رغم اقتراب الملء الثاني.. هل فقدت إثيوبيا كل أوراقها أمام مصر في ملف سد النهضة؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/01/19 الساعة 15:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/01/19 الساعة 15:05 بتوقيت غرينتش
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد/رويترز

منذ عقد على الأقلّ شرعت إثيوبيا في بناء سدّ الألفيّة، الذي صار اسمه لاحقاً "سدّ النهضة"، وهي أسماء تعكس نظرة المجتمع والدولة هناك إلى هذا المشروع، الذي يُعوَّل عليه لتوليد الطاقة الكهربائية، مائياً، بما يترتب على ذلك من "إنقاذ البلاد من الظلام" كما يقال نصاً، بشكل رخيص نسبياً، وآمن بيئياً، وتسريع عجلة التنمية في الاقتصاد الواعد، وتصدير الفوائض للدول القريبة، للحصول على عوائد بالعملة الأجنبية.

في هذا التوقيت الَّذي أعلنت فيه إثيوبيا عن مشروعها، تكثَّفَ لدى مصر شعورٌ بالخطر الوجوديّ المحدق، وبالعجز عن دفعه، في ظلّ بناء السدّ العملاق على النيل الأزرق، وتضاؤل موارد مصر المائيّة، وضعف وجودها في هذه المنطقة من القارة، وغياب خططها الداخليَّة، مقابل جاهزيَّة إثيوبيا التي ابتلعتْ إن جاز التعبير معظم دول الحوض في جيبِها، حتى دولة المصبّ الأخرى السودان، وتقول: إن المشروع في أرض إثيوبيَّة، بأموال إثيوبيَّة، لمساعدة أهل إثيوبيا، ولكن يبدو أنَّ هذا الوضع المثاليَّ لإثيوبيا والمزري لمصر تغيَّر بشكل ملحوظ مؤخراً.. فكيف حدث ذلك؟

خسارة حليف استراتيجيّ

في ديسمبر/كانون الأول من العام 2019، وبعد احتجاجات شعبية استمرت عاماً كاملاً استطاع الشعب السوداني اقتلاعَ أحد أبرز الحكام الديكتاتوريين في المنطقة، الرئيس عمر البشير، ضمن ما يعرف بالموجة الثانية من الربيع العربي، والتي تزامنت أيضاً مع عدة احتجاجات في مناطق أخرى من العالم.

بالنِّسبة لمصر وإثيوبيا كان هذا الحدث مربكاً على عدة مستويات، فالنِّظام المصريّ الحاكم بناءً على انقلاب الثالث من يوليو/ تموز 2013، يتوجَّس بطبيعته من الانتفاضات الشعبيَّة، حتى لو كانت خارج الحدود، ويحذّر دائماً من خطر سقوط الأنظمة، خاصة في المنطقة، بغض النظر عن أيّ سلوكيات سلبيَّة لهذه الأنظمة. وفي الوقت نفسه فإنَّ نفس النِّظام، باعتباره امتداداً جديداً للأنظمة العسكريَّة السَّابقة، وبالأخصّ أنظمة ما بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، كان يكره نظام البشير، بما يمثله من توليفةٍ إسلاميَّة، أقرب إلى المعسكر الشَّرقي، تطلّ على منافذ مائيَّة استراتيجيَّة مثل البحر الأحمر، وتطالب باستعادة أراض حدودية متنازع عليها مع مصر، وتتحالف مع إثيوبيا، منبع نهر النيل.

في منتصف عام 1995، قبل النزاع على استغلال النيل الأزرق، وفي مشهد يجسِّد العلاقة بين نظام الحكم الإسلامي في السودان وبين حكام مصر العسكريين، اتَّهم الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، على الهواء، النِّظامَ السُّوداني، الإخوانيَّ على حدّ وصفه، بالتدبير لمحاولة اغتياله، بالتعاون مع إثيوبيا، عبر دعم متشدِّدين إسلاميين، بالإضافة إلى إشعال التوتر على الحدود بين البلدين، وافتعال أزمات سياسيَّة، قال إنَّ مصر بدأت تردّ عليها بالمثل، وإنها، إيزاءها، على استعداد للوصول إلى أبعد مدى. 

