مرت، قبل أيام قليلة، ودون ضجيج، الذكرى الـ104 لميلاد أول رئيس للجزائر المستقلة، أحمد بن بلة، مرت دون أدنى اهتمام من معظم الصحافة المحلية، وذلك بخلاف نادي أولمبيك مارسيليا الفرنسي لكرة القدم الذي تذكر لاعبه السابق، فاحتفل بذكرى ميلاده من خلال تغريدة على حسابه الرسمي بموقع "تويتر"، عنونها بـ"الرئيس الهداف".
وقد منحت لي تلك التغريدة فكرة للكتابة عن الجانب الرياضي في حياة المناضل الكبير أحمد بن بلة، أحد الزعماء التاريخيين للثورة الجزائرية المجيدة ضد المستعمر الفرنسي.
ولد المرحوم أحمد بن بلة يوم 25 ديسمبر/كانون الأول 1916 بمدينة مغنية بأقصى الغرب الجزائري، قرب الحدود المغربية، حيث بدأ ممارسة رياضة كرة القدم مع أقرانه في مختلف ميادينها وأراضيها الشاسعة، قبل أن يواصل هوايته المفضلة بمدينة تلمسان القريبة خلال الفترة التي كان يكمل فيها تعليمه الإعدادي في بداية ثلاثينيات القرن الماضي.
وتوقف تعليم بن بلة في المرحلة الثانوية، مكتفياً بنيل شهادة "الأهلية"، وذلك بسبب الصعوبات والعراقيل التي كان يجدها معظم الشباب الجزائري في مواصلة التعليم العالي من طرف المستعمر الفرنسي الغاشم.
وعاد الفتى أحمد إلى مسقط رأسه، دون أن يحقق حلم والده بالحصول على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة)، التي كانت ستفتح له باب الهجرة إلى الجزائر العاصمة أو فرنسا للدراسة بإحدى جامعاتها والتخرج كطبيب أو صيدلي أو محام، ليصبح بذلك فخر عائلة "بن بلة".
خاب إذن ظن بن بلة الوالد في تحقيق أمنيته ولكنه لم يكن يدري أنّ "أحمد" سيكون فعلاً، بعد سنوات عديدة، مفخرة لعائلة "بن بلة" ويُدخلها تاريخ الجزائر من الباب الواسع وحتى التاريخ العالمي الحديث.
بطل الجزائر في سباق الـ400 متر عدْو
المهم لن أتحدث كثيراً عن التاريخ الثوري والسياسي للراحل أحمد بن بلة، لأنه ليس موضوعنا الحاضر، وأعود بك عزيزي القارئ إلى رجوع الفتى إلى مدينة مغنية في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، حيث اشتغل في الفندق الصغير الذي كان يملكه والده، ومساعدة أشقائه في استصلاح وزراعة أرض العائلة، وذلك بالموازاة مع ممارسة رياضة كرة القدم ضمن نادي اتحاد مغنية، وأيضاً رياضة ألعاب القوى، حيث كان أحمد أحد أبطال الجزائر في سباق الـ400 متر عدو.
وتوقف المشوار الرياضي لأحمد بن بلة في الجزائر، بشكلٍ فجائي، في عام 1937، بعدما تم تجنيده في الخدمة العسكرية الإجبارية بفرنسا، وبالضبط بإحدى ثكنات مدينة مارسيليا، وحينها لم يكتفِ الرياضي الشاب بلعب كرة القدم رفقة زملائه الجنود بل انضم لبعض الفرق الصغيرة بالمنطقة على غرار نادي "شاتو غامبير" ثم نادي أولمبيك مارسيليا في موسم 1939- 1940، حيث كان ينشط في خط وسط الميدان.
وقد كان من الممكن جداً أن يحقق أحمد بن بلة مساراً احترافياً كبيراً في رياضة كرة القدم لو لم تندلع الحرب العالمية الثانية في شهر سبتمبر/أيلول من عام 1939، وتُغير حياته مثلما غيرت العالم بأسره.
فقد كان من المقرر أن تكون مسابقة الدوري الفرنسي لكرة القدم لموسم 1939-1940 هي النسخة الثامنة للدوري الاحترافي للاتحاد الفرنسي لكرة القدم، لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية أدى إلى إلغائها وتعويضها بدوري جهوي بمجموعتين، حسب التقسيم الجغرافي للبلد، قبل أن يتم توقيف البطولة بعد "معركة فرنسا" التي بدأت يوم 10 مايو/أيار 1940، دون تحديد البطل.
