يمثل كتاب "هروبي إلى الحرية" لعلي عزت بيغوفيتش نمطاً من الكتب لم نعتَد عليه، يتمثل في كتابة مئات الخواطر والآراء والتحليلات القصيرة عن كل ما يؤثر في حرية الإنسان من القوة والدين والديمقراطية والسلطة… إلخ.
يقول بيغوفيتش عن هذا الكتاب "لم أستطع الكلام، ولكني استطعت التفكير، وأدرتُ منذ البداية الحوارات داخل ذاتي عن كل شيء، وكل ما يخطر على البال".
وهذا الكتاب سطّره بيغوفيتش في السجن بعد أن تم اعتقاله من قبل السلطة الشيوعية اليوغوسلافية عام 1982، والحكم عليه بالسجن لمدة خمسة عشر عاماً، فقضى منها 2075 يوماً ثم أُطلق سراحه عام 1988م، وذلك قبل نهاية وتفكك يوغسلافيا السابقة (1991م) إلى عدة دول قومية، وكانت البوسنة والهرسك ذات الأغلبية المسلمة إحداها، حيث جرى وضعها على أساس ديني، رغم أن غالبية السكان من البوشناق بعد حرب أهلية ذهب ضحيتها آلاف المسلمين من قتل وتشريد واغتصاب، حتى بلغ عدد النساء المغتصبات أكثر من 60 ألف امرأة مسلمة، خصوصاً في مدينة سيبرينتشا، وذلك عام 1995م، وانتهى من كتابة خواطره هذه عام 1999م.
صار علي عزت رئيساً لدولة البوسنة والهرسك، فقد كان سياسياً ورئيساً للحزب الديمقراطي، بجانب ضلوعه في التاريخ والفلسفة، وبعد مخاض الحرب الأهلية التي دامت خمس سنوات، وما صاحبها من مذابح، والتي لم تتدخل بها أوروبا بصورة جدية لإنهائها، حتى إن وزير الدفاع البريطاني آنذاك مايكل هزلتاين صرّح وبكل صلافة بأنه من غير المسموح به قيام دولة مسلمة داخل أوروبا، ومع ذلك فلم تنعكس هذه الأحداث الجسام على تفكيره المتوازن وآرائه في تقييم الأمور السياسية، ولم تدفعه السياسة التي مارسها بشكل يدعو إلى العجب إلى التجاوز على شعوب الصرب والكروات وغيرهم، وهم في موقع العداء مع المسلمين البوشناق، ولم يهاجمهم بسبب عقائدهم، لأنه كان على يقين أن الساسة لا يمثلون شعوبهم بشكل مطلق، وأنه بجانب الاندفاع الإجرامي هناك من يرفضه، التي يرفضها الإنسان الاعتيادي بعيد التعصب.
في الفصل الأول من الكتاب، وهو بعنوان "عن الحياة والناس والحرية"، يتناول رحمه الله الجانب اللاأخلاقي من فلسفة غطرسة القوة المتجذرة في أعماق الفكر الغربي، والتي يعبر عنها بحروب الإبادة والاستعمار بكافة أشكاله على مدار قرون عديدة، خصوصاً بعد اكتشاف العالم الجديد، والشعور الدفين بمسألة التفوق الذاتي الغربي على الآخرين، والذي سطّره كبار فلاسفة الغرب بجانب رجال الدين من خلال إشاعتهم للأكاذيب حول الآخر.
لقد تجذَّر شعور التفوق الأوروبي الاندفاع نحو الشرق وافريقيا واستعمار العالم وإحتقار سكانهم وإبادتهم.
أما على المستوى الفكري فقد كان الغرب منبعاً للتعصب القومي وإفرازاته، مثل النازية والفاشستية، وتفضيل العنصر الأبيض على العناصر الأخرى، بجانب أفكار القهر والاستبداد الأخرى متمثلة بأبشع صورها، وهي الشيوعية وكل ما جاء من إفرازاتها، خصوصاً الإلحاد، وإن كنا نعتقد أنه لم يعط الأنظمة الرأسمالية نصيبها الذي تستحقه في عمليات الإبادة والقهر والاستغلال.