وبعد اندلاع أزمة السدّ، كان البشير، فيما يبدو، على استعداد للمقامرة بأمن بلاده الاستراتيجي مقابل الإضرار بمصر، ضمن نزاعه التاريخي مع حكام القاهرة. بطبيعة الحال، قد يكون للسدّ آثاره الإيجابيَّة والسَّلبيَّة على دولتي المصبّ في نفس الوقت، ويكون المطلوب هنا أن تُقلَّص الأضرار إلى حدودها الدنيا، وتضاعَف الفوائد لحدودها القصوى، طالما تجاوزنا فكرة مشروعيَّة بناء السدّ دون تشاور مع دولتي المصب، وقررنا المضي قدماً في محاولة التعايش مع هذا الأمر الواقع. ولكن البشير، وبالمخالفة للهواجس المصريَّة، أو بالنِّكاية فيها، كان يتبنَّى خطاباً رسمياً مؤيِّداً للخطّ الإثيوبيّ، عبر الانحياز الكلي، وإبراز الجوانب الإيجابيَّة من المشروع حصراً، بما يضعف السَّرديَّة المصريّة عن خطورة المشروع.

بعد سقوط البشير مباشرةً، وبالرغم مما قد يتبدَّى لنا ظاهراً من عواقب هذا الأمر، كان الشعور المسيطر على حكام القاهرة هو القلق من الآثار السلبية المتوقعة جراء سقوط زعيم تقليدي كبير، والفراغ السياسيّ الناتج عن هذا السقوط، بدلاً من الاحتفاء بسقوط نظام مشاغب، يتبنى رؤى مضرة بالأمن القومي المصري، وفي أديس أبابا نما شعور بالارتياح، نتيجة تصور إمكانية نجاح إثيوبيا، وآبي أحمد تحديداً، في تشكيل البنية السياسية للنظام الجديد، بما سينعكس إيجاباً على العلاقات الثنائية عامة، وعلى استطراد الخرطوم في موقفها المناوئ للقاهرة والداعم لسد النهضة. نظامان ثوريَّان حليفان، ونظام عسكريّ عذول غير مرغوب. وهو ما تجلّى فعلاً في دور آبي أحمد الحاسم خلال المفاوضات بين الجيش وقوى الحرية والتغيير، في الوقت الذي كان الدور المصري فيه باهتاً.. فهل أثَّر سقوط البشير بالإيجاب على إثيوبيا، وبالسَّلب على مصر فعلاً أم أنّ إثيوبيا فقدت حليفاً استراتيجياً، عمَّقت تحركاتها الأخيرة من آثار خسارته؟

انطفاء الهالة

في هذه الأحداث التي دارت قبل نحو عام من الآن، كان هناك تصوُّر تقابليّ لدى مراقبي الوضع العام في كل من إثيوبيا ومصر، مفاده أن بإثيوبيا حاكماً تقدمياً، يواصل وضع بلاده على الطريق الصحيح، سياسياً واجتماعياً، قبل الحديث حتى عن التنمية، مقابل حاكم أهوج يخرِّب ما تبقَّى من بلاده المنهكة في مصر، وقد ساعدت هذه "الهالة" في إصقال سرديّة إثيوبيا عن مشروعها التنمويّ العملاق، واستمرار التأثير الإثيوبي اللاواعي على بعض أبناء الثورة السودانية، المنتظر تبؤوهم مواقع متقدمة في نظام ما بعد البشير، وصولاً إلى حصول آبي أحمد على جائزة نوبل للسلام نهاية عام 2019.

ولكن الوضع بالنسبة لموقف السودان من إثيوبيا، أخذ يتغيَّر تدريجياً، فبعد أن كان وجود رئيس الوزراء الإثيوبيّ حاسماً في المرحلة الانتقاليّة، مع صعود مقولة: "إثيوبيا أخت بلادي"، بدأ طرفا المشهد الانتقالي ينظرون إلى الممارسات الإثيوبية، وبالأخص على الحدود بين البلدين، باعتبارها "تهديداً" للنظام الذي يتشكل، ونما اعتقادٌ بأن أديس أبابا تستغلّ الوضع المضطرب في الخرطوم، لا لتمرير موقفها من سدّ النهضة وحسب، بل لتثبيت وجودها العسكري، ضمن طموحات تاريخية قديمة، في مناطق بعينها، بشكل لا يتلاءم مع خطابها السِّياسيّ الناعم تجاه السودان.

على مدار العام الأخير، اجتمعت اللجنة الثنائية لإعادة تقييم الوضع الحدودي بين البلدين مرتين، على خلفية استمراء الميليشيات الإثيوبية، التي تحظى بدعم حكومي، نصب كمائن عسكرية للجيش السوداني والمزارعين المحليين، في منطقة الفشقة بولاية القضارف، أسفرت عن مقتل عدد كبير، من الجيش والمدنيين، وبالأخص الأطفال والنسوة العاملات في المزارع، مما اضطرّ الجيش السّودانيّ، نهاية العام الماضي، لشن حملة عسكريَّة واسعة لطرد هذه الميليشيات، وتغيير الخطاب الرّسمي تجاه النظام الإثيوبيّ الحاكم، باعتباره نظاماً ذا أهداف استعماريَّة، نصاً، في مقابل اتهام أديس أبابا للخرطوم باحتلال عدد من المواقع العسكريّة داخل حدودها، والتّلويح بأن خيار الحرب لم يعد بعيداً.

