فيلم رسوم متحركة عن ما قبل الموت وما بعده؟
عن الشغف؟ وتحقيق الأحلام؟
عن الأرواح الضائعة؟
عن الأمل؟ وخيبة الأمل؟ حتى بعد وصولنا لما كنا نتخيله أنه حلم الحياة؟
نعم نحن نتحدث عن فيلم للرسوم المتحركة، ولكنه في الواقع، ليس مُوجّهاً للأطفال فحسب، والأصدق أنّ نقول، إنّه فيلمٌ للكبار، ويستطيع الصغار مُشاهدته أيضاً.
لم يعد غريباً أن ينتظر الكبار بشغف أفلام الأنيمشن أو الرسوم المتحركة كما كان الحال قديماً، حيث كان شائعاً أنّ هذه الأفلام مُخصصة للأطفال فحسب، فمنذ سنواتٍ ليست ببعيدة جداً، فتحت شركة Pixar باباً جديداً للأفكار والمعاني غير المُعتاد تقديمها للأطفال، بدأتها عام 1995 بالفيلم الرائع Toy Story، وكان آخرها فيلم Soul، الذي صدر في آخر ديسمبر الماضي.
وكان أنجح ما عبّرت Pixar عنه-التي صارت اليوم Diseny-Pixar- في أفلامها تلك، هو المشاعر، وهي ليست انفعالاتٍ مؤقتة، تنتهي بانتهاء الفيلم، بل هي مشاعر قوية، وعميقة، وتأتي من داخل الحياة الحقيقية، ولا تنتمي إلى الخيال والفانتازيا كما اعتادت ديزني أن تُقدم في القرن الماضي.
شاهدتُ مؤخراً فيلم Soul، ووجدت أنّ لديّ الكثير من المشاعر والأفكار بشأنه، وها هي خلاصة ما وجدت..
فيلم Soul وحلم جو جاردنر
يحكي الفيلم عن رجلٍ في منتصف العمر تقريباً، اسمه "جو جاردنر"، والذي يقوم بالأداء الصوتي لشخصيته، النجم الأسمر Jamie Fox.
في أول الفيلم نعرف أنّ جاردنر لا يقوم بعمله كمدرس موسيقى في أحد المدارس، على أكمل وجه فحسب، بل إنّ جو جاردنر يرى نفسه وُلد في هذه الحياة من أجل عزف البيانو وحب الموسيقى، موسيقى الجاز على الأخص.
لم يكن تدريس الموسيقى هو حلم جو جاردنر، كان حلمه هو أن يعزف البيانو أمام عشرات المستمعين، وأن يسمع صوت تصفيقهم العالي الذي يطرب أذنه، وأن يشعر بحرارة تشجيعهم التي تملأ قلبه بالدفء والرضا.
وتجيء اللحظة الذهبية التي طالما حلم بها جاردنر، حينما أُتيحت له فرصة العزف مع فنانة شهيرة في أحد الكازينوهات، وبينما يهرول جاردنر في شوارع المدينة سعيداً، يسقط في إحدى البالوعات المفتوحة، وهنا، تنفصل روح جاردنر عن جسده، ليبدأ رحلته نحو المحطة النهائية، التي لا يُريد أي منّا أن يذهب إليها أبداً، خصوصاً نحن على بُعد خطوات من الوصول للسعادة التي حلمنا بها لسنواتٍ طويلة. محطة الموت.
وبداية من هنا.. يأخذنا الفيلم إلى مناطق نفسية عميقة، نتفاعل معها بمشاعرنا، فنفرح، ونتألم، ثم تنهمر الأسئلة على عقولنا، وتستمر كتلة المشاعر والأفكار هذه حتى ما بعد نهاية الفيلم، تاركة إيانا.. مُمتنين، لهذه الرحلة النفسية الجميلة.
