لم أكن من المولعين بالإنستغرام قط، لكنني سجلت دخولي إليه من باب الفضول، ومع ذلك فقد بقِي مهجوراً بالكاد أطل عليهِ مرتين في السنة، إلى أن حذفتهُ للأبدِ؛ عكس اليوتيوب الذي كنت ألتهم فيه وقتي لحظات الفراغ، وإذ بربع الساعة يصبح أربع ساعاتٍ! لكن الأمر لم يدُم طويلاً ما إن اكتشفتُ أنَّ هناك تأثيراً خفيّاً عَلَيَّ، فللصورةِ رسائل، وللكلماتِ رسائل، ولأيّ فيديو أفكاره التي يروّجُ لها بشكله الخاص؛ فمع توالي الفيديوهات، وقفتُ متسائلةً بعد تكرّر الأحداث نفسها فقط بأشخاص مختلفين: فيم سيفيدني أن أعرف كيفَ تلقّى فلان خبر حمل زوجته الكاذب؟ في أيّ شيءٍ يعنيني أن تسافر فلانة وتواجهها مشاكل في الطريق؟ على أي أساس أضيّع وقتي في مشاهدة حياة الآخرين التي لا تعنيني بالمُطلق؟
في القانون الأخلاقي الذي خطهُ كانط، كان من جملة ما قاله، أن ليس من حق الإنسان أن يستغلّ الإنسانَ أبداً، وأن يتعامل معه كغاية في ذاته وليس كمجرد وسيلة، لكن اليوتيوب والإنستغرام لم يجعلا منا سوى وسيلة ليدرَّ بها أشخاص آخرون الأموال، فلسنا إلّا منتجاً يروجونه ويتقاذفونه كما يشاؤون، إذ إننا مجرّد دمى مضحوك عليها، ونشاهد أمامنا نموذجاً لحياةٍ لا تتجاوز ثلاثين دقيقة، ونقول إنها الحياة، كما لو أنّ الكواليس لا تخفي وراءَها الآلام، والبكاء، والفشل، والخيبة.. كما لو أن الحياة المثالية هي كل ما يعيشونه!
إن للصورة سلطة خاصة علينا، أتذكر أن إحداهن قالت إنها كلما تجولت في الإنستغرام قليلاً، نظرت إلى وجهها دون أن تراه، ونظرت إلى حياتها بسخط كبير، فالكل هناك يسافر، والكل جميل؛ لدرجة أنّ هناك فتيات طلبن عمليات تجميل تُحاكي "الفلتر" الذي يفضلنه، وهذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدل على التعطش إلى المثالية والجمال الذي يصعب اقتفاء أثره.
إن من المهول أن تنتهك خصوصيات الآخرين، دون أي إجبارٍ، وبدافع الرغبة المحضة، في فيلم الدائرة "Circle, 2017 "، كانت ماي أول يوتوبرز بمفهومنا الحالي، فقد تلقت عرضاً مغرياً من إحدى كبرى شركات مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى أثره أصبحت حياتها مكشوفةً للعامة، أربعة وعشرين ساعة على أربعة وعشرين، ما عاد وقت للنوم، وبالفعل؛ استطاعت كسب مشاهدين بالملايين، والبرنامج كان وضع كاميرات في كل مكان، ومنها كاميرات طائرة تستطيع إيجاد الأشخاص عن طريق مسح الوجه، إلا أن هذه الوضعية الجديدة مفرطة التخلي عن الخصوصية جعلتها تخسر صديقها، وتشهر بمشهدٍ غير لائق من حياة والديها اللذين رفضا أن يكون جزءاً من هذا الذي أقحمت نفسها فيه، لكنها في الأخير عادت إلى حياتها الخاصة، ووصفت ما كانت عليه بالظلام الذي لم تعد تستطيع تحمّله.
