في بيتنا البعيد كنت أملك علبةً من الكرتون، تحوي أشياء كثيرةً يدل كلٌّ منها على مرحلة من مراحل حياتي، وتُشكِّلُ عندي ذاكرة الطفولة وبداية تكوُّن وعيي على كافة الأصعدة، لو جربت الآن أن أنبش صندوقي ذاك "لو كان مازال موجوداً" لتلقفت يدي الكثير من الذكريات برفقةِ كل قطعة، ولكن الذكريات الأكثر زخماً وحضوراً حتى الآن سترافق العديد من "العُصب الخضراء" المقصوصة من الورق تارةً، والأقمشة تارةً أخرى، والمكتوبة عليها بخط طفولي متحمس "فلسطين".
هكذا تفتَّح وَعينا نحن جيل التسعينات على القضية الفلسطينية، فكانت انتفاضة الأقصى، وكان أطفال الحجارة، وكان محمد الدُّرة، وكانت أصواتنا في باحات المدرسة وداخل الصفوف تُنشد بصوتٍ مُتملِّك قوي "فلسطين داري ودرب انتصاري" وكانت "يا أولى القبلتين" تحرِّك مشاعرنا وتُنبت داخل قلوبنا الصغيرة بذور القضيَّة. وكانت ومازالت باقية "غزَّة" بمشاهدها الثابتة المقاومة داخل الذاكرة. والآن يأتي من يقول لنا إن القضيَّةَ ماتت، وإن السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين أمرٌ حتمي، وإن الجندي المدجج بالسلاح، الغازي لأرضنا يوزَن بذاتِ الكفةِ مع الطفل الذي الخالي كفّهُ إلا من حجر يذود به عن بقايا بيتٍ ولد فيه جدّاه قبلهُ. يأتي من يقول لنا "تعالوا نتصالح" ونستبدل الدم بالماء، ونقسم البيت بيننا وبينهم، نأخذ نحن منه حجراً للذكرى ونترك الباقي لهم، لأن الإنسانية تكره الحروب، ولأن أهل فلسطين هم من يشعلونها. يقولون إن السلام وارد حتى لو هَدم أحد أطرافه قرية العراقيب للمرة الـ182! يقولون إن مصافحة المغتصبين لا تصبغ اليد بالعار، وإن ما قضيتنا ماتت، فهل هذا صحيح؟
كرامتكم قد تفعل
يقول شيخٌ فلسطيني غزا الشيب لحيته كلها قولاً أفصح وأثبت من أقوالهم كلهم، لأنه لا يحكيه كلاماً، بل فعلاً، يصوغه في بداية العام الجديد -القادم على رفات عامٍ مليء بالتطبيع- على شكل ساقين ثابتتين في الأرض كأنهما سنديان مزروع منذ الأزل، وحجارة مقدسة تتربع بفخرٍ بين مطاطتي نَّقِيفة ثم تنطلق عالياً لتصرخ في كلِّ الوجوه المتخاذلة "القضية التي تعيش في قلب أطفال وشُبان وشيب فلسطين لا تموت" ولكن كرامتكم قد تفعل.
وهذه الأيام، بحلول ذكرى الشهيد الفلسطيني الذي تعاود دماؤه الامتزاج بأرضه كلَّ يومٍ، لتذكِّر البشر والشجر والحجر بأن التراب المروي بالدم لا يقبل بغير أهله أهلاً له، في يومه تبدو لي كرامة الحُكام أقل قدرةً على مجاراة كِبَر القضية وحجمها، فيظهر لي تطبيعهم دون قيمةٍ تذكر، مع استحقاقه للشجب والمعارضةِ القوية طبعاً. ولكنَّ الذي يجعلني أقف مبهوتةً هو محاولة "بعضِ" الشعوب تبرير ذلك، وتحوير المواضيع بما يناسب اتجاه حكوماتها، وتغيير المبادئ بين ليلةٍ وضحاها، البارحة يقول فلسطين داري، واليوم يقول "ما دام الفلسطيني باعها منذ زمن فمالي ولها"! يبدو المشهد هزلياً، ضعيفاً، وواضح المعالم.. وموجع، لأن الشعوب سند الشعوب وهي الأقدر على تَفَهم متاعبها، وآلامها، ثم نهون على أنفسنا بأن نقول "حتى في الموسيقى يبقى صوت الطبل أعلى من صوت القانون" وهكذا صوت الباطل كذلك.
هل ماتت فلسطين إذاً؟
حين مات المخرج حاتم علي، نعاه الناس بالتغريبة قبل أي مسلسلٍ آخر، وتحدثوا عن التغريبةِ أكثر من أي مسلسلٍ آخر، واستعادوا مشاهدها أكثر من أي مسلسلٍ آخر، وحين طبَّع بعضُ الحُكَّام وصفق لهم البعض رفض القسم الأكبر من الشعوب ذلك واستنكروا، ثم انتشرت على جدران البيوت الكويتية أرقام تدل على طول المسافة الفاصلة بينها وبين المسجد الأقصى، وحين ظهر الختيار الفلسطيني يحمل نقِيفته ويحارب بها كأنها مِدفع، تغنَّى الناس بصورته وانتشرت كانتشار نار الانتفاضة في هشيم الكرامات المنكمشة.
القضية لا تموت
ما دامت أختي تغني أسفل العمارةِ مع صويحباتها كل صباح "أنا بنت صغيرة فلسطينية". القضية لا تموت ما دامت قرية العراقيب قادرة للآن على بناء نفسها بعد كل هدم. القضية ستبقى ما بقي شيخٌ أشيب الشعر يرافق فتى مقنعاً بالأسود يتسلح الأول بنقيفته والثاني بمقلاعه ويخوضان الحرب عن أمة. القضية باقية ما بقيت قوافل شهداء فلسطين تحييها بالدم، القضية لا تموت ما دام هنالك بائعُ خضارٍ في حيٍّ نائي في مصر يكتب اسم فلسطين على عربته، القضية لا تموت ما دامت الأشرطة الخضراء تعيش في قلبي لا في الصندوق الكرتوني وحده.
وفي ذكرى الشهيد الفلسطيني نثق نحن الذين تربينا على القضية أن كل ليمونةٍ ستنجب طفلاً، ومحالٌ أن ينتهي الليمون.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.