوماً.
وفي هذا السياق لا غيره كان تكليفه بأمر التعديلات الدستورية بعد ثورة يناير. أعرف أن كثيراً من الشباب والكهول المسيسين يأخذون عليه موضوع التعديلات هذا، لكن الرجل حسب ظني لا غبار عليه في هذا الأمر؛ فهو كقاض اهتمَّ دوماً بفكرة الشرعية، وابن لمؤسسة القضاء التي يجلها ويدافع عنها قام بما طُلب منه.
ومن يأخذون عليه هذا الموقف لا يفهمون طبيعة الرجل، ووجوه عمله في الجهاز الإداري للدولة. فعندما يقوم المسؤول السياسي الأول بطلب وضع التعديلات فمن الطبيعي أن يستجيب، ولا ينبغي مساءلته عما فعل المسؤول السياسي بهذه التعديلات.
طبعاً أنا لا أقدّر البشري فقط لمكانته كمشرع في جهاز الدولة فمثله كثيرون، لكنني أقدره منذ فترة لوجه مختلف جداً، هو أقل الوجوده شهرة فيما يتعلق به. فالبشري صاحب منهج تفسيري بناه على تجربة عملية طويلة ومتجذرة، سواء في مجال العمل القضائي أو في مجال الكتابة التاريخية.
ورغم أن الرجل يقدم التطبيق على التنظير فإنني كنت وما زلت معجباً بقدراته التنظيرية والتفسيرية. وهذا الأمر سيكون واضحاً جلياً لمن يعرف أن التأويل القانوني أحد أبرز وجوه مدرسة التأويل وأصعبها أيضاً. وعندما تتمعن في كتابات الرجل تجد أن لديه منظومة تنظيرية حاكمة، تبدو في كل ما كتب وخط، وستجد أن إعلاء العملي وتقديمه على النظري جزء أصيل من هذه المنظومة.
ولا شك أن عمله القانوني (كمهنة وحرفة وفن) أثر على قدراته التنظيرية وطريقته في التفكير والكتابة. وهنا لا بد أن نلاحظ أن الرجل لم يكن قاضياً في المحاكم المختلفة، ولكنه كان يعمل في إدارة الفتوى والتشريع. أي أنه لا يقوم بتطبيق القانون على القضايا التي ينظرها، ولكنه يصنع القوانين أو يسهم في صنعها. وهذا يقتضي رؤية الواقع ومشاكله ثم صياغة القوانين من مصادرها المثبتة في الدستور، ثم مشاهدة تطبيق زملائه القضاة للقانون بعد صدوره، وأثره في المجتمع وإمكانيات تعديله ليكون أكثر عدالة، أي أنه كان يشاهد القانون وهو يوضع، ثم وهو ينفذ ويعدل.
ولذا كان عليه إلى جانب صياغة القوانين أن يهتم بوضع منهج تفسيري ينبغي تطبيقه في تفسير هذه القوانين. ولذا فقد اهتم في مجال التطبيق بوضع نظريته التفسيرية التي جعلتني أزعم أنه أهم مفكر مصري في نصف القرن الأخير. ببساطة لأنه تفوق على أبناء جيله بسبب هذا الجانب التطبيقي، وبأنه ينظر إلى المجتمع ككل ويؤثر فيه آملاً صلاحه وإشاعة العدل فيه.
والرجل ولا شك متعمق في مجال التنظير، ومطلع على اهتمام العقل الحديث، خاصة في الغرب، بالتفتيش عن النظرية، وبذل الجهد لإقامة الأبنية النظرية في كل مجالات الفكر. وفي سياق نقده لأحد كتب محمد عابد الجابري (مجلة المستقبل العربي، عدد 276، سنه 2002) قدم رؤية واضحة للنظرية ولكيفية تفكيره فيها.
وهو يعرف النظرية بأنها "تصور ذهني يصاغ في هيئة ترابط منطقي ويعتمد على التناسق بين عدد من الافتراضات أو النتائج المعتبرة، أو التناسق بين عدد من الظواهر والعلاقات التي أسفر عنها التحقق التجريبي أو الاستنباط العقلي".
ثم شرح سبب اهتمام العقل الغربي الحديث بصياغة الأبنية النظرية بأن النظرية تساعده في القيام بوظيفتين أساسيتين:
- فهي تتضمن تعميماً لعدد من النتائج المتحققة والمختبرة أو المتفق عليها. وهذا التعميم يفيد في الوصول إلى قواعد عامة، يمكن أن تفيد في النظر إلى ما لم يختبر بعد من ظواهر وحالات وعلاقات.
- وأنها تقوم فيما يخص مجال الدراسات الإنسانية بوظيفة مهمة تتعلق بـ"الإسناد الشرعي" لفعل أو لعلاقة ما. فمع سطوة وانتشار النظر الوضعي اللاديني في الغرب الحديث، كان لا بد للعقل من أن يفتش عن سند متبلور يجدل منه نظرة إلى الظواهر ويحكم به عليها، فيكون هذا السند هو معيار الاحتكام وهو مورد الحكم بالحسن والقبح. وهذا هو الدور الوظيفي الذي تقوم به الصياغة النظرية.