تقول إثيوبيا، الآن، إنَّ السّودان لم يكن ليتمكن من شنّ هذه الحملة العسكريَّة، لولا انشغال جيشه في الحرب الداخلية. بغض النظر عن صدق هذه المقولة ومدى مطابقتها للواقع، فإنها تكشف، وهذا هو الأهم، عمق الأزمة الحالية لأديس أبابا، وآبي أحمد، ليس فقط في انهيار علاقتها الملحوظ بحليفتها السَّابقة، الخرطوم، وتبدّد آمال ملء الشغور المنتظر بعد سقوط نظام البشير، ولكن في "انطفاء الهالة" والبريق الذي كان مصاحباً لهذا الثنائي المشترك: إثيوبيا وآبي أحمد.

 فبعد أن كان الأخير رمزاً لإمكان التعايش، والفيدرالية، والديمقراطية، والتحوّل السّلمي في إفريقيا، بات رمزاً للاستبداد، والوحشيَّة، وعدم الاستقرار، بعد شنّه حرباً ضروساً على إقليم "تيغراي"، شمال البلاد، بحجة هجوم عناصر مسلَّحة تابعة للإقليم على وحدة للجيش المركزي هناك، ضمن سياق اتهامات متبادلة بعدم الشرعيّة، بعد تأجيل آبي أحمد الانتخابات البرلمانية أكثر من مرَّة، ولنتخيل كيف أثرت هذه الحملة على البلاد، والبلاد المجاورة، يكفي أن نعلم أن الأمم المتحدة نشرت، نهاية العام الماضي، استغاثات عاجلة، بسبب توقّع نزوح نحو 200 ألف إثيوبي للسودان، الذي يعاني أصلاً من أزمات اقتصادية، وصحية، وسيول مدمِّرة.

حتَّى في إريتريا، الّتي كان السَّلام معها سبباً رئيساً لحصول آبي أحمد على الجائزة المرموقة، فقد جلبت حربه مع "التيغراي" لها الخراب. صحيح أنَّ اتفاق السَّلام ما زال قائماً، ولكن مطار العاصمة أسمرا تعرَّض خلال الحرب إلى رشقات صاروخيَّة متكررة من الخصوم المحليين لرئيس الوزراء الإثيوبيّ، بسبب اعتقادهم أنّ أبي أحمد يحصل على دعم لوجيستيّ عسكريّ من هناك: إريتريا. وعلى ضوء هذه المتغيرات الجذريّة، طالبَ مثقفون محلّيون، ودوليّون، مطلباً قد يكون غير واقعيّ، ولكنّه معبر في نفس الوقت، عن تحوُّل شكل اللُّعبة، وهو سحب نوبل للسلام من آبي أحمد؛ فإذا كانت الجائزة قد منحت له لمساهمته في الاستقرار الداخلي، والإقليمي مع السودان وإريتريا، وقد تبدَّد ذلك إلى نقيضه تماماً، فلماذا يظلّ الرجل محتفظاً بها؟

القاهرة.. اللعبة معكوسة

اعتادَ الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، في معرض تبرير إخفاق إدارته لأزمة سدّ النهضة، وتخويف المصريين من إثارة القلاقل ضدّ حكمه، كما حدث مع سابقيه، أن يُلقي باللائمة على ثورة يناير/كانون الثاني 2011، مستخدماً في بعض الأحيان استعارات غير لائقة، لإبراز فداحة ما حدث، دون التعرُّض مباشرة للجانب الإثيوبيّ.

صحيح أنّ ما يقوم به الرَّئيس المصريّ في هذا الصدد يفتقد إلى المهْنيَّة الخطابيَّة، وينضحُ برغبة دفينة في تشويه الثورة، ويعكسُ أزمةً حقيقيَّة في طبيعة "العقد الاجتماعي" القائم بين السُّلطة والمجتمع في مصر، من جهة الرَّغبة في التنصّل من مسؤوليَّة أحد أهمّ الملفّات الحيويَّة في البلاد، إن لم يكن أهمَّها، والتَّعامل مع المواطنين صراحةً، باعتبارهم فاقدين للأهليَّة؛ ولكنّ مضمون هذه النوعيَّة من التّصريحات أيضاً قد يُفسِّر لنا جانباً من سلوك القاهرة، تجاه جارتها الخرطوم، في أزماتها الأخيرة بشكل عام، وفي مواجهة أديس أبابا بشكل خاصّ.