ويضرب بيغوفيتش مثالاً على ذلك ما ذكره الفيلسوف الألماني الشهير هيغل (1770-1831م)، في كتابه "فلسفة التاريخ" عن الزنوج والهنود والصينيين، حيث ينعتهم بصورة سيئة للغاية، فعلى سبيل المثال يقول: "لا يوجد في شخصية الزنجي ما يشبه الإنسان"، ويذهب انعدام القيم الإنسانية عنده الى أبعد حد، فلا يرى الإكراه أنه ضد العدالة، ولذلك فإن أكل لحوم البشر منتشر ومسموح به بين الزنوج!
وقد انتشرت هذه الخرافة في الأدبيات الغربية انتشار النار في الهشيم، وصار الرجل الأسود مثاراً للنكات والسخرية، وصدقها الناس في الغرب بغباء نادر.
ويسترسل هيغل فيقول إن أهل الصين لا يعرفون الشعور بالكرامة، ويطغى عليهم الإحساس بشعور الضعف، الذي يؤدي ببطء إلى النذالة، وترتبط بهذه الدونية لا أخلاقية عالية لديهم، إنهم معروفون بأنهم سيخدعون الآخر كلما أتيح لهم ذلك، الصديق يخدع صديقه ولا أحد يأبه عندما يعلم بذلك الخداع.
وهذه التقييمات لا تأتي من جانب فلسفي بقدر صدورها من أحقاد دفينة ضد الآخر وجهل بطبائع الشعوب.
وأما الهنود فإن المراوغة هي من الطباع الرئيسية لديهم، والهندي منهزم ووضيع وسافل في تقديم ذاته للمنتصر والسيد، وقليل الأدب، وقاسٍ تجاه المقهورين والمرؤوسين.
وهذا النوع من العنصرية العميقة لم يقلها أحد في الشرق، سواء من المسلمين أو من غيرهم، فما بالك أن صدرت عن واحد يعتبر من كبار فلاسفة الغرب.
لقد كان موقف هيغل من الشرق الإسلامي سطحياً، لعدم درايته الكافية بالإسلام وجهله بأدب الشرق، حيث لم يسمع إلا بقصص ألف ليلة وليلة، وقال إنها مستمدة من مصر القديمة!
إن هذه الآراء تعبر عن شعور لا أخلاقي تجاه الأعراق والشعوب الأخرى، لا تختلف مطلقاً عن مشاعر "الشعب المختار"، عند البعض الآخر، وبأدب بالغ يقول بيغوفيتش إن كل تعميم غير مقبول، ولكنه نقل ما قرأ على قاعدة ناقل الكفر ليس بكافر.
وهنالك كم هائل من هذه الدوافع العنصرية سواء على المستوى القومي أو الديني، وتأخذ أشكالاً فلسفية هزيلة وتُدرس على هذا الأساس.
فالفيلسوف الألماني نيتشه (1844-1900)، صاحب نظرية "موت الإله"، أي بمعنى آخر موت الأخلاق، اعتبر كل المثل الأخلاقية تمثل أخلاق العبيد، وهي ليست سوى تصرفات للدفاع عن مصالح خاصة، ومن ذلك تبلورت عنده أفكار "الرجل الخارق" والبقاء للأقوى حسب مقاييس فهمه، لتولد من هذه الأفكار ومن غيره الحركات الفاشية والنازية والحركات الهدامة، كالشيوعية التي لم تقل في ممارساتها بشاعة ضد كل من يقف ضدها من الشعوب.
