تابع الجميع وقائع التوقيع على "اتفاق العلا" لطي الخلاف الخليجي-الخليجي والإنهاء الكلي لحصار قطر، وربما كان مثيراً اللغة البروتولوكية واللياقة السعودية في استقبال أمير قطر، والتي تظهر في الحد الأدنى، كيف تفسر المتغيرات الدولية والإقليمية سياسات الدولة، وكيف تشكل منظومة الأمن، المحدد الأساس لتكييف العلاقات الدولية، وتعديل المواقف السابقة.
لا يهم الآن سؤال من الكاسب من هذه المصالحة؟ فقطر بقيت على خط الممانعة، ولم تقدم أي تنازل، بما في ذلك المطلب السعودي الملح المتعلق بإقفال قناة الجزيرة. ولا يهم أيضاً، الآن تقييم الخسارة، التي نتجت عن سنوات من الخلاف الخليجي/ الخليجي، وكيف استُثْمِرَت هذه الأزمة، فربحت منها أمريكا وإيران على السواء، وذلك على حساب المصالح العليا الخليجية، بل على حساب منظومة الأمن الخليجي في المنطقة.
لا يهم كل ذلك الآن، لأنه أصبح جزءاً من التاريخ، والخوض فيه لن يحدث أي تقدم في الموضوع، سوى أن يكون درساً للاعتبار في المستقبل.
البعض حاول اختزال خطوة المصالحة الخليجية بأنها استجابة لمطلب أمريكي، وأن وجود جاريد كوشنير، أكبر مستشاري الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في طاولة قمة المجلس الخليجي، هو أكبر مؤشر على ذلك، وأن مصلحة أمريكا اليوم هو إنهاء هذا النزاع، وتوحيد الصف الخليجي في مواجهتها لإيران.
والبعض الآخر يعتبر أن هذا التصالح هو مقدمة للأسوأ، وأن الخطوة الآتية هي استكمال مسار التطبيع بدخول دول أخرى خليجية إلى لائحة الدول العربية المطبعة مع إسرائيل.
والحقيقة أن المصالحة الخليجية لا تنفصل بالمطلق عن سياسات إيران في المنطقة، بل هي جواب عنها، لأن المستهدف الأول من هذه السياسة الإيرانية المتمددة بأذرعها الإقليمية في المنطقة هي دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية.
مؤكد أن مصلحة أمريكا ثابتة في التسريع بخطوة المصالحة الخليجية، وأنها جزء لا يتجزأ من سياستها في محاصرتها إيران. لكن، في المقابل، لم تَدَع سياسة إيران أي خيار لدول الخليج، سوى التقاطع مع السياسات الأمريكية في المنطقة، فإيران اليوم باتت المهدد الأساسي لأمن السعودية، بعد أن أصبحت لاعباً أساسياً في كل من اليمن والعراق، وبعد أن أصبح تهديد ذراعها الإقليمية في اليمن (الحوثيون) يصل إلى عمق الأراضي السعودية، ويضرب مصالحها العليا.
لكن، هل قَدَرُ هذه المصالحة أن تبقى حبيسة الرؤية الأمريكية، تنفذ أجندتها، ولا تملك أي خيار للمناورة داخلها أو حتى خارجها؟
الجواب عن هذا السؤال يتطلب استدعاء السوابق التاريخية، وبشكل خاص، موقف إدارة أوباما من الملف النووي الإيراني، وكيف انعطفت لإبرام اتفاق نووي مع إيران، ضداً على مصالح السعودية، بل وضداً على مصالح كل دول الخليج، وكيف اضطرت السعودية إلى محاولة تنويع شركائها، والتهديد بتعزيز علاقاتها الاستراتيجية مع الصين وروسيا.
ثمة اليوم ما يشبه القناعة بأن إدارة جو بايدن ستسير في الاتجاه نفسه، وأنها اليوم، من خارج دائرة التنصيب البرلماني، تجتهد في إقناع القادة العسكريين بمخاطر توريث عهدها السياسي، حرباً أو توتراً أمريكياً إيرانياً يعقد مهمة الرئيس الجديد للإدارة الأمريكية في تفاوضه مع إيران، وأن التصعيد الذي تظهر مؤشراته اليوم هو مجرد استعراض أوراق القوة التفاوضية لكل طرف على حدة.
