تنتهي قصَّة الراعي الكذَّاب التي سمعناها كثيراً في صغرنا بمشهدٍّ يدلل على أن كثرةَ الكذب تطمس معالم الصدق، وتخلط الأمور على الناس فلا يعودون يفرقون بين الحقيقة وضدها، ولربما يتجاهلون مأساةً حقيقة لأنها جاءت بعد طوفان من الأكاذيب، ثم لا يعرفون أنهم فعلوا إلى أن يروا أنياب الذئب تقطرُ دماً، والقطيع فانٍ، والأوان فائت!
وفي ميادين الشهرة الإلكترونية، بوسط زخمها، وكثرة مريديها والمتهافتين عليها، يتحول الأمر إلى هوس، ويصبح "الشير واللايك" معياراً، ويسلب عدد المشاهدات عقولَ الروَّاد، ثم يبدو لنا من بعيد أن أنصافَ المشاهير الذين يعيشون بين الهامش والمتن، بين البطولة والكومبارس، بين الضوء والعتمة، تلاحقهم أحلام الظهور دوماً، ويسعون للوقوف وسط خشبة المسرح ولو مرةً ومهما كانت الطريقة أو ارتفع الثمن، فكأنما غاياتهم تبرر وسائلهم أيَّاً كانت!
ربما يسأل هؤلاء أنفسهم كلَّ صباح أي ثمن سندفع اليوم؟ أي ثمنٍ سيسلِّط علينا الأضواء.. أممم أي ثمن؟ وحين يجيبهم تقديرهم الغريب للأمور، وتقديرهم الرهيب للشهرة: فالٌ سيئٌ على صحتنا، سرطانٌ افتعاليٌّ مثلاً، مرضٌ نقدِّره نحن على أنفسنا رغماً عن قدرٍ منحنا الصحة! لا يقول لهم آباؤهم بصوتٍ خائفٍ مرتاع كما عوَّدنا آباؤنا "كش برى وبعيد، فال الله ولا فالك" بل يشجعونهم، ويربتون على أكتاف أفكارهم الغريبة، فيحلقون الرؤوس، ويشترون شحوباً سينمائياً للوجوه، ويتمارضون، ويظهرون على الشاشات شاحذين الاهتمام، وطالبين الشير، واللايكات، والتعليقات.
وحين تقول سيدةٌ تنقل لنا من داخل بيتها تفاصيل صغيرة وكبيرة، تشاركها مع كل من هبّ ودبّ لشهورٍ طويلةٍ بدون أن يُلاحظ عليها أن هناك عوائق تتلقف شهرتها "ومسيرتها الراقية": لو أنني أصنع فيلم رعبٍ صغيراً بحجم حركةِ يد تحكي قصَّة تعنيفٍ مثلاً؟! لا تقول لها أمٌ بعتب: ألا تخشين أن تخلقَ قصةٌ كهذه لا صحة لها ندبةٌ في قلب أطفالك يوماً! بل يُصَفَّق لها، فتخرجُ لنا بفيديو لا يتجاوز الثلاثين ثانية، تقدم لنا نداء استغاثةٍ بكلِّ بطءٍ وأريحية، يمتلئ تويتر بحسابات جديدة تنادي بإنقاذها، ويتصاعد اسمها حتى يصبح الأكثر تداولاً وبحثاً، فيتحدث عنها الجميع، وتشغل القريب والبعيد، و.. يرتفع بشكلٍّ لافتٍ وسريع عدد متابعيها ومشاهديها على يوتيوب! ثم لا نعرف أهي تستغيث من هوس الشهرة الذي وصل بها لهذه المواصيل، أم من نفسها، لأنها تظهر بعدها على شاشات التلفزة دونما أي عائق كذلك!
وحين يقولُ شابٌّ يبيع سمعتهُ بـ"لايك": لو أشتري شهرتي بمشهدِ تشهير، أقف أسفل شرفةِ بناية، أنادي بصوتٍ يسمعه القاصي والداني على "حبيبة سابقة" وتتماشى هي مع القصةِ دون أدنى اعتراض! لا يقول لهُ أبٌ: عيب يا ابني، من متى وإحنا بنستعمل الأعراض للاستعراض، وندفن الأخلاق والعادات والتقاليد بتراب المشاركات! ولا يقول لها هي كذلك أحد!