وعلى أساس من هاتين الوظيفتين، خاصة الثانية منهما، يعلل طارق البشري عدم اهتمام المسلمين القدامى بوضع نظريات لكل مجال فكري. فالعقل الغربي عندما استبعد الدين من المجال العام افتقد للإسناد الشرعي الديني فحل محله الإسناد الوضعي، الذي عبر عن ذاته في كل من مجالات العلوم الإنسانية لدى الغرب الحديث. وهذا ما لم يحتاجه المفكرون المسلمون لأن الدين والموقف الإيماني كانا يؤديان -ولا يزالان- وظيفة الإسناد الشرعي.
ورغم هذا الفهم الدقيق للنظرية وآلية عملها، أو بسبب هذا تحديداً كان البشري لا يهتم بها اهتمامه بالجانب العملي التطبيقي؛ حيث قدم الممارسة على الفكر التنظيري. وهذا هو الطبيعي بالنسبة له، فليس من المنطقي أن تكون لديه وسائل التطبيق المؤثرة فيزيحها جانباً ويغرق في عالم التنظير الفلسفي.
ولهذا يمكن القول إن "الممارسة الفكرية" لدى طارق البشري تتم على مرحلتين، ففي البداية تكون الممارسة القضائية التطبيقية، وبعدها تأتي الممارسة الفكرية العامة التي تقوم على تقعيد القواعد الضابطة من خلال استلهام تجربته القضائية التطبيقية.
وعلى هذه المعارف، خاصة التطبيقية منها، بنى البشري نظريته في التفسير التي طبقها في مجال التأليف الفكري والتاريخي. وأصدر في هذا السياق عدداً كبيراً من الأعمال التاريخية والفكرية المعروفة، التي سيبقى تأثيرها طويلاً كما أتوقع.
ومن يدرس هذه الكتب يلاحظ ولا ريب أن تأثير عمله القضائي تجلّى في كتابته في عدة أمور، منها فتحه مجال الكتابة التاريخية على ما يسميه المصادر التطبيقية؛ حيث رأى ومنذ البداية أن البحث في تاريخ الفكر وحركته لا يقتصر على المؤلفات فقط، وإنما يمتد إلى كل ما يوثق حركة المجال الاجتماعي الذي ينشط فيه هذا الفكر ويتحرك. وبالتالي لا يكفي فقط دراسة الكتب النظرية للأعلام وما سواهم، ولكن يجب الانفتاح على المصادر الواقعية والتطبيقية مثل الفتاوى وأحكام المحاكم ونصوص التشريعات، والخطب والبيانات والبرامج، ومضابط الجمعيات والمجالس النيابية، ومحاضر المؤسسات التعليمية الفاعلة، ولقاء الشخصيات سواء من الفاعلين السياسيين أو من عامة الناس، مثل هذا القاتل الذي حرص البشري المؤرخ على لقائه وسؤاله. وهذا كله كما ترى عمل مضنٍ، ولكنه ضروري لأي كتابة تاريخية مؤثرة.
ويتجلى تأثير عمله القضائي أيضاً في توخيه أقصى درجات الدقة فيما يكتب، خاصة في كتاباته التاريخية. وقد لاحظت أن البشري كثيراً ما يسأل عن هذه الدقة من أين تأتي، مع أنه واضح ومفهوم. وأذكر أنه أوجز ذلك مرة في حوار له مع مجلة العربي (سنة 1998)، فقال إن عمله القانوني الحرفي هو السبب في ذلك.
"فالعمل القانوني القضائي يخلق عند صاحبه حساسية خاصة للتعرف على مصداقية الوقائع التي يحاكمها، وفقاً لوزن "مصداقية مصدرها" ونقد الروايات المختلفة للواقعة التاريخية يشابه نقد الشهود بالنسبة للقاضي. أما عملية التأكد من مصادر الواقعة، ودرجة هذا التأكد، هل هي تعينية أو ظنية أو مشكوك فيها أو متهمة في صحتها ومستبعدة؟ وهذه أمور اكتسبتها من حصيلة ممارستي العمل القانوني، ووسائل الإثبات في العمل القانوني أشد جدية وأكثر صرامة من وسائل الإثبات في الكتابة التاريخية؛ لأن منهجية إثبات الواقعة قضائياً يترتب عليها حكم على إنسان، وقد يصل هذا الحكم إلى درجة حرمانه من حياته أو ماله أو زواجه. فلم يكن عندي مشكلة في موضوع التثبت من صحة الوقائع التاريخية، فحساسيتي القانونية كانت أكثر من كافية في هذا المجال".
وأرجو أن يكون هذا النص خير ختام لهذا المقال الذي طال، رغم أنني أردته مجرد تحية من محب لطارق البشري بمناسبة عيد ميلاده الثامن والثمانين، الذي مر قبل شهرين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.