في المقابل، ثمة ضمانات أو تأكيدات أمريكية (من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب) لفائدة بعض دول الخليج، مضمونها أن أمريكا، وربما حتى إسرائيل، ستقومان بتوجيه ضربة قوية لإيران، تقلص من تهديدها للأمن القومي الخليجي، وأن من مصلحة دول الخليج، في هذه المرحلة الحاسمة، لاسيما السعودية، أن تتلقى إيران هذه الضربة، وإلا فإنها ستواجه السيناريو السابق، أي سيناريو انصراف أمريكا عنها، وتحويل اتجاها صوب إيران، إذ التفاوض مع الأقوى خير من خدمة الأضعف، الذي بات قادراً عليه، أن يكون دائماً في خدمة أمريكا.
المرجح أن للسعودية خياراتها، وأنها هيأت أوراقها بما يجعلها جاهزة للجواب عن سؤال ما بعد اتجاه أمريكا للاتفاق مع إيران، وأن جزءاً من هذه الأوراق، أن يطوى الصراع السعودي التركي، وأن تتخفف السعودية من مختلف العوائق التي تضعف صورتها في المنطقة، لاسيما ما يتعلق بملف حقوق الإنسان، وملف العلماء والدعاة المضطهدين، بل وحتى ملف الموقف من الإسلاميين.
لم يعد هناك من خيار للسعودية سوى أن تستفيد من تجربة قطر، في تقوية العلاقات مع تركيا، وفك الارتهان بالمشروع الإماراتي في المنطقة، فالسعودية على وعي كامل بالخلافات التركية الإيرانية في كل من سوريا والعراق بل وحتى في نارغورني كاراباخ، وتدرك أن مشكلة تركيا مع إيران لا تقتصر فقط على اختلاف استراتيجيتين إقليميتين، أو تعدد مناطق الاشتباك بينهما، وإنما هي أكبر من ذلك، لأنها ترتبط بمضمون المشروع العقائدي والسياسي للمشروع الإيراني في المنطقة، والذي يسير في الخط المعاكس للهوية المذهبية السنية التركية والسعودية.
ليس للدول الخليجية اليوم خيار واحد، هو الارتماء في الحضن الأمريكي، وكتابة شيك على بياض لفائدة الإدارة الأمريكية مقابل الأمن الخليجي، بل لها خيارات أخرى، منها ما يرتبط بتعميق العلاقات مع دول العالم الإسلامي، وبشكل خاص مع تركيا وباكستان، ومنها ما يرتبط بتقوية علاقاتها مع مصر ودفعها نحو المصالحة مع مكونات طيفها السياسي، ومنها ما يرتبط بتقوية علاقتها مع المغرب والأردن، ومنها ما يرتبط أيضاً بجعل تحالفاتها مفتوحة، في وجه قوى أخرى، مثل روسيا والصين، حتى لا تضطر دول الخليج إلى أن تعيش السيناريو السابق الذي لجأت فيه إدارة أوباما إلى إبرام اتفاق نووي مع إيران ضداً على مصلحة الأمن الخليجي في المنطقة.
السعي إلى هذا الأفق ليس سهلاً كما يمكن تصوره، ولا يمكن أن يكون على شاكلة ما وقع في المصالحة الخليجية، بل يتطلب هذا الأفق بذل كلفة مهمة، تبتدئ أولاً بحسم الخلافات السعودية التركية، والقيام ثانياً بإصلاحات سياسية في السعودية، والإقدام على انفراج حقوقي جريء، ينهي أزمة ناشطي حقوق الإنسان وأزمة الدعاة والعلماء، وتقديم مؤشرات كافية عن فك الارتهان بالمشروع الإماراتي في المنطقة العربية، والابتعاد عن أي أجندة تندرج ضمن الاستنزاف المالي والاقتصادي لتركيا، ثم إنهاء جبهة الصراع مع الإسلاميين، وتشجيع مصر على المصالحة مع الإخوان، واستثمار قدرات بعض أطياف الإسلاميين وتوظيفها في إنجاز مراجعات فكرية مهمة لنمط التدين السعودي، وذلك على طريقة النموذج المغربي في الاستيعاب، لكسب معركة الاعتدال التي تبنتها القيادة السعودية الجديدة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.