لو أن هؤلاء وأمثالهم يقدمون لنا محتوى! لو أنهم يقولون لنا ماذا قد يستفيد شابٌّ يتابع آخر يلملم شهرته من فوق جبال التفاهة، ومن بين لعنات الناس واستفزازهم، ومن تحت ظلال الاحتيال! وماذا يمكن لفتاةٍ أن تتعلم من أخرى شغلها الشاغل يكمن في تفاصيل لعبة "ببجي"! وهم كلهم كالذي بال في بئر زمزم، غامر بحسر ثوبه والناس ينظرون إليه، ثم غامر بتدنيس بئر ماءٍ طاهر، ثم بتلقي الضرب من الحجاج حتى كاد يموت، وكلُّ هذا فقط ليُقال: هذا فلان الذي بال في بئر زمزم!
لمَّا يصبح ركوب التريند أقصى طموحات الناس تظهرُ قصصُ أمثال "أم سيف، ومحمد قمصان، وخطيب أو حبيبُ سماح" كنماذجٍ للأثمان التي يمكن أن يدفعها الجيل الجديد في أسواق الشهرة، نماذج نسأل كلما شاهدناها: إلى أي مستنقعٍ سيجرنا حبُّ الشهرة؟ وماذا ننتظرُ من جيلٍ يبيع خصوصيتهُ وشخصيتهُ واحترامه مقابل تريند؟!
ونحن.. الشعوب التي تَعدُّ للمئة قبل أن تقرر وضع ورقةٍ ماليةٍ من فئةٍ صغيرة بيدِ محتاجٍ في الشارع، لأننا أكلنا مقالب كثيرة من أناس يمتهنون الشحاذة وهم يجلسون على أكوامٍ من الأموال، رغم أن الشارع قد يحوي على محتاجين فعلاً! نحنُ الذين قد نتجاهل جائعاً، لأن شبعاناً خدعنا ذات مرةٍ فاختلط علينا الحابل بالنابل؛ تتشكل المعضلةُ لدينا في أن أمثال هؤلاء لا يتوقف تأثيرهم على أنفسهم، ولا على المقلِّدين لهم فقط، بل يتسع ليخلقَ قالباً من التكذيب الدائم لكلِّ من يظهرُ على الشاشات طالباً مساعدةً ما، كما حدث حينما نسفَ الشحاذُ الكاذبُ حق المحتاجِ فعلاً! وكما حدثَ حين نادى الراعي نداءات هزلٍ كثيرةٍ أكلت روح التلبيةُ لما أنخلق الجِّد!
ألا تأكل الكذبات الكثيرةُ للمستمرضين والمصابين على ما يبدو بمتلازمةِ الاحتيال لا فقط متلازمة مانشهاوزن؛ حقوقُ المتعبين حقاً، والمرضى حقاً، والمعنَّفاتِ حقاً، والمعرَّضين للخطر حقاً؟! ألا يؤذي تسوُّلهم للمتابعين والمال والاهتمام؛ مشاعر ومعنويات المحتاجين حقاً لذلك، والمصابين حقاً بابتلاءات دون أن يدري بهم أحد؟! ألا يأخذون حقوق غيرهم بالتصديق والمساندة؟! ألا يقتلون عند الشعوب القدرة على تمييز الكذب من الصدق؟! ألا يجعلوننا نفكِّر ألفَ مرةٍ قبل أن نقرر أن هذا الشخص يحتاج فعلاً لأن يصل صوته، لا فقط لأن "يركب التريند"؟! ألا يمكن أن يتأخر بسببهم تصديقنا ذاتَ مرةٍ فلا ندرك الحقيقة إلا حين نراها بعد فواتِ الأوان على شكلِ دماءٍ تلطِّخُ أنيابَ ذئب!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.