قبل أن ينتهك واتساب خصوصيتكم.. أنتم انتهكتموها أولاً

عربي بوست
تم النشر: 2021/01/12 الساعة 11:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/01/12 الساعة 12:56 بتوقيت غرينتش

في الدوائر المأطّرة بالأحمر، داخل إنستغرام، أعرف كل شيء عن الكثيرين، أسبح في ذلك العالم من بيتٍ إلى بيت، ومن شارع إلى شارع، وحتى من مطبخٍ إلى مطبخ، وأحياناً من حمام إلى حمام، أرى ملاءة السرير، وأعرف لون الغرفة، وأشاهد ما يدور في البيت؛ أعرف ماذا اشترت اليوم، وأين استراحت، وما نوع السيارة التي ركبتها؛ أعرف ما يدور في خُلده، ومع مَن تخاصم، وكيف قضى وقته اليوم، طوال اليوم.

فوجئت حين وجدت اختراعاً يجمع اليوم في دقيقة واحدة، يأخذ ثواني من كل حدث، ويدمجهم، ثم يخرج لنا اليوم مختصراً في ستين ثانية، دون أن يغفل أي حدث في اليوم، عدا تلك المرات القصيرة التي اضطُّر فيها على مضض ألا ينشر صوره في الحمام، ومعوضاً لذلك ربما بصورٍ لطقوس الاستحمام، صورة الشمعة المشتعلة، الإضاءة الخافتة، صابون الاستحمام من هذا النوع، كريم البشرة من ذلك النوع.

أعرف ماذا أكلوا، وعلى أي سفرةٍ قدموه، ومن استضافوا على الطعام، وماذا شربوا بعده، وماذا كان الحلو، وكيف مضغوا طعامهم، في عُجالةٍ أم على بطء، لأن الـ"ستوري" التالية ستحدد ذلك، حين يُصب لنا الشاي أنا والآلاف ممن يرون ذلك، نحسب الفارق بين الحدثين، نرى أحدهم أو إحداهن، أحداً ما يغسل المواعين، سيشاهدون فيلم السهرة، سيقزقزون اللب، ويأكلون الفشار، ويقدمون الفاكهة في طبق أسود من البروسلين، قطّعوا الموز في حلقات دائرية، وصبوا عصير المانجو في كؤوس لا أكواب، سيبدأ الفيلم، قالت إحداهن نكتةً تقول كذا، بدأ الفيلم، صمتٌ وترقب بينما يضعون أغطية مزركشة بالورود فوق أرجلهم وهم يشاهدون، ما اسم ذلك الفيلم؟ ربما يكون "ذا جريت هاك"، سيفاجَأون فيه بما تعرف عنهم شركات مواقع التواصل وما تجمعه من بياناتهم، سيلعنون اختراق الخصوصية، وسيقولون لنا إنهم لعنوا اختراقات الخصوصية، ثم سينامون الآن، وقد نشروا لنا صورة اللحاف والأباجورة، وتوقف إدرار الحالات في الدوائر المأطرة بالأحمر.

كل هذا يا سيدي مع إنسان واحد، في دقائق مبعثرة على مدار اليوم، وغير الإنسان الواحد هناك العشرات، المئات، على حسب سعة الحساب، والحساب الواحد يسع من الأغراب ملايين، نعرف كل شيء يظهر لنا، ثم نحكم، بلا إرادةٍ منا، على حياة ذلك الشخص إذا ما كانت بائسة أو مرفهة.

قد تكون السيارة ليست له، وقد يكون ذلك جزءاً مرتباً من بيت مهمَل، وقد يكون الهاتف لصديقٍ آخر، وقد يكون لجوؤه للمواصلات لأن سيارته معطلة، وقد يكون سفره من أجل العمل لا السياحة، وقد يكون قد صور هذه المناظر المريحة من شباك الحافلة بينما كان عائداً من يوم عمل متعِب، لعل الطعام الذي أعدَّه كان مرة واحدة في الأسبوع، ولعل كل ذلك الذي يعيش فيه من ترَف، تختبئ وراءه حكايات من قرف.

