“العنكريزية”.. عن حياة الفلسطينيين بالكويت قبل اندلاع حرب الخليج وبعدها

عربي بوست
تم النشر: 2021/01/17 الساعة 10:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/03 الساعة 09:42 بتوقيت غرينتش
رواية العنكريزية للكاتبة نوال حلاوة

أشعر هذه الأيام بقدر كبير من الحنين المشترك للماضي الذي كانت فيه جالية فلسطينية كبيرة التي تعيش في الكويت قبل حرب الخليج، وذلك ملاحظ في السياسة الكويتية ومواقف الكويت المتميزة في رفض الانسياق خلف إغراء التطبيع مع إسرائيل، كما تجده في الإعلام الكويتي وفي أقوال الأدباء الكويتيين وخاصة منهم الذين يزورون أراضي السلطة الفلسطينية وغيرهم.

 غزو صدام للكويت أدى إلى مآسٍ لثلاثة شعوب عربية، أولها مأساة الشعب العراقي التي لا زال يعاني منها رغم مرور ثلاثين سنة على المشكلة، وعانى منها الشعب الكويتي الذي لولا الظروف الدولية لتحول إلى متشرد في أصقاع العالم ينافس أخاه الفلسطيني ولكن الله سلَّم، والشعب الثالث هو الشعب الفلسطيني الذي تشرد ثلث مليون منه بعد أن كانوا يعيشون في الكويت حياة أقرب ما تكون إلى حياتهم في فلسطين لو لم يخرجهم منها الإسرائيليون.


الأسوأ هو ما دخل بين الشعبين الكويتي والفلسطيني من أوضار السياسة وسمم المشاعر الطيبة التي كانت تسكن قلب كل منهما نحو الآخر، وبقيت آثار هذه السموم في جسد الشعبين طويلاً ولكنها بالتعقل والتفهم بدأت تنهزم ليعود الود والحنين إلى الماضي المشترك، رواية العنكريزية هي رواية عن الحنين الفلسطيني إلى الكويت، أرضها وبحرها، حرها ورطوبتها، صحراؤها وسماؤها، تأخذنا فيها المؤلفة نوال حلاوة عبر نحو أربعة عقود من حياة الكويت وتطورها، وتكاد الرواية تكون تأريخاً اجتماعياً للكويت وتطورها ولحياة أهلها ومن وفد عليهم من الفلسطينيين.

رواية العنكريزية

تقول نوال حلاوة: "طفولتي في الكويت ستبقى أجمل أيام حياتي على الرغم من عدم توفر الكثير من الرخاء والرفاهية التي عاشها أطفالنا فيما بعد، كانت الأجمل ببساطتها وإنسانيتها، ومحبة الناس وصفاء سريرتهم، زمن عشته بروحي وسكن قلبي، زمن سُرقت فرحته، فضاؤه لم يعد فضاءنا وثروته لم تعد ثروتنا، وحبه لم يعد يسود في حياتنا لأنه سُرق منا هو الآخر، وحلت محله لعنة مستوردة جثمت على صدورنا وقلوبنا، كالصخرة التي وضعها الكفار على صدر بلال مؤذن الرسول" .

عادت نوال حلاوة لتزور الكويت قادمة من كندا، من بلد هجرتها الرابعة، تلتقي صديقاتها الكويتيات وتتساكب معهن الحنين الجارف، رأت الكويت الحديثة بعد إعادة إعمارها، ولتبحر عبر الذاكرة، من يوم أن حطَّ والدها رحال أسرته في الكويت وفي أحد أحواشها التي بُنيت داخل السور، كانت الكويت ما زالت على بدائيتها، فرق كبير بين يافا ونابلس -حيث كانت العائلة- والكويت حيث أصبحت، من جو صافي الهواء وأراض خضراء وبيوت أشبه بالبيوت الحديثة إلى صحراء وطوز ورطوبة، وبيوت يسودها الصهد، تعاني العائلة في استخدام بيت الخلاء وفي إيجاد الماء النظيف للشرب، وفي النوم حيث الحرارة العائلية، ومع الوقت تألف العائلة الحياة بصعوبتها الآخذة في الاندحار أمام التطور الذي تشهده الكويت، تألف الكاتبة المكان وتستمتع بالبحر، وبسوق السمك، ولؤلؤة البحر التي أهداها إياها أحد الصيادين، وتمر بنا في أسواق الكويت القديمة، وتعرفنا على وجبات طعام الكويتيين التي أصبحت تحبها، تعشق الفقع وهو الطعام الوحيد الذي تقبله معدتها خلال حملها بابنها ذي العيون العسلية بلون الفقع، حاولت أكل الجراد، درست في مدارس الكويت، بكت حين أطلق عليها الأطفال العنكريزية، بكت لأنها تريد أن تشعر بأنها ابنة المكان لا مختلفة عن سكانه كالإنجليز، تابعت الدراسة في معهد المعلمات، ولعبت في منتخب مدرستها ومثّلت في حفلاتها، ثم أصبحت مدرسة متميزة في رياض الأطفال وكانت لها طريقتها المبدعة في التدريس.

السرد أقرب إلى السيرة الذاتية منه إلى الرواية، ولكن الكاتبة مصرّة على أن تجعلها رواية فقد اختارت للبطلة اسم ميس الريم، أي تثني الغزلان، ولا أدري إذا كانت تقصد أنها من هجرة لأخرى كانت تنتقل وهي في رشاقة الغزال، أم لأنها كانت بارعة في رياضة كرة السلة، أم تذكرنا بميس الريم التي انقطعت العربة فيها بفيروز المطربة التي تخاطب الحبيب فيها كما تخاطب ميس الريم الكويت هنا:
 "تأخرنا وشو طالع بالإيد.. حبيبي وسرقتنا المواعيد.. أنا لو فيي.. زورك بعينيي.. وعمرا ما تمشي العربية".

وكذلك لتصبح رواية تغفل الراوية تتمة أسماء صاحباتها عن عمد، تقحم حكاية عن الفلسطينيين الذين يدخلون الكويت بالتهريب ويموتون في الصحراء بين العراق والكويت، ما يذكرك برواية غسان كنفاني (رجال في الشمس)، وتذكرك كذلك بإحدى حلقات التغريبة الفلسطينية لوليد سيف وحاتم علي.

وما يردك من الرواية إلى السيرة نشاط المؤلفة في عرض الفلكلور العربي في كندا، حيث يعرض الفلكلور الكويتي جنباً إلى جنب مع الفلكلور الفلسطيني والملابس الفلسطينية التي شغلت بجمالها غلاف الكتاب في لوحة عذبة التعبير. 

تقفز الكاتبة على الأحداث الأليمة التي فجّرت الألفة بين الشعبين سنوات لتعود اليوم أقوى مما كانت عبر حنين كل منهما للآخر، بعدما رمم البعد والتعقل سلبية المشهد، ولعل هذا ما أتاح للرواية استقبالاً حفياً في الكويت، وإن لم تخلُ الرواية تماماً من الإشارة إلى بعض الأمور التي خلقت عملياً تباعداً بين الشعبين، كان الشعبان أكثر ما يكون تآلفاً عندما كانا داخل سور الكويت، السور الذي يرمز هدمه إلى هدم جزء من التاريخ الكويتي.

تشير الرواية إلى أحياء خارج السور كادت تكون مقتصرة على أهل البلاد وحدهم، لم يكن الأمر مقصوداً ولكنه فعل الدولة العميقة، فالدولة دولة الأبناء الأصليين، أحفاد أبناء القبائل الثلاث التي هاجرت من قلب الجزيرة واتفقت على أن تتخصص كل قبيلة بنشاط لا تزاحمها فيه القبيلة الأخرى، فعائلة تتخصص بالحكم ويمنع تدخلها في التجارة، وعائلة أخرى تتخصص بالتجارة وثالثة تتخصص بالبحر وإنتاجه، أما الوافدون فلا موقع لهم في التقسيم، وأما التعامل الطيب الأسري بين أبناء القبائل والوافدين عليهم فإنه لا يلغي أصل المعادلة، بل يعمل عبر الدولة العميقة على إبعاد الوافدين عن المعادلة، ينسى الوافدون الذين يتعلقون بالمكان وأهله أنهم لا بد أن يغادروا، ويأخذ الزمن الفلسطينيين أكثر من غيرهم باعتبار أن يوم العودة لم يحن بعد.

بطلة الرواية تستقيل من روضة الأطفال بعد صدور قرار يحرم غير الكويتيين من إلحاق أبنائهم بها، تذكر الراوية أن الأمر جاء لأن الحكومة تنفق الكثير على مثل هذه المؤسسة النوعية وبالتالي فهي ليست ملزمة بالإنفاق على الجميع، المؤلفة معترضة على أن أبناء المدرسات لم يتم استثناؤهم ليبقوا مع أمهاتهم، يعني أن هناك تفهماً نسبياً من الراوية، فهي لم تعترض على أصل القرار وإنما اعترضت على نصيب أبناء المعلمات.