إن الاندفاعات العنصرية ضد الآخر لها جذور ضاربة في الفكر الغربي عميقة، فعندما ألقى البابا أوربان الثاني خطبته الشهيرة عام 1095م في كلير مونت في فرنسا، في حشود المستمعين لإلهاب المشاعر وزج أوروبا في أتون الحروب الصليبية، التي استمرت لحوالي قرنين، وصف فيها المسلمين وأهل الشرق بقوله "جنس غريب على الرب تماماً قد غزا أرض أولئك المسيحيين، وأخضع الناس بالسيف والتدمير والحريق، كما ذبح البعض الآخر بوحشية وسوّى الكنائس بالأرض، لقد أجروا عمليات الختان للمسيحيين، وكانوا يصبون دماء الختان على مذابح الكنائس أو في أواني التعميد، وقد شقوا بطون أولئك الذين اختاروا تعذيبهم بالموت البطيء المثير للاشمئزاز، فينزعون معظم الأحياء الحية ثم يربطون ضحاياهم إلى العصى المدببة ويسحبونهم…"، وبعد انتهاء الخطاب تعالت صيحات عالية "الرب يريدها"!.
إن هذا المزيج من الشعور بالتفوق تجاه الآخر واستغلال الدين لمآرب استعمارية على مدار قرون عديدة كان النواة لكل الحركات الاستعمارية، أياً كان لونها من رأسمالية وشيوعية وتعصب قومي دفين.
وقد كان لهذه الأفكار أثرها البالغ في التفكير الفلسفي الغربي عن قصد وغير قصد، بجانب ما جاء في الكتاب المقدس عن نظرية الشعب المختار وإبادة الأعداء بكل السبل.
وقد يتعجب القارئ من زج الشيوعية مع النازية في بوتقة واحدة، ولكن بيغوفيتش الذي ذاق مرارة الاضطهاد الشيوعي، وعاصر تجربة ما كان يدور خلف الأسوار المغلقة للمعسكر الشيوعي له رأي آخر، فألمانيا النازية خرجت مهزومة عسكرياً من الحرب العالمية الثانية، بينما الاتحاد السوفييتي على العكس، وهذه الموازين لا تغير من ممارسات الاضطهاد بكل أنواعه، ولذلك يقول بيغوفيتش إن أوروبا وجدت نفسها أمام أصعب مأزق في تاريخها، إما الشر مع الأمل بالستالينية الشيوعية، أو الشر بدون أمل بالنازية الهتلرية، فمعسكرات الاعتقال السوفييتية سواء للمعارضين الروس أو الشعوب التي تم احتلال أراضيها تحت راية السوفييت لا تقل بشاعة عن مثيلاتها النازية، ولكن المنتصر يستطيع تزوير التاريخ وينخدع به العامة والسذج، وأما المغلوب فلا يستطيع عمل أي شيء سوى تلقي اللعنات، ولكن التاريخ سيسجل أنهما ومثيلاتهما يبقون وصمة عار وإدانة للحضارة الغربية والأفكار الفلسفية التي استمدت منها هذه الحركات مقوماتها منها.
لقد ذهب أحد المفكرين إلى أبعد من ذلك فقال إن "اللينينية- الستالينية وهي بنت الشيوعية البكر والنازية تتشابهان مثل الأخوين التوأم".
لقد كان من مظاهر التوأمة هذه نشر الإلحاد والاستهزاء بفكرة الخلق والأخلاق، حتى إن محمد أسد في كتابه الشهير "الطريق إلى مكة"، رأى لافتة كبيرة على حائط في محطة في تركستان المسلمة سنة 1926م، تُصور شاباً بملابس العمل الزرقاء، يقوم بدفع رجل عجوز بلحية بيضاء وبشكل مضحك بين غيوم السماء، ومكتوب باللغة الروسية: هكذا قام عمال الاتحاد السوفييتي بطرد الله من سمائه!، وهي من منشورات رابطة الملحدين في الاتحاد السوفييتي آنذاك.
لقد أدت غطرسة القوة إلى إبادة الملايين تحت مختلف الشعارات القومية والعنصرية والدينية، وإلى حروب تم فيها استخدام كل أنواع الأسلحة، وصار قتل الأبرياء مبرراً تحت أعذار واهية صارت مدعاة للسخرية، كنشر الديمقراطية والرخاء، وتم تغيير خارطة العالم كله لصالح العرق الأبيض، ليخرج العرق الأصفر- الصيني- ليرسم خارطة جديدة لم يتوقعها هيغل وتلامذته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.