ثم يأتي الرجل أو تأتي الفتاة، يلعنون الناس لتدخلهم في حيواتهم، ويقولون "مين باصص لي في حياتي؟" لا والله؟ يا أستاذ، يا هانم، أنتم من جلبتم عيون الناس إلى حيواتكم، فلمَ تستغربون وجود أنوفهم؟ هو وجهٌ واحدٌ لا ينفصل بعضه عن كله، ولا عجبَ من أن تدخل الأنوف مع العيون والآذان، وهذا ليس ذنب الناس بالمرة، فإنهم يمرون في الشوارع لا يعرفون ما وراء أبوابها، ويمضون بلا أذى، لكنهم يجدون فجأة من يفتح بابه، ويشده إلى الداخل بلا داعٍ، ويقول له انظر هذا، انظر إلى تلك الغرفة، انظر إلى طعامي، انظر إلى حياتي، انظر إلى كل شيء! فهل لصاحب البيت حق أن يسأل الزائر عن غض البصر؟

أعلم أننا في مواقع "تواصل اجتماعي"، نتشارك بعض الأشياء، نصنع مناخاً يقلص المسافات، ننشر بعض ما يُشعر الآخرين أن لهم شبيهين في أماكن أخرى وإن كانوا لا يعرفونهم، نسمح باطّلاع الناس على دقائق من أيامنا، نلتقط صورةً ونضعها، نكتب نصاً، نناقش أمراً، نضحك على نكتة، كل ذلك مقبول وفي حدٍّ معقول، وهو ما يستطيع الآخرون رؤيته كذلك في الحياة العادية، سيرونني مرةً في الشارع أقود سيارة، ومرةً أشرب الشاي على مقهى، ومرةً أشتري ثوباً من متجر، ومرةً أقول نكتةً في مجلس، لكنَّ أحداً منهم لن يكون معي طوال اليوم، يعلم ما أفعل بالضبط، بالترتيب، بالتفصيل الممل، وأنا لا أعرفه ولا يعرفني أصلاً، أو بيننا معرفة ضئيلة، حتى وإن افترضنا بأن يفعل إنسانٌ واحدٌ ذلك، فإنني لن يجالسني العشرات أو المئات من الناس أربعاً وعشرين ساعة في اليوم، كل يوم.

هنا يتحول الأمر من تواصل اجتماعي إلى انتهاكٍ جماعي، مِن المعقول في ذلك الأمر إلى الجنون، من الحد المقبول إلى اللاحدود، من احترام أنفسنا وبيوتنا وحرماتنا وخصوصياتنا، إلى تفريط حديثٍ في كل ما يخصنا، حتى لا يبقى لنا منا شيء، ونراجع أنفسنا في آخر اليوم، فلا نجد أمراً واحداً عملناه ولم يعلمه أحد.

ثم إن ذلك الجنون جعل الناس ينسون الأصل، ينسون الواقع الحقيقي ويعيشون الافتراضي بكامل حواسهم، فينصرفون إلى التوثيق بالصور، والتخليد بالفيديو، ومشاركة الأحداث لحظةً بلحظة، دون أن يعيشوا هم أنفسهم منها شيئاً، فيجلس الرجل وعروسه في سيارة زفافهما، يردون على تعليقات الناس على صورةٍ ما، وكم مرةٍ سيُزف العروسان في سيارة عرسهما؟ مرة واحدة في العمر غالباً، لكنها تضيع على الآخرين، على الوهم، على الواقع الافتراضي، على أمر افتراضي بالفعل، افتراضي والله العظيم، لكنهم يعيشونه أكثر.

ويترك الناس الدعاء على الميت، والوقوف على القبر، وتوديع الراحل، وتلحيد المغادر، ويلتقطون -دون حاجةٍ- صوراً لقبره، وصوراً لكفنه، وصوراً لنعشه، يشاركونها، ويغضون الطرف عن الظرف الذي يعيشه الرجل الآن، لن يجدوا الفرصة لتوديعه رغم أنهم وقوفٌ على قبره، لا لشيء، إلا لأنهم يعيشون وفاته الحقيقية تماماً، عبر واقعٍ مزيف.