ابنها ذهب للدراسة في أمريكا، فقد إقامته لأنه لا يعمل في الكويت، عاد ليحاول المحافظة على إقامته وخسر عامه الدراسي، لكن الأنظمة كانت له بالمرصاد فانقطعت علاقته ببلد المنشأ. 

لا شك أن تكرار ذلك وخاصة مع الأسر الفلسطينية أشعرهم بأن علاقتهم مع الكويتيين علاقة محكوم بحاكم رغم أنها في الشارع وفي البيت وفي الديوانية علاقة أخ بأخيه وأخته. 

جاءالغزو، وكما قالت الكاتبة غادر ثلاثة أرباع الفلسطينيين الذين استطاعوا المغادرة، فلا يمكن لهم وهم الذين يعانون من احتلال أرضهم أن يتكيفوا مع احتلال شعب حبيب كشعب الكويت، البقية لم يكونوا قادرين على المغادرة، في أوائل الأيام ظن البعض أن ما حصل هو نوع من إعادة الوحدة بين الدول العربية! الوحدة التي كانت تسكن فيهم، خاصة أن صدام حسين جعله الإعلام الكويتي نصف إله، مع ممارسات الغزو.


أصبحت نظرتهم للأمر سلبية، القليل جداً كانوا ينتمون إلى أحزاب موالية للعراق وفصيل فلسطيني نشأ مع البعث العراقي كان بعض مجنديه مع جيش الغزو، وهؤلاء على ندرتهم استثاروا حفيظة الكويتيين، وعمّ غضبهم كل الفلسطينيين، وجاء الغضب الكويتي الأكبر يوم أعلنت عودة المدارس، ووقع العاملون الفلسطينيون فيها بين تهديدين، تهديد المقاومة الكويتية لمن لم يلتزم بعصيان الأمر وتهديد الجيش الصدامي للمستنكفين عن العمل، القليل عادوا للعمل، فالممارسات الحاكمة كانت تعني أنكم محكومون لنا ولستم مواطنينا، وجاءت سلطة أخرى تقول نفس الكلام ثم تحول غضب الكويتيين إلى انفجارات.

لكن الأمر انتهى بهجرة الراوية إلى كندا، فبلدها الأردن لا يسمح لها بالإقامة مع زوجها الذي يحمل وثيقة فلسطينية من مصر، ومصر لا تسمح لحامل الوثيقة بالإقامة، يقول لها الموظف الأردني بما يشبه المزاح: أنت جنيت على نفسك، لماذا تزوجت فلسطينياً، الحقي به أينما يكون؟

ولولا مساعدة البعض والمشروع الذي قدمه زوجها ففاز به بحق الهجرة إلى كندا لكانت وعائلتها اليوم في المخيم الذي أقيم على الحدود العراقية الأردنية للفلسطينيين الذين كانوا في العراق. كندا ليست كدول الخليج تخاف أن تجنس أحداً من الوافدين، دول الخليج تعيش هاجس أنها بلد الثروة الواحدة والنفط.

وفي عملها الدؤوب لتجد بدائل للنفط تتحداها نسبة تكاثر سكانية تعتبر الأعلى في العالم، يُتوقع أن يصل عدد سكان السعودية وباقي دول الخليج إلى 100 مليون بحلول عام ٢٠٥٠ م، وهذه الزيادة ستبتلع كل زيادة ممكنة في الدخل.

أما كندا فليس لديها هذه الهواجس، لذلك سرعان ما حصلت الكاتبة وعائلتها على الجنسية، وأصبحت الفلسطينية التي تحمل الجنسية الكندية تعمل متطوعة في الوطن المحتل، لتتعرف أكثر على وطنها ومواطنيها، أما في كندا فقد رعت مهرجان التراث العربي، بل وأصبح يشار إليها في الإعلام الكندي بسفيرة التراث العربي، واختارتها إحدى المجلات الإنجليزية امرأة العام، ولتبقى الكويت وفلسطين والحنين إليهما يملآن قلبها ويتوهجان في فؤادها.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

صالح الشحري
طبيب فلسطيني
طبيب فلسطيني واستشاري أمراض نساء و توليد. مهتم بالشأن الثقفي وقضايا المجتمع وسبق أن كتبت عدة مقالات في موقع huffpost النسخة العربية.
تحميل المزيد