ما قبل الحياة.. كيف تتشكّل شخصياتنا؟
هذا السؤال الذي طالما بحثنا عن إجابته، غالباً سيُجيبنا العقل في إجابة بديهية وسريعة، من التربية، فتربية الأب والأم للطفل هي المسؤول الأول عن شكل شخصيته، ولكن، هناك القول الآخر المشهور إنّ الطفل يرث طباع والديه، وربما أجداده، حتى ولو تربّى على عكسها.
هذا السؤال الذي ربما لن يصل العلم إلى نتيجة حاسمة ودقيقة بشأنه، يعرضه فيلم Soul بشكلٍ بسيط. وكأنّ الأمر لا يستحق كل هذا العناء.
فبينما تهرب روح جو جاردنر بأعجوبة، من السير نحو نقطة نهاية الحياة، تهبط على أرضٍ تبدو وكأنّها من عالم الخيال، ونكتشف حينها أنّ هذا المكان هو مكان وجود الأرواح، لما قبل الحياة، أي قبل أن تسكن أجسادها على الأرض.
ونفهم أنّ لكل روحٍ منها، مجموعة من المميزات التي تُميزها عن غيرها، وفي نفس الوقت هناك ما يُسمى الـ Spark، وهو ما يعني "الشرارة" أو البريق، الذي يمنح لكل روحٍ سعادتها الخاصة.
أمّا عن شخصية الأرواح، فلكل واحدٍ منها شخصية مستقلة من قبل أن تُولد حتى، فهناك مثلاً، "سريعة الانفعال، كثيرة الفضول"، وهناك "المصابة بجنون العظمة، والانتهازية"، وهكذا.. وهي النظرية التي يتبنّاها الكثير جداً من النّاس في الواقع.
الهوس بالسعادة.. طريق يؤدي إلى الألم
جملة لن يُدركها الأطفال غالباً، ولا حتى العديد من الكبار، يقولها Moonwind وهو ما يُمثل الحكيم في الفيلم، لجو جاردنر، والجملة تقول، إن الحياة ممتعة، ولكن الهوس بهذه المُتعة، هو ما يجعلنا ننفصل عن الحياة.
في هذه الجملة السهل والممتنع معاً، فالحياة بكل تفاصيلها، تحوي الكثير جداً من المتعة، وفيها الكثير جداً من النّعم، ما لا نستطيع إدراكه، ولكنّ البشر في الغالب للأسف، دائماً ما يبحثون عن "السعادة"، وهي التي تعني لهم النجاحات العظيمة، والأموال الطائلة، والمناصب القيادية، والتي ما أن يحصل الواحد منّا عليها، سرعان ما يبحث عن ما هو أعظم منها، حتى يصبح الأمر في النهاية، مطاردة للسعادة، بهدف المطاردة، لا بهدف التوقف للشعور بمتعة اللحظة، والاستمتاع بما يملكه المرء حقاً بين أيديه.
الهَوس بالسعادة، يجعلنا نبحث عنها بعيداً جداً، بينما هي ساكنة فينا، وقابعة بين أيدينا.
وهي الحقيقة التي أدركها جو جاردنر، مُتأخراً للأسف.