ويترك الناس الأفراح والليالي الملاح، ويتركون ذكريات الحمل والولادة، ويتركون الحب وسنين الحب، ويتركون المشاعر والأحاسيس، ويتركون العائلة والدفء، ويتركون الأصدقاء والصدق، ويتركون أنفسهم وما يخصها، ويتركون جوارحهم وجوانحهم، ويتركون الواقع والحقيقة، وينصرفون إلى محاولات تصوير ذلك كله، ليس من باب توثيق لحظات معينة سيتركون بعدها الهاتف جانباً ويعيشونها، وإنما من باب مشاركة كل ذلك، دون أن يشعروا داخلهم بشيء حقيقي.

وتبقى الصور، لا أقول لا تبقى، لكن في الغالب ستتبخر المشاعر، لأن المساحة التي أخذتها في الذاكرة كانت أقل مليون مرةٍ مما أخذته الصور على مساحة تخزين الهاتف، ولأن الهاتف ذكيّ، أذكى من حامله، يؤدي وظيفته ويحتفظ بدوره، بينما ينشغل المصور عن نفسه، وعن ذاكرته الهشّة، وعن قلبه الغارق في الزيف، لأنّ المشاعر ما دامت لم تخزَّن في الصدور والقلوب والأذهان، فإنها لا تقبل أبداً أن تُحمّل في بطاقات الذاكرة.

اللص حين يسرق، وعلى الرغم من عدم أخلاقية وظيفته، فإنه يؤديها على أكمل وجه، والقاتل حين يقتل فإنه يكون قد أدى مهمته. شركات مواقع التواصل، بحكم المادة ورأس المال، تؤدي عملها، مهما كان ذلك العمل إجرامياً. نحن متفقون على كونه جريمةً، ونتفق على كون تلك الجريمة تؤدى ببراعة، فيسبوك وواتساب وإنستغرام وغيرها يسرقونك، يتسللون إلى كل ما يخصك، ينتهكون خصوصيتك، مقابل استخدامك لخدمةٍ مجانية، يرتكبون جريمةً مدفوعة الأجر، لكنهم ليسوا المجرمين الأوائل بحقك، لأن المجرم الأول كان أنت، حين انتهكتَ خصوصيتك بنفسك، وبدون مقابل حتى.

فتحتَ حياتك على مصاريعها، وكسّرت الأبواب والشبابيك، وأزلت النوافذ والستائر، وقلتَ للناس تعالوا، تفضلوا عيشوا تفاصيل حياتي أكثر مني، وخذوا هذه، هذه خصوصيتي، هي لكم جميعاً، وحين ألومكم ذات يومٍ قولوا: عبيط! يتهمنا بالسرقة والتلصص، بينما كان هو السارق الأكبر، وزّع علينا نسخاً من مفاتيح بيته، وأعطانا جداول تحركاته، وأخذنا معه في كل مكان، ثم يعود يلومنا، ثم يعود يصرخ ويقول: حرامي! وفضلاً عن ذلك: من نحن ليطلعنا على حياته بذلك التفصيل؟ نحن عدد المشاهدات، وهؤلاء الأشخاص الذي لا يعرفونه والله، ووالله هو كذلك لا يعرفهم.

يا ناس، احفظوا لأنفسكم شيئاً منكم، لا تفنوا أعماركم بذلك الاختصار المخلّ، وبتلك السطحية الفارغة، لا تجعلوا اليوم ستين ثانية، ولا تجعلوا بيوتكم شوارع، ولا تعطوا الأغراب نسَخاً من مفاتيح بيوتكم، لا تكسروا أبوابكم، ولا تضعوا شاشات فائقة الجودة تعرض للناس ما تفعلونه كل يوم، ولا تختزلوا الذكريات في صور، لأن الصور الحقيقية هي تلك التي تبقى في الداخل حتى وإن لم تلمسوها، ولأن الصور التي ترونها بضغطة زر، لا تخلد شيئاً سوى الألوان والمكان والزمان، صور منزوعة الدسم، خالية منكم مهما بدوتم فيها واضحين.

رجاءً.. لا تقتلوا أنفسكم، ولا تزهقوا أرواحكم.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد