يختلف مفهوم القوة في العلاقات الدولية بين عصر وأخر، ففي عصر الإمبراطوريات، والاقتصاد الذي يعتمد على زراعة الأرض، كانت مكانة الدول تتحدد بناء على عدد سكانها، أي المحاربين والمزارعين والحرفيين، وبناء على المساحة التي تستحوذ عليها، وفي عصر الاقتصاد الصناعي باتت مكانة الدول تتحدد بناء على عدد سكانها، محاربين وصناعيين، وعلى مدى استحواذها على المواد الخام، في بلدها أو في مستعمراتها، كما على إنتاجها وسائل الإنتاج، ومدى تقدمها في صناعة السلاح، وقوتها التكنولوجية والتصديرية.
في المرحلة التالية، أي مرحلة الثورة التكنوالكترونية، أضحت مساحة الدول وعدد سكانها ليست من العناصر المقررة في قوة الدول، بالقياس للقوة التكنولوجية والعلمية والاقتصادية، وهو حال دول كثيرة مثل اليابان أو سنغافورة، بالقياس لدولة مثل الهند مثلا، ففي تلك المرحلة أضحت الدول الكبرى تسيطر على الدول الأقل نموا عبر تفوقها في العلوم والتكنولوجيا، وعبر هيمنتها الاقتصادية والمالية والإعلامية، أكثر بكثير من اعتمادها على قوتها العسكرية.
وفي الواقع فإن عدد السكان الكبير أضحى عبئا على كثير من الدول حتى لو كانت مساحتها واسعة، كما أن كثرة عدد السكان قد تغدو عبئا بنتيجة التحول من الاقتصاد الزراعي والصناعي إلى الاقتصاد ما بعد الصناعي ـ التكنوالكتروني، وبالنظر إلى أن أكلاف النمو السكاني تفوق معدلات النمو الاقتصادي. وكذا الأمر بالنسبة لمساحة الدولة، حيث إن تلك المسألة لم تعد ميزة اقتصادية أو أمنية، خصوصا بعد أن كثفت أو قلّصت وسائل الاتصالات المساحات، وبعد أن باتت دولا كثيرة تعجز أو تنسحب من مجال تقديم الخدمات الأساسية لسكانها. أما القوة العسكرية فهي أن لم تكن متوازنة مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية يمكن أن تتحول إلى كارثة، وهو ما حصل بالنسبة للاتحاد السوفييتي السابق، ويحصل لكوريا الشمالية الآن، ولإيران أيضا. وبالنسبة للموارد الاقتصادية فإذا لم يقترن وجودها بإدارة رشيدة، وقدرات تكنولوجية، وبنية مؤسساتية، فلن يكون لها صلة بالمجتمع المعني ولا بتطوير إمكانات الدولة المعنية (الثروة النفطية في عديد من البلدان العربية مثلا).
الحاصل أن المبالغة في تعظيم عامل القوة العسكرية، على حساب غيرها، لم يعد يفيد بالضرورة في تعزيز قوة الدولة، بالقدر الذي كانت عليه في السابق. ولنلاحظ هنا أن الاتحاد السوفييتي (السابق) انهار على الرغم من قدراته العسكرية الضخمة، وموارده الهائلة، ونفوذه خارج حدوده (من خلال الحركة الشيوعية). بل إن روسيا الاتحادية اليوم تبدو كرجل مريض، رغم قوتها العسكرية، بالقياس لدول ناهضة؛ علما أنها تمارس نوعا من القوة السياسية، بامتلاكها فيتو في مجلس الأمن، المستمد أصلا من نظام القطبين السابق.
أيضا ها هي الصين تحاول أن تتحمّل، بأقل ما يمكن، بعضا من أعباء السياسة الخارجية، لصالح تحسين قوتها الاقتصادية والتكنولوجية التنافسية مع الأقطاب الدوليين الآخرين، في محاولة منها لاستباق الزمن، وجسر الهوة الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية وفي نمط الحياة، مع الدول الكبرى الأخرى، لكنه تحاول ذلك دون أن تدعي لنفسها دورا إقليميا أو دوليا، ودون التلويح بالقوة العسكرية التي تمتلكها، باعتبار أن ذلك يستنزف قدراتها، ويضعف من إمكانياتها، ويزيد خصومها، ويلهيها عن تحقيق الهدف الذي تحدثنا عنه.
وبحسب المعلومات المتوفرة فقد ارتفع إجمالي الناتج المحلي للصين من 140 مليار دولار عام 1979 إلى 1.40 ترليون دولار عام 2003، ووصل عام 2019 إلى 14 ترليون دولار. كما ازداد الحجم الإجمالي للتصدير والاستيراد من 29 مليار دولار أمريكي عام 1979 إلى 850 مليار دولار أمريكي عام 2003، وصولا إلى 2.5 ترليون دولار عام 2019.
وكان بول كندي (المؤرخ والمفكر الأمريكي المعروف) حاجج في كتاب له عنوانه: "صعود وهبوط القوى العظمى"، بشأن عدم قدرة دولة ما على مد نفوذها خارج حدودها بالاعتماد على تنمية وسائل الهيمنة العسكرية، وأكد أن مثل هذه الدولة التي تنصرف عن الاهتمام بتنمية الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا والموارد البشرية، سيصيبها العطب عاجلا أم آجلا، بسبب عدم قدرتها على التوفيق بين التزاماتها الداخلية والخارجية، والمشاكل الخارجية التي ستتعرض لها.
وللتذكير، أيضا، فإن قوة إسرائيل، لا تستند فقط إلى قدراتها العسكرية (على ما يشاع)، أو إلى دعم الولايات المتحدة لها، فحسب، فعلى أهمية هذين العاملين، فإن إسرائيل تستمد قوتها من طبيعة نظامها السياسي، وأيضا من اهتمامها بتنمية اقتصادها ومواردها البشرية ومستوى حياة مجتمعها. فمثلا يبلغ حجم الإنفاق على الفرد في إسرائيل، في مجال التعليم، حوالي 1200 دولارا، في حين أنه في العالم العربي يبلغ حوالي 110 دولارا، في العام، علما أن الإحصائيات تؤكد وجود نسبة أمية تعادل 40 بالمئة في العالم العربي! أما حصة الفرد الإسرائيلي من الإنفاق على البحث العلمي فتبلغ حوالي 500 دولار، في العام، في حين انها في اسرائيل تراوح بين 3 ـ5 بالمئة من ناتجها السنوي، الذي بلغ 400 مليار دولار، وتبلغ حصة الفرد منه 42 ألف دولار سنويا، في حين إنها في إيران 1500 دولار مع ناتج إجمالي قدره 450 مليار دولار، مع الأخذ في الاعتبار أن عدد سكان إيران عشرة أضعاف سكان إسرائيل، ومساحتها أكبر بكثير أيضا مع ثروة نفطية هائلة.
ولا شك أيضا في أن تسارع وتوسع مسارات العولمة جعل التأثر المتبادل بين الدول أكبر بكثير من قبل، بحيث أن ما يحدث داخل دولة معينة بات يبلغ تأثيراته دولة أخرى. ومعنى ذلك أن مسارات العولمة عززت من تآكل مجال السيادة الوطنية، لصالح الدول الكبرى المهيمنة على وسائل العولمة ومساراتها؛ ويحصل ذلك خصوصا في المجالات الاقتصادية والسياسات المالية، وفي المجالين السياسي والأمني أيضا.
هكذا لم تعد كل دولة في عصر العولمة، ولاسيما في عصر الهيمنة الأحادية (الأمريكية) على مسارات العولمة، قادرة على التفرد بسياساتها الخارجية، أو القيام بأنشطة أمنية داخل حدودها أو خارجها، من دون مراعاة تأثير ذلك على النظام الدولي؛ يستثنى من ذلك بروز ظاهرة الجماعات اللادولتية، (ومنها الجماعات الإرهابية مثلا). وبذلك فإن مسارات العولمة خلقت علاقات قوة جديدة وحدت من مجالات قوة الدول وقننتها.
باختصار لا يمكن لدولة أن تعزز مكانتها في الحاضر بوسائل أو بمفاهيم متقادمة، كما لا يمكن لدولة ما أن تخوض صراعها في عصر معين بوسائل وبمفاهيم وبعلاقات تنتمي إلى عصر مضى وانقضى.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.