أن يسعد العالم الإسلامي بفوز بايدن أمر غاية في الغرابة، ويدل على جهل تام بالسياسة الأمريكية وبتاريخ هذه الدولة، التي ما فتئت تتدخل في شؤون الدول وتنقلب على دستورها "الفيدرالي"، الذي نصَّ على عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، ولكن يشاء الله تعالى فتسلط هذه الدولة على العالم لتحيله خرباً أكثر ما هو مخرب.
إن السياسة الأمريكية تهدف إلى بسط سيطرتها على العالم بكل الطرق والوسائل، فالغاية تبرر الوسيلة، لهذا وجدناها تهاجم فيتنام في السبعينيات، والعراق بداية الألفية، ولم تترك شبراً في العالم إلا أفسدته.
فالإفساد في الأرض مهمة خُلقت لأجلها الولايات المتحدة الأمريكية، ونحن لا نتحدث إلا عن السياسة، لا يهمنا الشعب الأمريكي الذي قد تعارض نسبة كبيرة منه هذه السياسة.
يرى ناعوم تشومسكي أن الوجود الأمريكي يُهدد السلم العالمي، وهو رأي صحيح أتم الصحة، ويصدر من شخص يعرف هذا البلد وتاريخه وسياسته حق المعرفة، فهو عالِم اللسانيات والمُحاضر في أكثر من جامعة، وهو شخصية بارزة للغاية، وما يراه هو تراه ناعومي كلاين، التي تتحدث عن نتائج تبني الساسة الأمريكيين لنظريات الاقتصادي فريدمان، أو عقيدة الصدمة كما عنونت كتابها.
بناء على هذا وغيره هل يمكن لعاقل أن يتوقع مثلاً تغيُّراً في السياسة الخارجية بوصول بايدن؟ هل يعتقد الناس أن الولايات المتحدة الأمريكية هي دولة عربية تتغير مواقفها وفق هوى الزعيم، وتتقلب يمنة ويسرة دون أن تعرف لنفسها اتجاهاً محدداً، فهي تمشي ببركة الله أينما حطت؟!
هل يعرف الناس أن بايدن من أهم مؤيدي الحرب على العراق، وواضع خطة تقسيم العراق؟
هذا الشخص لم ينزل من الفضاء، فقبل سنوات كان نائباً للرئيس أوباما، ولسنوات وهو يتحرك في بحر السياسة الأمريكية، وإذا اكتفينا بدعمه لحرب العراق فقط فإن الصورة الحقيقية ستظهر لزاماً.
ألن يكون بايدن أسوأ من ترامب؟
ربما لا، من يدري، ولكن الذي نتحدث عنه هو أن بايدن ابن بيئته، وأحد المؤمنين بالمشروع الأمريكي، وبالتالي لن نتوقع منه حل القضية الفلسطينية، وفي هذا مثلاً سبق أن صرح بأنه صهيوني الهوى، وأن أباه أخبره بأن عليه أن يكون صهيونياً!
ولن تعول عليه شعوب العالم لإحلال السلام، فالسلام والمشروع الأمريكي الصهيوني لا يتوحدان.
سيقول القائل إن ترامب أمعن في تدليل إسرائيل ودعم الديكتاتوريات في الوطن الإسلامي، ففي اجتماع مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى (G-7)، العام الماضي، نادى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على أحدهم بصوت كان عالياً بدرجة أسمعت كثيرين ممن حوله، قائلاً: "أين ديكتاتوري المفضل؟"، ليتبيّن بعد ذلك أن نداء ترامب كان موجهاً للسيسي!
نقول إن ترامب لا يمثل نفسه، بل دولته، وهو إن فعل كل هذا فبعلم الكونغرس، وترامب يرى أن مصلحة الأمريكيين في دعم الديكتاتورية مثلاً، بينما سيرى بايدن أن مصلحتها في تقسيم المنطقة وإبعاد الديكتاتوريات عبر خلق جمهوريات ديمقراطية، كما رأى أوباما سابقاً أن مصلحة أمريكا تكمن في السماح للإخوان بحكم مصر، فشدد على ضرورة حماية الانتخابات من التزوير، وتابع بنفسه النتائج، وأرغم مبارك على المغادرة، ولكن في الساعة التي وجد أن الإخوان -ولنقُل الدكتور محمد مرسي- لن يحقق أهدافه، وأنه يحيد عن الصراط الذي رسمته الإدارة الأمريكية، أمر الجيش بالتحرك وأسقط الإخوان، ولم يُعر الديمقراطية التي ذُبحت من الوريد أي اهتمام.
فالمصلحة أو الحلم الأمريكي فوق كل اعتبار.
أما عن مصلحة إسرائيل فلا نقاش في كون هذا الأخير بمثابة جاسوس في المنطقة، وورم زرعته الدولة العميقة أو حكومة العالم الخفية في أهم مناطق العالم، فدعمه ليس بيد ترامب ولا غيره.