و"معركة فرنسا" هي التسمية التاريخية لاجتياح قوات ألمانيا النازية لأراضي كل من فرنسا وهولندا وبلجيكا واللوكسبورغ.
وتم إلغاء أيضاً مسابقة كأس فرنسا لكرة القدم، وتعويضها بمسابقة تحت تسمية "كأس شارل سيمون" مفتوحة لعدد محدود من الأندية وعددها 64 فقط، وبلغ حينها نادي مارسيليا الدور النهائي وانهزم أمام راسينغ باريس بنتيجة هدف لواحد، يوم 5 مايو/أيار 1940 بملعب "حديقة الأمراء" بباريس.
سجل هدفاً في نصف نهائي كأس فرنسا
وبسبب تواجده المستمر في الثكنة العسكرية في حالة طوارئ على أهبة الاستعداد للحرب، فقد اكتفى بن بلة بالمشاركة في مباراة واحدة فقط مع نادي مارسيليا وكان ذلك في لقاء نصف نهائي الكأس وسجل هدفاً واحداً من التسعة التي فاز بها فريقه على نادي لانس (9-1) في الدور نصف النهائي يوم 7 أبريل/نيسان بمدينة بوردو.
وكان بن بلة خلال الحرب العالمية الثانية مقاتلاً شرساً، حيث شارك في معركة "مونت كازينو" الشهيرة بإيطاليا من يناير/كانون الثاني إلى مايو/أيار 1944، وذلك ضمن القوة الاستكشافية الفرنسية بإيطاليا تحت إمرة الجنرال "جوان" والتي كانت مشكلة من 4 كتيبات بجنود أغلبهم من إفريقيا، ثم شارك في تحرير فرنسا وفي حملة الاستيلاء على الجهة الغربية لألمانيا رفقة قوات الحلفاء في عام 1945، وذلك ضمن الكتيبة الأولى للجنرال "لاتر دوي تاسينييه"، حيث تمت ترقيته لرتبة ضابط صف، كما قلده الجنرال ديغول الميدالية العسكرية في أبريل/نيسان 1944 بإيطاليا.
فضل العمل الثوري على مواصلة اللعب
وعقب نهاية الحرب العالمية الثانية، عرض نادي أولمبيك مارسيليا عقداً احترافياً جديداً على لاعبه السابق أحمد بن بلة، لكن الشاب الجزائري فضل العودة إلى بلده ودخول العمل السياسي والنضالي من أجل استقلال الجزائر، خاصة بعدما صُدم لمجازر "8 مايو" 1945 التي ذهب ضحيتها حوالي 45 ألف جزائري، بمدن سطيف وقالمة وخراطة بشرق الجزائر
فانضم بن بلة في البداية لحزب الشعب الجزائري ثم في سنة 1946 لحزب حركة انتصار الحريات الديمقراطية، ثم للمنظمة الخاصة في عام 1947 التي تعتبر الجناح العسكري للحركة، وذلك قبل أن تعتقله السلطات الفرنسية في مايو/أيار 1950 بالجزائر العاصمة بتهمة المشاركة في عملية السطو المسلح على مركز بريد وهران في سنة 1949، فحُكم عليه بالسجن لمدة 7 سنوات، لكنه تمكن من الفرار في عام 1952.
وبعد سنوات من لجوئه إلى مصر، شارك بن بلة في إنشاء رفقة حسين أيت أحمد ومحمد خيضر "البعثة الخارجية لحزب جبهة التحرير الوطني بالخارج".
وتم اعتقال أحمد بن بلة مرة أخرى يوم 22 أكتوبر/تشرين الأول 1956، رفقة أيت أحمد وخيضر ومحمد بوضياف ومصطفى لشرف، بعد تحويل الطائرة التي كانت تقلهم من المغرب إلى تونس، من طرف قوة عسكرية جوية فرنسية، وذلك في أول عملية قرصنة جوية في التاريخ.
وبقي بن بلة في السجن بفرنسا إلى غاية إعلان وقف إطلاق النار بين جبهة التحرير الجزائرية وفرنسا في 19 مارس/آذار 1962 بعد حرب تحرير استمرت منذ الفاتح نوفمبر/تشرين الثاني 1954.