ألقت القاهرةُ بثقلها في الخرطوم خلال الشهور الأخيرة بشكل واضح، ففي منتصف أغسطس/آب الماضي، زار رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، السودان، على رأس وفد تقنيّ رفيع المستوى، التقى خلالها القيادات الحكومية الموازية هناك، ثمَّ قادة المجلس العسكريّ، وكان على رأس الملفات المطروحة ملفُ "الربط الكهربائي"، وهو أحد الملفات الحيويَّة بالنسبة للقاهرة التي تقول إن لديها فوائض هائلة من الطاقة يمكن تصديرها حتى لأوروبا، وبالنسبة للسودان الذي يعاني من عجز في هذا الملف، وبالنسبة للدولتين، حيث تعوّل أديس أبابا أصلاً على دعم السودان لملف سدّ النهضة من أجل حصولها على الكهرباء بأسعار تنافسيَّة.

وفي خضمِّ أزمة السيول العارمة التي ضربت السودان، مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، بسبب ارتفاع منسوب نهر النيل بشكل لم يحدث منذ أكثر من قرن، ما تسبب في عشرات القتلى والجرحى، وتدمير مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية؛ سيَّرت القاهرة جسراً جوياً "عسكرياً"، من قاعدة شرق القاهرة الجويَّة إلى مطار الخرطوم، محملاً بأطنان من الأدوية والألبان، وأرسلت وزيرة الصحة هالة زايد، على رأس وفد طبيّ، وُزّع لاحقاً في الخرطوم، لبحث ما يمكن تقديمه في المجالات البشرية والتقنية والدوائية، وقد انتشرت لزايد صورةٌ معبِّرة حينئذ خلال تفقدها المخازن الاستراتيجية لوزارة الصحة السودانيَّة بالخرطوم.

ومنذ نحو شهر تقريباً، وصلت الخرطوم من القاهرة الدّفعة الثالثة من المساعدات الطبيَّة الخاصَّة بمكافحة فيروس كورونا، بصحبة وفد يرأسه أحد مستشاري وزيرة الصحة، بالإضافة إلى عدد ضخم من المخابز نصف الآلية، التي أرسلتها هيئة الإمداد والتموين بالجيش المصري لمساعدة السودان في أزمة الخبز، ضمن خطة متكاملة بين البلدين لتوفير القمح، والمخابز غير التقليدية، وأدوات التشغيل، لإنتاج 2 مليون رغيف خبز يومياً بمساعدة مصريَّة، وهي الخطوات التي ساعدت السودان في محنتها الحالية بشكل نسبي، وأعادت تقديم مصر إلى المراقبين الدوليين من الباحثين والكتاب وخبراء العلاقات الدولية بشكل أفضل، في الوقت الذي لم تترك إثيوبيا فيه فراغاً خلفها في السودان فقط، بل وتَّرت علاقتها معها بشكل حادّ، أدّى إلى تحوّل الرأي العام السوداني، في نظرته لكل من مصر وإثيوبيا بشكل ملحوظ.

مصر وإفريقيا

ضمن خطّتها فيما يبدو لتطويق إثيوبيا، واستغلال الاضطرابات الجارية بها، أولت مصر، إلى جانب الاهتمام بالسودان، اهتماماً كبيراً بعدد من الدول الإفريقية المجاورة لإثيوبيا، مثل دولتي جنوب السودان وإريتريا.

الأولى جنوب السودان، هي ورقةُ مصر الرَّابحة قديماً ضد نظام البشير، ومن المعروف أنَّ سيلفا كير يدين لمصر بالكثير منذ أن ساعدته عسكرياً ضدّ خصومه سراً إبان حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، والآن اكتسبتِ العلاقات الثنائيَّة بين البلدين ثقلاً مضاعفاً في ظلِّ حاجة مصر إلى دعم جنوب السودان في أزمة سد النهضة، وفي ظلّ حاجة جنوب السودان إلى السَّلام الذي ترعاه مصر بالفعل بشكل رسمي، وإلى التنمية التي يعتقد الأفارقة أنَّ مصر يمكنها أن تضطلع بها بفضل عروضها السخيَّة وخبرتها التقنيَّة. بالنسبة إلى كثير من البلاد الإفريقية، فإن مصر تقدم لهم دوراً يشبه الدور الذي كانت تتلقاه مصر من اليابان في وقتٍ ما: مشروعات بنية تحتيَّة رخيصة، بدعم غير مشروط، تقريباً.

