في كتاب السيرة الذاتية "البئر الأولى" يجعل جبرا إبراهيم جبرا العنوان مبتدأ، ويترك مضمون السيّرة كلّه هو الخبر الذي يصف حال البئر. ولو كان التّأويل أنّ العنوان خبر لمبتدأ محذوف تقديره "فلسطين- الطّفولة- البئر الأولى"، فإنّ البئر اسم مكان، له دلالة على التّجذّر والارتواء والعذوبة وانتظار امتلاء الدّلاء وحركة الأيدي والأجساد، وهي تنتظر أن يعلو الدّلو من البئر، وترقّب الفرح الذي سيأتي مع الماء، البئر مكان عميق يشبه قلب الإنسان، يشير إلى بيوت فلسطين، إذ كان لكل بيت فيها بئر، وهنا تحمل البئر مدلولاً شعبيّاً أو تراثيّاً تاريخيّاً، ويقف إشارة على ثقافة كانت في تلك الحقبة.
تحيل البئر الأولى بكونها مركّباً نعتيّاً عدديّاً، والنّعت هنا عدد، وهو عدد يوافق معدوده في حالاته كلّها، إلى رغبة الذّات في إحالة كلّ ما يتعلّق بالبئر إلى أوّل كلّ شيء: الحبّ واللعب والعلم والغضب والأحلام والتّجارب والألم والغصّات. وإذا ما كان التّركيب يعود إلى كونه خبراً لمبتدأ محذوف، أي فلسطين، فإنّ ذلك إحالة إلى أنّ فلسطين أول كلّ شيء.
ولا ننسى إشارة العدد واحد إلى ما قبله وهو الصّفر، أو اللاشيء، وما بعده وهو اللانهائيّ من الأرقام أو المقصود هنا الأحلام والتّجارب والحيوات، وعندها تصبح تلك البئر أساس كلّ شيء: فقبلها اللاشيء، لأنّه لا يعني الكاتب، وبعدها اللاشيء لأنه غير محدود؛ إنّ ارتكاز القبل والبعد إليها يجعلها بؤرة وعي الذّات.
في الوقت ذاته تصف البئر ثبات حال الذّات في بحثها عن امتلاء ما وهي تستقي من الماضي ( المبتدأ المحذوف) فلسطين أو الطّفولة وذكرياتها، كي تمتلئ وتروي جفاف أيّامها الحاضرة. البئر تعكس وجه المدلي بدوله فيها، فتجعله موجوداً، والبئر تحفر عميقاً كي تلقى مجرى ماء يكون نافذة إلى سطح الأرض، وهذه حال جبرا، يحفر عميقاً في الذّاكرة كي ينتشل ماء روحه ويتعرّف إليها.
إذا كانت البئر هي عتبة النّص الأولى فإنّ آخر مكان في السّيرة كان القدس، وهناك فقط تصل البئر غايتها وتجد الذّات ماء الحياة. ينتقل الحكي إلى القدس مع انتقال أخيه يوسف إلى العمل فيها، وهو حكي استرجاعيّ يتفتّح على عوالم داخليّة يثيرها الخيال، مع قراءة الكتب التي خلّفها يوسف في البيت، ومنها كليلة ودمنة وحكايات لافونتين وروبنسن كروزو ومجاني الأدب، وسيرة عنترة وألف ليلة وليلة.
بذلك تتّخذ القدس فضاء وجوديّاً أطّر لانطلاق الذّات في مسارها عبر المستقبل، وبذلك تصبح "الطّفولة- القدس- فلسطين" بجغرافيّة أحيائها الصّغيرة ودورها البسيطة وشوارعها وأزقّتها وحاراتها وحواكيرها ومرافقها المعروفة فضاء يحيط الذّات، ويؤسّس لثباتها في العالم. المكان بكونه القدس، هو الصّخرة، أي الثّبات والدّيمومة وكلّ ما يحيل إلى القوّة والتّجذّر الذي يصعب فكّ ارتباطه، عندها تصبح القدس هي الوطن، ويصبح الوطن هو الأنا في تجلّيها الأبهى الثّابت والأبديّ.
جبرا في سيرته الذاتية: "البئر الأولى" يحاول أن يستعيد ذاته التي شوّهتها المنافي، فالسّيرة هي نوع من الإخبار يقول: "هذا أنا وكيف أصبحت كذلك"، وهو لم يجدها إلّا حين تماهت في أزقّة القدس الوطن. أَوَليس ذلك دليلاً على أنّ الأرض تبقى في أبنائها وتشكّل هويّاتهم؟ وأنّ المنافي لم تغيّر ذائقة الفلسطينيّ، فلم يستبدل وطنه، وأنّ السّيرة مشروع وجوديّ يكرّس وجود الوطن، وبهذا فإنّ جبرا كان يسعى نحو بئره الأولى كي يستعيد فلسطين. فهل تؤسّس الذّاكرة الجماعيّة لمشروع استعادة ذلك الوطن المسلوب؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.