أول لاعب كرة قدم في التاريخ يترأس بلداً
وبرز أحمد بن بلة كالرجل القوي في الجزائر فور إعلان الاستقلال يوم 05 يوليو/تموز 1962، فتم انتخابه كرئيس للمجلس الوطني التأسيسي يوم 27 سبتمبر/أيلول من نفس العام، بعد حصوله على 159 صوتاً من مجموع 179 صوتاً المعبر عنها، ثم أصبح أول رئيس للجمهورية الجزائرية الشعبية الديمقراطية يوم 15 سبتمبر/أيلول 1963، ليكون بذلك أول لاعب كرة قدم سابق يترأس بلداً، بخلاف ما هو شائع بأنّ جورج وياه هو صاحب هذا "اللقب الشرفي" والذي تم انتخابه رئيساً لدولة ليبيريا يوم 26 ديسمبر/كانون الأول 2017.
وأولى بن بلة أهمية كبيرة للشباب وللرياضة خلال فترة رئاسته، ففي عهده تم تأسيس الاتحاد الجزائري لكرة القدم، وذلك يوم 21 أكتوبر/تشرين الأول 1962، والذي انضم للاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" في عام 1963 وللاتحاد الإفريقي للعبة "كاف" في سنة 1964.
وخاض منتخب الجزائر العديد من المباريات الودية مع منتخبات دول عربية شقيقة كتونس ومصر ودول المعسكر الشرقي، على غرار الاتحاد السوفييتي وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا، إضافة لمنتخب ألمانيا الغربية القوي الذي فاز عليه فريق المدرب إسماعيل خباطو بنتيجة هدفين لصفر يوم 1 يناير/كانون الثاني 1964 بملعب "العناصر" بالجزائر العاصمة.
ونجح بن بلة في جلب منتخب البرازيل، بطل العالم لعام 1962، بكل نجومه والذي كان يحضر لمونديال 1966، وذلك لخوض مباراتين وديتين أمام المنتخب الجزائري، فجرت الأولى يوم 18 يونيو/حزيران 1965 بالملعب البلدي الكبير بمدينة وهران، بحضور حوالي 60 ألف متفرج، يتقدمهم الرئيس شخصياً، وانتهى اللقاء بفوز بيليه وزملائه بثلاثية نظيفة.
كيف أطاح بيليه بابن بلة من الرئاسة؟
ولكن أحمد بن بلة لم يكن يدري أنّ تلك المباراة الشهيرة ستكون آخر ظهور رسمي له بصفة "رئيس الجزائر"، بحيث، في الوقت الذي كان منهمكاً فيه بكرة القدم، كان ذراعه اليمنى وقائد أركان الجيش، هواري بومدين، يضع اللمسات الأخيرة، رفقة زملائه المقربين، للانقلاب العسكري على الرئيس، أو كما يُسمى رسمياً "التصحيح الثوري"، والذي حدث ليل 19 يونيو/حزيران، أي ليلة المباراة الثانية بين منتخبي الجزائر والبرازيل التي كانت مقررة يوم 20 بملعب "العناصر" والتي تم إلغاؤها طبعاً.
وعاد بيليه وغارينشا إلى البرازيل محتفظين بصورة تذكارية خالدة، جمعتهما بابن بلة، قبل يوم واحد فقط من الإطاحة به من كرسي رئاسة البلد واقتياده لمعتقل سري بقي فيه إلى غاية يوليو/تموز 1979 ثم في إقامة جبرية إلى غاية إطلاق سراحه من طرف الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد الذي كان قد خلف بومدين في مطلع 1979 بعد وفاة الأخير في ديسمبر/كانون الأول 1978.
ومن المفارقات الغريبة أنّ ملعب وهران سمي بعد ذلك بملعب "19 يونيو 1965" أي على تاريخ الانقلاب على الرئيس أحمد بن بلة، وذلك قبل أن تتم تسميته لاحقاً بملعب "الشهيد أحمد زبانة".
وتوفي أحمد بن بلة يوم 11 أبريل/نيسان 1912، بالجزائر العاصمة عن عمر 95 عاماً، وتم دفنه في اليوم الموالي بمربع الشهداء بمقبرة العالية بالجزائر، حيث أقيمت له جنازة رسمية وشعبية كبيرة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.