في الثَّامن والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وبالرغم من تردّي الوضع الأمنيّ العام هناك، زار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، جوبا، على رأس وفد رفيع المستوى كان من بينه رفيقه المسؤول عن ملف جنوب السودان ومدير جهاز المخابرات العامة عباس كامل، عقد خلاله اجتماعات موسعة مع الجانب الإثيوبي، قال خلالها السيسي نصاً: "إنّ مصر ستظل السند الأوفى لشعب جنوب السودان، وإنها ستقدم دعماً كاملاً غير محدود لهذا البلد الذي يعد امتداداً للأمن القومي المصري". 

وبحسب محللين ومراقبين للزيارة، فقد عدل المصريّون عن طلبهم السابق بإنشاء قاعدة عسكريَّة دائمة هناك، بعد تخوف جوبا من توتر العلاقات مع أديس أبابا، مقابل تواجد عسكريّ معيَّن غير دائم، وإعادة بحث إحياء قناة جونجلي (أحد الحلول الهندسية التي طرحت قديماً لتوفير زيادة مائية لمصر والسودان)، ودعم مباشر لموقف مصر في سد النهضة، وقد وافقت جنوب السودان على هذه الطَّلبات غير المكلِّفة، بما في ذلك الإعلان رسمياً في نفس وقت الزيارة، عن دعم الرؤية المصرية لحل أزمة سد النهضة، والتي تنص على أنّ الحقّ في الوجود أوْلى من الحق في التنمية، وأنّ الحق في التنمية، من وجهة نظر مصريَّة، يمكن ألّا يتعارض مع الحقّ في الوجود.

الدَّولة الثَّانية في هذا التصور المصري هي إريتريا، والّتي تقولُ بعض المصادر إنَّ مصر طلبت منها أيضاً أن تسمح لها بوجود عسكريٍّ محدود، ولكنَّ إريتريا رأت أنّ الظرف الإقليميّ غير مناسب، ومع ذلك فإنَّ العلاقات المصريَّة الإريتريَّة تعدّ فعلاً وبلا مبالغة، واحدة من أكثر العلاقات متانةً داخل إفريقيا، والَّتي عززها إلى الجانب الدعم التاريخي الذي قدمته القاهرة إلى أسمرا إبان حكم عبدالناصر زياراتُ الرئيس أسياس أفورقي المتكررة إلى القاهرة، والتي وصلت إلى 5 زيارات في 6 سنوات فقط، كان آخرها يوليو/تموز الماضي لمدة 3 أيام، حيث تعتقد القاهرة أن بإمكانها، عبر التحالف مع أسمرا وجوبا في نفس الوقت، أن تضغط على أديس أبابا للقبول باتفاق عادل لملء وتشغيل سدّ النهضة، بالإضافة إلى التنسيق مع إريتريا في أمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب والقرن الإفريقي ومكافحة الإرهاب.

بعد هاتين الدولتين تولي مصر أهميةً كبيرةً للكونغو الديمقراطية، ولحسن الحظِّ فإن القيادة السياسة الحالية في الكونغو تولي القاهرة أهميةً مشابهة تنعكس للمتابعين في عدد الرسائل الإيجابية التي يرسلها الرئيس الكونغولي فليكس تشيسكيدي إلى نظيره المصري مع مبعوثيه السياسيين، والتي كان آخرها رسالة مطلع نوفمبر/تشرين الثاني، قال فيها علناً إن بلاده تدعم موقف القاهرة في قضية سدّ النهضة، وفي المقابل فإن القاهرة تُعوِّل على استثمار هذا الموقف في الضغط على إثيوبيا، خلال المرحلة الأخيرة من المفاوضات، حيث ينتظر أن تكون الكونغو رئيساً للاتحاد، بعد نصف عامٍ أهدرته القاهرة في مفاوضات برعاية جنوب إفريقيا، التي يبدو أنها كانت تنحاز من طرف خفيّ، لإثيوبيا دون القاهرة، وهو ما نقله بعض المراقبين.

وبشكل عام فإنَّ مصر بدأت تتبع أساليب غير نمطيَّة في تعزيز نفوذها "النَّاعم" في إفريقيا، على غرار التَّوسُّع في نقل الخبرات المحلّية لعلاج مرضى فيروس سي إلى الجانب الإفريقي، عبر مبادرة فحص وعلاج مليون إفريقي من هذا المرض، وبرنامج الزمالات الغفريقيَّة بالتعاون مع الأكاديمية الوطنية للتدريب، وهي نفس الأكاديمية التي ترعي البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة محلياً، بالإضافة إلى "دبلوماسية كورونا"، التي ظهرت في الطائرات العسكريّة المحملة بالمساعدات الطبية لدول مثل الكونغو وزامبيا ومالي، وخطط لمنح اللقاح الصِّيني، المنتظر تصنيعه محلياً، للدول الإفريقيَّة بأسعار تنافسية، أو بالمجَّان.