مرة أخرى، لا أقول إن بايدن أسوأ من ترامب، ولكني أؤمن بما عرفته عن هذه الدولة، أنه لا بايدن ولا ترامب يملكان القرار، والذي يحرك خيوط اللعبة هم المصرفيون العالميون وأصحاب الشركات العابرة للحدود، وهؤلاء يمتلكون كل شيء في أمريكا والعالم، وليس الرئيس الأمريكي سوى لعبة في يد هذه الفئة يحركونها كيف يشاؤون، وفي الوقت الذي يظهر فيه الرئيس الأمريكي كأنه يحكم العام يقول الواقع إن هؤلاء هم الحكام الحقيقيون؛ إنهم ملوك العالم، وفي الوقت الذي يحاول فيه رئيس أمريكي مواجهتهم يحدث له ما حدث مع "جون كيندي"، في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1963.
بايدن ديمقراطي، والديمقراطيون عموماً أفضل من الجمهوريين في جانب واحد " التعايش"، فالجمهوريون كما رأينا مع ترامب مثلاً متعصبون للعرق الأبيض، وقد عاش الأمريكيون السود أيام سوداء مع هذا الرجل، الذي كان يبدو بشكل واضح أنه رئيس للبيض فقط، وقالها أكثر من مرة أنه يقوم بطرد الدخلاء، ويقصد بهم المهاجرين، وقد حدث أن منع سكان مجموعة من الدول الإسلامية من دخول الولايات المتحدة الأمريكية كسوريا والصومال، وتبنى مشروع الجدار العازل بين الولايات المتحدة والمكسيك، وله من المواقف العنصرية ما لا يعد ولا يحصى، وهو أول رئيس أمريكي شعبوي في تاريخ أمريكا؛ وفوزه في الانتخابات كان بمثابة الصدمة، خاصة مع اكتساح هيلاري للانتخابات، فقد حصلت كلينتون آنذاك على دعم 63 مليوناً و390 ألفاً و669 من المواطنين الأمريكيين، بينما حصل ترامب، الذي فاز في الانتخابات، نظراً لخصوصية النظام الانتخابي الأمريكي، على أصوات 61 مليوناً و820 ألفاً و845 من أصوات الناخبين.
إلا أنها خسرت معركة المجمع الانتخابي، إذ حصل ترامب على 306 أصوات مقابل 232 لهيلاري كلينتون، بينما تكفي 279 صوتاً للفوز.
وترامب هو أول رئيس أمريكي يمثل الوجه الحقيقي للجشع الرأسمالي، وهذا مرده إلى كونه رجل مال لا علاقة له بالسياسة، فولوجه لها من باب الصدفة لا أكثر ولا أقل، وتحوله من ممثل في المصارعة الحرة يتعرض للضرب ويتحدى المصارعين أمر غريب، ولو أنه يشبه نوعاً ما الذي حدث مع الرئيس الأمريكي "رونالد ريغان"، الذي صعدت به الصدف من ممثل مغمور إلى رئيس أقوى دول العالم، ولكن على الأقل ريغان مع أنه جمهوري حقق مكاسب مازال يتذكرها الأمريكون، فهو من أسهم بشكل واضح في سقوط الاتحاد السوفييتي، وسياسته الداخلية تتميز بالليونة، وفترته فترة ترف ورفاهية، بينما ترامب ما الذي قدمه؟ لا شيء؟!
لن نحكم على بايدن إذن انطلاقاً من ترامب، فترامب ظاهرة شاذة، ولكن ما نؤكد عليه أن بايدن أمريكي، وسيظل كذلك، ولا يعتقد أي شخص أنه يفكر في مصلحة الآخرين، وخاصة العرب والمسلمين، لا أعتقد ولا أظن والأيام بيننا.
فلا نعلق آمالنا على بايدن، ولو أني أتفهم الظروف التي يمر بها العالم الإسلامي والتي تجعل من بايدن ربما ضوءاً في نفق مظلم، فمع التنكيل والتعذيب والتفقير الذي يمارسه الديكتاتوريون، يحلم المقهور برجل يضرب على يد هؤلاء الظلمة، بعد أن فشلت كل الحلول السلمية وغير السلمية، يحق للناس أن تحلم، ولكن يجب ألا ترفع سقف تطلعاتها كي لا تصدم.
كلنا نحلم بعالم عربي إسلامي يعيش فيه المسلم وغير المسلم بكرامة وحرية، ولكن إذا ما دققنا النظر وجدنا أن هذا الواقع الذي نراه اليوم لم يخلق لأجلنا، بل على ظهورنا، فالذي تعيشه أنت يعيش ملايين الناس، إن العالم يئنّ تحت وطأة الظلم والاستبداد، حتى بات بايدن مسيحاً مخلصا، ولو أننا جئنا في عصر غير هذا وكان بايدن رئيساً طيباً لاتخذه الناس نبياً، أو على الأقل ولياً، فكيف تصنع الولاية، وتعلق الآمال على الناس، بأن يأتي هؤلاء الرجال بمرحلة يسبقها ظلم وفساد عظيمان، آنذاك يتعلق الناس بهؤلاء الذين يخلصونهم من بطش الظلمة واستبداد المستبدين، ولهذا تجد أن مسألة المهدي المنتظر أو المخلص تتكرر في عدة ثقافات.
إن الإنسان كائن غريب، يفرح لأتفه سبب ويحزن لأقل القليل، فمن حق الناس أن تفرح، ونحن لا نلوم أحداً، ولكننا نبين ما يجب أن يوضح، ولربما نكون قد أخطأنا، وبايدن هو المخلص الذي سيملأ الدنيا عدلاً بعدما مُلئت ظلماً!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.