تصل إليَّ روابط لدعم قنواتٍ ناشئة، وأرفضُها صراحةً ما وجدت في المحتوى ما يتنافى مع معايير الخصوصية والترويج لما لا يعنيني أن أعرفه، فقد أصبح الركضُ وراء الشهرةِ هو الهدف الأسمى، دون أن يتذكر الإنسان أن حياته الخاصة خيرٌ ألف مرّةٍ من أن يكون حديث الجمعِ، وموضوع السّاعةِ، وعُرضةً للمارّةِ الفضوليين.. فقد شاعَ أنّ هناك ثروة تنتظركَ إن نجحت قناتك، أو كثر عدد متابعيك، لكن، هل هذه هي الحقيقة كاملةً؟
في حوار مع أحد الأصدقاء، قال لي إنه تعلَّم عن أحد الشيوخ حكمة لا يمكن أن ينساها وهي أنه لا يمكنك أن تأخذ شيئاً كاملاً؛ قد تعتقد أنك حصلت على ذلك الشيء، لكنك في المقابل ستكون قد خسرت أشياء أخرى. وكلام هذا الشيخ بالفعل يصف وقع الحالِ، فها أنت قد حزت مال قارون، وتاجرت بالأشخاص وخدرت عقولهم بجعلها تتعطش إلى المزيد والمزيد من المنتجات، وها أنت نفسك، تصبح سلعة وزهرة تنفتح وتتعرى من خصوصيتها، وفجأة، تغدو بلا هوية، فأينما بحثت عن نفسك؛ لا تجِدك.. لا في الماركات الباهظة المحيطة بك، ولا في الوجه الذي تلاعبت به الأيدي حتى ما عدت تعرفه.
إن على المراهقات أن يحذرن من هذه المواقع، فهي الباب الأوسع لاحتقار الذات، والتعرض للتنمّر، واتخاذ أمثلة مصطنعة، والعيش في حيز الصورة التي تشبه زوبعة تطحنُ كل ما لا يأتي على معاييرها نفسها، فهل يتخيل الأهل أن هناك أياماً تشعرُ فيها بنتهم بالحزن والكآبة فقط لأن شخصاً ما أخبرها في تعليق بأن لها أذناً كبيرة مع أنها عادية، أو لأنّها شاهدت جولة في غرفة إحداهن فقارنتها بما لديها من فساتين وسرير ومساحة فشعرت بأن ما لديها غير كافٍ، ممّا قد يجعلها غداً أو بعده ترافق شخصاً قد يستغلها فقط لتحصل على ما ترغب فيه، فكل ما يوجد سواء في الإنستغرام أو الروتين اليومي لأشخاص على اليوتيوب لا يدفع الإنسان إلّا إلى أن يكونَ مادياً، ويفكر بطريقة مادية، ويقتنع -مجبراً- بأن المال هو أهم ما في الحياة، ويغفل عن قاعدة شيخ صديقنا.
لا وجود لحياة مثالية، وهناك في الإنسان جوهر أسمى من أي جمال، ولا يجب على الإنسان أن يتقيد بالمعايير التي يرسمونها له كي يحيا، فليس من الضروري أن تسافر لمكان بعيد، وتختار فندقاً فاخراً كي تعيش، وليس من الضروري أن تشتري ساعة تستطيع أن تكفل بها يتيماً لو صرفتها أموالاً، فكل الساعات تعطي توقيتاً واحداً. ولا فائدة من أن تحزني لأن زوج إحداهن يغرقها بالهدايا وزوجك بالكاد يستطيع تقسيم راتبه على شهرٍ كامل، فالعطاء يكونَ قدر المقدرة، ولرُب بسمةٍ تنبع من القلب؛ فكأنما -بها- يهبك صاحبها الدنيا بما فيها.