خسارة النقاط

ما طرحه نظام ما بعد الثالث من يوليو/تموز 2013 في مصر إيذاء سدّ النهضة كان التَّسليم بحقيقة شروع إثيوبيا في البناء، والتقدُّم خطوة إلى الأمام، بدلاً من الوقوف عند نقطة مشروعيَّة البناء من عدمها بينما العمل قائم بالمشروع فعلاً، ليكونَ التفاوض على ملء السدّ وتشغيله، ومستقبله، وطريقة إدارة الموارد المائيَّة العذبة بين دولة المنبع ودولتي المصبّ، بشكل يتفهَّم رغبة دولة المنبع في التَّنمية، وإمكان تحمُّل دولتي المصبّ بعضاً من الأضرار غير النوعيَّة.

ما تريده إثيوبيا فعلاً من خلال استقراء سلوكها السِّياسيّ الدّاخلي، وسلوكها تجاه جيرانها في القضايا العامَّة وقضايا المياه، ومن خلال جولات التّفاوض التي استمرّت عقداً كاملاً، هو أن يكون لها الحريَّة التامَّة في الاستفادة من النّيل الأزرق، طاقوياً ومائياً، بغض النظر عن شواغل دولتي المصبّ أو تأثير أهدافها عليهما، مستغلَّةً في ذلك الانحياز السّودانيّ الأعمى لها إبان حكم البشير، واضطراب الأوضاع الدّاخليّة في مصر سابقاً.

وبين ما تريده مصر وما تريده إثيوبيا، تعلم مصر أنّ أفضل الحلول الممكنة هو دفع إثيوبيا إلى التورّط في مزيد من المفاوضات بأشكالها المتدرِّجة، فبالنِّسبة لأديس أبابا، وهو ما تضعه مصر في اعتبارها، تعني المفاوضات إضاعة الوقت للمضيّ قدماً في طرح إرادتها، وبالنِّسبة للقاهرة فإنه خلال نفس المفاوضات المتدرجة التي تعول عليها أديس أبابا لإضاعة الوقت، عبر أطراف دولية فاعلة، قد تنصاع أديس أبابا إلى اتفاق عادل إذا قررت أن تنحِّي إرادتها غير العقلانية جانباً، وتنحاز إلى خيار التنمية قليلة الضرر، وتجنِّب المنطقة حرباً، لا تريدها هي أو القاهرة، قد تدمِّر حلم أمّتها في التنمية، وفي نفس الوقت أيضاً تعلم القاهرة أنَّ الطريق إلى تلك الحرب العادلة، قليلة التكلفة دبلوماسياً، لن يمرَّ إلا عبر نفس المفاوضات، ومن ثمَّ، وإن اختلفت نظرة كل دولة على حدة إلى المفاوضات فإنها واجبة.

من خلال هذه الثلاثيَّة، ما تريده مصر وما تريده إثيوبيا ونظرة كل دولة منهما إلى المفاوضات، يمكن فهم موافقة الدولتين على إعلان المبادئ الثلاثي بالخرطوم في مارس/آذار 2015؛ فقد نظرت إليه إثيوبيا من حيث المبدأ، باعتباره الوثيقة التي ستنتزع من خلالها اعترافاً بخطوة بنائها السدّ دون توافق مع دولتي المصبّ، ومن حيث المضمون باعتباره إعلاناً فضفاضاً يمكن تأويله عبر عرقلة أعمال "لجنة الخبراء الدولية" التي تنبني على نتائجها معظم البنود العشرة في الإعلان، فيما نظرت القاهرة إلى هذا التنازل، أي الإقرار بشرعية بناء السد، باعتباره بادرة حسن نية دفعت إليها الظروف المحلية المضطربة وقتها، يمكن تداركها إذا وافقت إثيوبيا على باقي البنود التي تقر منع الضرر، ويمكن- من خلال نفس الإعلان- تطوير التفاوض بموجب المادة الأخيرة، التي تخول اللجوءَ إلى الأطراف الدولية، ضمن منطق: دع عدوك يكشف نفسه ويخسر النقاط.