هل نحن أحياء فعلاً؟ أم أنّنا أرواح ضائعة، تنتظر من يحررها؟
هذا السؤال ليس فلسفياً، فنعم قلبنا ينبض، وعقلنا يُرسل الإشارات، ونمارس عمليتي الشهيق والزفير بنجاح، ولكن هل نحن أحياء فعلاً؟
هل نشعر بكل شيء، تقاطع مع وجودنا على هذه الأرض؟
هل نرى فعلاً كل الأشياء؟ هل تدخل مجالنا البصري، الأشياء التي نُحبها والتي ننفر منها بنفس القدر؟
أم أنّنا نعيش حياتنا، الروتينية منها على الأخص، ونُمارس ما اعتدنا على ممارسته لسنواتٍ طويلة، بلا وعيٍ، وبلا اهتمام، وبلا روحٍ؟
سنعرف هذا السؤال يقيناً حينما يقترب منّا الموت، فهو الوحيد القادر على إخبارنا، بأنّنا قد عشنا حقاً، روحاً وقلباً، أو أنّنا عشنا كالأموات، ننتظر الموت لنرغب في الحياة. أليس هذا ما حدث فعلاً لجو جاردنر؟ ألم يكتشف معنى حياته، فقط حينما حان دوره، ليغادر عالمنا ذاهباً إلى العالم الآخر؟
يتعرف جو جاردنر في رحلة عودته إلى الأرض، بنوعين من المخلوقات، الروح التي لم تُولد بعد والمُسماة بـ 22، وهي الروح العنيدة التي لا تُريد أن تهبط على الأرض، والتي رافقها كمرشدٍ لها، من أجل مساعدتها على البحث عن "شرارتها" أو شغفها في الحياة، ومخلوقاتٍ أخرى مخيفة الشكل، علمنا بأنهم يُسمون Lost souls ، وهؤلاء كما يصفهم الفيلم، هم الضائعون في الحياة، المنفصلين عنها، بمخاوفهم التي لا يستطيعون الهرب منها.
وفي مشهدٍ رائع، نُشاهد تحرر أحد الأرواح الضائعة، لرجلٍ جالسٍ يؤدي عمله في أحد المكاتب على جهاز الكمبيوتر الخاص به، فنجده يقوم فجأة ليُطيح بكل ما هو على المكتب ليسقط أرضاً، ويُصيح قائلاً: "أنا حي، أنا حي، حرّروا أنفسكم".
هل نحن في انتظار أن يُحرّرنا أحدهم فعلاً؟
احذر ممّا تتمنى.. فقد تُصيبك خيبة الأمل
هناك مقولة ذكية، تقول إنّ القلب يحب ما يُحبّه القلب. هكذا ببساطة..
ولكن، حينما يأتي الأمر لما نتمناه.. لما نُريده عقلاً وقلباً، فهل نحن نُريد حقاً ما نُريده؟
وهل هناك أي وسيلة أخرى للتأكد من هذا، غير التجربة؟
فقد تكون التجربة مؤلمة، أو خسائرها كبيرة، أو المجهود الذي سوف يُبذل من أجل تحقيق ما نُريده، مجهود شاق وعظيم، فهل من ضامنٍ، يضمن لنا أنّنا حينما نحصل فعلاً على ما أردنا، سيمتلئ قلبنا بالسعادة، التي حلمنا بها طويلاً؟
هل من ضامنٍ؟
للأسف لا يوجد..
فها هو جو جاردنر.. استطاع أن يهرب من الموت، ويعود للحياة بعد صراعاتٍ كثيرة، ظنّاً منه أنّه فور جلوسه على المقعد أمام البيانو، عازفاً في فرقة كازينو الجاز الشهير، سيمتلك ما لم يمتلكه بشر، وسيحظى بالسعادة التي ظنّ أنّ مذاقها سيكون أجمل من أي شيءٍ قد عرفه يوماً، ولكنّه كان مُخطئاً.
فجاردنر وجد أنّ ما شعر به حينما حصل على ما أراده، لم تكن كما تصوّر أبداً، اكتشف جاردنر أنّه حارب طويلاً من أجل حربٍ وهمية، بلا مكاسبٍ تستحق.
ربما الرسالة الأجمل هي ما جائت في نهاية الفيلم، حينما يُمنح جاردنر حياة جديدة، ويتم سؤاله عما سيفعله فيها، فيقول: "لست متأكداً، كل ما أعرفه، هو أنّني سأعيش كل لحظةً منها".
ألم يُفكر أحدنا من قبل، أن نعيش "كل" لحظة من هذه الحياة؟
أن نتأمل في كل الأشياء ونمنحها فرصة، ربما نجد فيها من السعادة، مالم نجده في لحظات الحياة العظيمة والفارقة؟
لم لا؟
كل شيءٍ ممكن الحدوث..
ربما..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.