بعد كل جميل، يوجد الأجمل، وسلسلة أجمل جميل لا تنقضي، وعلى قدر دقة الكاميرا سيكون الوجه مشكّلاً، بدل أن نلحقَ ما لن نبلغهُ، يجب أن نكتفي بما نملك، وننظر للجوانب الإيجابية فينا، وفي حياتنا التي نعيش، فمبدأ المقارنات يجعل الإنسان حبيس دوامة لا تكلفةَ له بها ولا فائدة ترجى منها، ويجدر التنويه إلى أن لكل شيء سلبيات وإيجابيات، وإن كانت هذه بضع من آثار ما رأيتُ من سوءٍ، فيجب ألا نغفل عن إيجابيات هذه المواقع أيضاً، وهذه بضع نصائح أوجهها لنفسي قبل أيّ شخص آخر:
1. على المرء أن يحرص على عمره، ولا يهب دقيقة منه لمن لا يستحقّ.
2. ما لم يكن المحتوى ينفعني فلا حاجة لي به.
3. لا تتابع شخصاً يراك كسلعة يتاجر بها على هواه، ويقلبها بالوجه الذي يشاء.
4. لا تجعل القدوة شخصاً أكبر همّه بيتٌ، وإشباع بطنٍ، وتفاخرٌ بما سيموت غداً ويتركه.
5. حاول أن تتابع فئة مثقفة، ولا تنحصر وسط الأشخاص الذين يشبهونك فقط، بل إن التعرف على وجهة نظر الآخرين ستساعدك في بناء شخصيتك واستقلاليها والتمييز بين صوابها والخطأ.
6. تخلّص فوراً من أي شخص/محتوى يُشعرك بطاقة سلبية أو يدخلك في دوامة المقارنات.
7. لا تجعل للتافهين سلطة وتثني كذباً على شخص فقط لتشجعهُ.
8. العالم الرقمي ليس عالماً حقيقيّاً، لكنّ تأثيره حقيقيٌّ.
9. لا وجود لما يسمى بحياةٍ مثالية.
والأخيرة تكمن في أنني أتمنى من كل الآباءِ أن يُبعدوا أطفالهم عن الشاشات، فإن من المشين للطفولةِ أن تغرقَ وسط عوالم تستغبيها، وتقتل إبداعها، فلسنا بحاجة لجيل تشبه فتياته باربي، ويولع فتيانه بالسيارات. إنّ الطفولة تضيع، ويمكن لمن يرغب في معرفة طرق فعالة في التعامل مع الأطفال أن يقرأ قليلاً عن منهج مونتيسوري في التربية، وسيتعلم منها وسائل أكثر نفعاً وإفادة للأطفالِ.
في كتاب الأمير لميكيافيلي، يقر بأن على كل حاكم أن يكون نفسه النموذج الخاص، ولا يستلهم النموذج من خارجه، وهذا يكون عن طريق تلقي تربية وتعليم يؤهلان الشخص للحكم، وفي المقابل، فإنني أرى أن على الطفل ألا يلهثَ وراءَ أيّ قالَبٍ مُكرّر، ويكون نسخة عن نفسه، وهذا لن يحدث ما دمنا نُسكته، ونخدّر عقله بحشوه في ركن يضمن عدم حِراكهِ، ويقيّدهُ بتلفازٍ يشغّل فيديوهات ملونة تستهويه، وتعرض نموذج أطفال يجعلون من أطفالكم عقولاً منوّمة، يسيلُ لعابها عند أيّ منتج من الذي يقدّمونه، ويصيرون هم أنفسهم إدماناً يجب أن يكون نصب أعينهم دائماً أن للتسويق العصبي فعله في العقلِ، وليس من اللائق أن نهمل هذا الجانب ونتخلّص من الطفل بإسكاته.
وكما أن الطفولة مهمة، فإن المراهقة مرحلة انتقال يجب ألا نغفل عنها، ويجب أن نراقب أبناءنا في هذه الفترة، ولا نغفل عن التحدّث معهم، ومعرفة أفكارهم، وإقناعهم بأنّهم أشخاص جميلون، وأن نتقبلهم كما هم، ولا نجعلهم في علاقة مباشرة مع هذه المواقع دون تحذيرات ونصائح وتوجيه.. ومُراقبة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.