هذا التقدّم المتدرِّج في المفاوضات، وإرادة إثيوبيا العدوانيَّة الّتي لا يمكن القبول بها على أي طاولة بها أطراف دوليَّة محايدة جعل إثيوبيا تخسر مزيداً من النِّقاط بالفعل، بدايةً من انسحابها أمام الراعي الأمريكي والبنك الدوليّ، فبراير/شباط 2020، بعد 4 أشهر من المفاوضات التي عُقدت بدعوة دونالد ترامب شخصياً، مما دفعه إلى عقابها بعد 7 أشهر، عقاباً رمزياً ذا دلالة، بوقف حزمة من المساعدات الأمنيَّة تتجاوز 100 مليون دولار، وقد بدت هذه "الفجوة" أيضاً بين ما تريده إثيوبيا فعلياً، وما تدفعها مصر إليه، واضحةً، عندما ذهب البلدان إلى مجلس الأمن، منتصف العام الماضي، فكان الخطاب الإثيوبي هناك، باهتاً بلا دلالة، كل مضمونه: الهجوم على مجلس الأمن نفسه، واتهام المنظمة الأممية بإفشال المفاوضات، مقابل خطاب مصريّ رصين، مضمونه: فليبنوا السدّ، ويولّدوا الكهرباء، دون قتلنا.

وعلى إثر هذا التخبط الدبلوماسي الإثيوبي الواضح، صعَّدت مصر، لأول مرَّة منذ وصول السيسي إلى الحكم خطابها الرَّسميّ ضدّ إثيوبيا، منوِّهة بلغة انتقاميَّة حادة، إلى ما تعيشه البلاد من مآسٍ داخلية في الوقت الحالي، تكشف بشكل غير مباشر، خطورة التَّسليم للسَّرديَّة الإثيوبيَّة عن ذلك المشروع العملاق الَّذي لن يأتي إلّا بالخير فقط، بعد أن أثار متحدث باسم الخارجية الإثيوبية ملفات الإخوان ومرسي والمجازر التي ارتكبها النظام، في معرض حديثه عن سد النهضة، باعتبار أن النظام المصري يضخم أمر السد هروباً من هذه المشكلات، في وقتٍ كانت المفاوضات خلاله متوقِّفة أصلاً، نتيجة بوادر عدم رضا السودان عن سياسة الأمر الواقع الإثيوبيَّة، وانتقال رئاسة الاتحاد الإفريقي من جنوب إفريقيا إلى الكونغو الديمقراطية.

الخيار العسكريّ

بالرَّغم من تأكيد السِّيسي وتوجيهه إلى استبعاد طرح الخيار العسكريّ ضد إثيوبيا، إلّا أنَّ الشَّاهد من هذا التوجيه في الحقيقة، ليس استبعاده، بقدر ما هو التأكيد على أهميَّة المفاوضات المتدرِّجة الّتي تؤدِّي إلى اتفاق عادل وشامل، تجاه ملء المراحل الباقية من السدّ وتشغيله، وتقاسم الموارد المائيَّة مستقبلاً، على غرار ما وقَّعت عليه مصر بالأحرف الأولى في واشنطن فبراير/شباط الماضي.

الخيار العسكريّ رسمياً ليس مستبعداً، لأنَّ السّيسي نفسه وعسكريّين رسميّين مقرّبين منه، ومستشارين له، نوّهوا عنه، وفي مجلس الأمن، يونيو/حزيران الماضي قال سامح شكري نصاً: "رغم أنّ موقفنا يظل هو أنّ الحلّ النّاجع لمسألة سدّ النهضة يتمثَّل في اتفاقٍ عادل ومتوازن، إلّا أنّ مصر سوف تحفظ وتؤمِّن المصالح العليا للشعب المصري، فالدفاع عن البقاء ليس محض اختيار، وإنِّما هو مسألة حتميَّة تفرضها طبيعة البشر".

الشِّقّ الثَّاني من الخيار العسكريّ بعد أن يكون مطروحاً هو القدرة، وفي هذا الجانب تحوَّلت الكفّة لصالح مصر ضد إثيوبيا بفارق كبير في الفترة الأخيرة بشكل من المفترض أن يقلق المسؤولين الإثيوبيين. فبينما لم يتغيَّر الوضع في إثيوبيا: أُمة محارِبة، ولكن حروب تقليديّة، وجيش عتيق، فإنَّ مصر، منذ يناير/كانون الثاني الماضي، بات لها قاعدة عسكريَّة هي ثاني أكبر القواعد العسكريَّة مساحةً على مستوى العالم، في أقصى الجنوب الشرقي على الحدود مع السودان، ومشارف البحر الأحمر، هي قاعدة برنيس الجو بحريَّة التي افتتحها السيسي ضمن مناورات "قادر 2020".

وفي غضون الأشهر القليلة الأخيرة وبشكل مفاجئ، صار الجيش السُّودانيّ في شكل آخر مختلف من التعاون بين البلدين رديفاً، إن جاز التعبير للجيش المصري، فقد زار المجلس العسكري المصريّ كلّه تقريباً، باستثناء وزير الدفاع وبعض الأعضاء الآخرين، في حشد غير مسبوق، القيادة العسكريَّة في السّودان، واتَّفق الجانبان على توطيد العلاقات العسكريَّة في أسرع وقت وبأفضل صورة ممكنة، اتفاقاً أسفر خلال مدة بسيطة عن: مناورات جوية مشتركة لأيام في السودان، وزيارة مسؤولين عسكريين لكبرى مصانع الإنتاج الحربي المصرية، وزيارة قائد الدفاع الجوي السوداني للجيش الثاني الميداني وحضوره تدريباً عملياً بالذخيرة الحية هناك.

وبعيداً عن مقاتلات "يوروفايتر تايفون" التي ما زالت مصر تتفاوض عليها مع الجانب الإيطاليِّ، والـ"سو – 35″ التي تعاقدت عليها من روسيا وتم تصنيعها ولكنها لم تصل بعد، فقد بات لدى سلاح الجوِّ المصريّ تشكيلة مريحة من الطائرات، الإف 16 والميراج 2000 والرافال والميج 29، والذخائر، الّتي تمكِّنه من القيام بأي مهمّة خارج الحدود، ولعلّ في بثّ هذا السِّلاح في عيده الأخير، أكتوبر/تشرين الماضي، مقطعاً قصيراً بعنوان: "للنسور قدرتها أن تفرض الكلمة في معادلة امتلاك المدى" رسالةً إلى من يهمُّه الأمر من صنّاع القرار في أديس أبابا.

الخلاصة

تغيَّرت الشُّروط الموضوعيَّة الّتي مكَّنت إثيوبيا من الوصول إلى هذه النقطة: بناء السدّ بشكل أحادي بلا تشاورات جديَّة مع دولتي المصبّ، والملء الأحاديّ؛ فالطَّرف الذي كانت مواقفه طعنةً في خاصرة مصر، السّودان، باتت إدارته الانتقاليَّة بشقيها العسكريّ والتقنيّ، أكثر وعياً بخطورة بناء السدّ على السّودان نفسه، وبخطورة الممارسات الإثيوبية بشكل عام.

استطاع النِّظام المصريّ استيعابَ صدمته الأولى من النِّظر إلى التغيير الذي حدث في السّودان، من زاوية كونه تهديداً محتملاً إلى كونه "فرصةً"، من وجهة نظره، ليس في مسألة سدّ النّهضة وحسب، بل في النَّظر إلى التشكيل السِّياسيّ الحالي في السّودان باعتباره تشكيلاً "طبيعياً"، يُطبِّع مع "إسرائيل" مثله، وتربطه علاقات بالولايات المتّحدة، وروسيا في نفس الوقت، ومن المهمّ للنِّظام في مصر احتواؤه سريعاً، بعيداً عن خصومه، وخصوم حلفائه، على غرار تركيا وإيران وحماس.

بالرَّغم من مضيّها قدماً فيما تريد، فإنَّ إثيوبيا باتت تشعر بسحب البساط من تحت أقدامها بالفعل نتيجة أخطائها من جهة، ووعي خصومها من جهة أخرى. في أحد أحدث التصريحات الرسميَّة لسفير إثيوبيّ في أحد البلاد العربيَّة، يتّهم المسؤول نصاً الحكومة السّودانيّة بالضّعف، والجيشَ السّودانيّ باحتوائه مجموعات تنفِّذ أجندةً مصريَّة، وذلك بعد أيَّام من ادعاء إثيوبيا هجوم الجيش السوداني على مواقع داخل أراضيها.

حتَّى لو كانت حكومة أديس أبابا ترى في الشُّروط الفنيَّة المصريَّة نوعاً من الإجحاف على أيّ مقياس؛ فمن الأفضل أن تقبل خلال الأشهر القليلة المتبقية قبل موسم الإمطار والملء الثاني، بالتوصُّل إلى اتفاقٍ شامل، يحمي وجودها السِّياسيّ، وأمنَ المنطقة، وحلمَ المجتمع. فخلافاً لما طرحه كثيرون، عن احتمال قيام الجيش المصري بتوجيه ضربة واسعة للبنى التحتية في إثيوبيا كالمرافق العامة رداً على جموح إثيوبيا في إيذاء ملايين السكان في المصبّ؛ فإن ما هو مطروح فعلياً من جهة السياسة والوضع العسكري، حالياً، هو ضربة جوية ثنائية مشتركة بين مصر والسودان، موجهة في الأساس للسدّ بغرض دفع الضرر، بأقل كلفة دبلوماسية، لتعطيل قيام إثيوبيا بالملء الأخير، وردعها عن أي خطوات أحادية مستقبلاً.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد سلطان
كاتب مصري مقيم بأستراليا
كاتب مصري مقيم بأستراليا
تحميل المزيد