تمر بنا السنون في غربة موحشة لا نكاد ننتهي فيها من أزمة حتى تفيض علينا بسيل أزمات تستنزف ما تبقى لنا من طاقة، وتبعدنا عن طور الحياة الطبيعية أكثر فأكثر.
ومن أهم تلك الأزمات التي تواجه المغترب هي مسكنه، بحثاً عنه وما أصعب هذا البحث، خاصة في إسطنبول، ثم تهيئته للعيش فيه، وأخيراً صراع الاستمرار فيه بقصد الاستقرار المهدد بزيادة الأسعار أو رغبة المالك أو مكتب السمسرة في إعادة تدوير السلعة الرائجة جنياً للأموال.
مشكلة ليست وليدة اليوم، ولكننا نعاني منها على مدار سنوات مضت، وفي غالب الظن أنها تأبى أن تكون جزءاً من ماضٍ وستستمر لسنوات، سبق أن أشرت إلى أزمة الحصول على سكن للعرب المقيمين بإسطنبول في تقرير نشرته مجلة ميم، وكذلك مقال بموقع عربي بوست بتاريخ 02 أبريل/نيسان 2018.
كثير تلك القصص التي تجرع أصحابها أشكالاً شتى من الإرهاق البدني بالتنقل من مكان إلى مكان لأسابيع وشهور بين مكاتب التأجير وكذلك الإرهاق الذهني والنفسي العاصف مع كربونية الإجابات القاتلة رفضاً لطلبهم في الحصول على سكن فقط لأنه أجنبي، ويقول له الكثير من الملاك والسماسرة "يابانجي يوك" أي "أجنبي لا"، لا مبالغة حين نقول إنها إجابة بدرجة رصاصة في سويداء قلب مغترب.
بمجرد العثور على السكن تعم الفرحة أرجاء قلب المسكين، وينسى الأعباء المالية المطلوبة منه ويضعها ضمن أهون الأمور رغم صعوبة الحصول عليها وتقلص فرص العمل، ولكنها لا تقارن فعلاً بحجم الأضرار النفسية التي يعانيها من كلمة "يابانجي يوك" والعيش بلا سكن، حيث يطلب منه دفع ما لا يقل عن شهر إلى السمسار، وشهر مقدم وشهرين على الأقل تأمين يسترد عند إخلاء السكن.
بعد ذلك يلتقي المرء بحزمة جديدة من المسؤوليات تبدأ مع تجهيز المستندات المطلوبة لإنهاء إجراءات التعاقد على خدمات الغاز والكهرباء والمياه والإنترنت، وحتى لا يواجه متاعب إضافية لابد أن يكون لديه إقامة سارية وجواز سفر "ما أكثر من انتهت جوازاتهم وليس لديهم إقامات سارية".
وتنتهي مسؤوليات هذه المرحلة بجمع ما تيسر من مفروشات وأجهزة كهربائية، وتعتبر مسألة جمع المفروشات والعفش والأجهزة من أيسر الأمور سواء كان بشراء المستعمل أو بالحصول على ما يستغني عنه الجيران من عفش.
على الرغم من كل هذه الصعوبات والأعمال الشاقة التي يقوم بها الأجنبي، فإنه لا ينعم بالعيش الهادئ المستقر ويظل حاضراً بغير غياب عن باله أن العقد سنوي وسيخطره المالك أو السمسار بعدم التجديد وطلب الإخلاء أسوة بأغلب القصص التي يسمعها من القريب والغريب، أو سيواجه زيادة تعجيزية في قيمة الإيجار لا يستطيع تحملها، وبالتالي ترك السكن بعد عناء وانطلاق رحلة جديدة منه.
قبل التطرق إلى ما لا يعلمه الأجنبي من حق كفله له القانون في هذا الخصوص، أجد أنه من الطبيعي تأصيل هذه الممارسة من الناحية الحقوقية.
بدايةً، على المستأجر الأجنبي أن يعلم أن رفض تأجير وحدة سكنية لإنسان لمجرد أنه أجنبي يندرج تحت بند التمييز العنصري المنهي عنه بموجب المادة 10 من الدستور التركي والمحدد لها عقوبات تصل إلى السجن لمدة 3 سنوات بموجب المادة 122 من قانون المحاكمة الجزائية التركي "cmk".
وبالنظر إلى ما يمكن الحديث عنه كدافع لدى مالك العقار أو مكتب الأملاك يجعله يجيب بالرفض على طلب الأجنبي للحصول على وحدة سكنية، سنجد أن هناك دافعين أساسيين يضعنا كل منهما أمام شكل مختلف من أشكال التمييز العنصري، وذلك على النحو التالي:
التمييز العنصري المباشر "DOGRUDAN AYRIMCILIK": من خلال رفض المالك أو من ينوب عنه تسكين مستأجر على خلفية مواقف فكرية وعرقية جعلته بدرجة ما كارهاً لعرقٍ ما.
التمييز العنصري ذو الصلة "BAGLANTILI AYRIMCILIK": وهذا النوع من التمييز يتحقق عندما يواجه شخص التمييز العنصري نتيجة ارتباطه الفكري أو الثقافي أو الاجتماعي أو الديني أو العرقي بفئة أو شخص ثالث، وهنا يكون قرار عدم تعامل مستأجر ما نتيجة وجود تجربة سلبية عاشها صاحب القرار في السابق مع مستأجر سابق ينتمي لنفس الفكر أو الثقافة أو الدين أو العرق أحدث إزعاجاً أو أتلف شيئاً أو لم يكن ملتزماً بسداد الإيجار.
انحيازي للحقوق ومعرفتي الجيدة بشريحة المساكين التي أنتمي إليها، المهجرين قسراً من أوطانهم الباحثين بغير هوادة أو استهتار عن أرزاقهم في غربة خانقة، يدفعني دائماً لتوجيه النصح لكل من يطلب ذلك وتوعيته بحقوقه في مواجهة المالك أو مكتب الأملاك، فغياب الوعي لدينا يصنع بيئة خصبة للابتزاز ونهب الحقوق والجور على من طفح بهم الكيل من جور حكامهم، أما المعرفة فهي حائط الصد المنيع أمام أي محاولة لاستباحة الأموال وتبديد الحق في السكن والاستقرار.
وجدت أن الدعوة الفردية لهدي المساكين غير كافية لصناعة حالة الوعي المطلوبة والتعريف بالحقوق وكيفية مواجهة أي محاولة للعبث بها، خاصةً أن الأعباء كثيرة ومرهقة بالبحث عن سكن مناسب وتكرار دفع متطلبات التعاقد وانعدام الشعور بالاستقرار.
أولاً:
يجب عليك معرفة أن عقد الإيجار السنوي الذي يحرره معك مالك العين المؤجرة لا يحتاج لتجديده موافقة كتابية أو عقداً جديداً بينك وبينه، فقط الأمر يتعلق بإرادتك أنت، فإذا رغبت في الاستمرار عليك فقط دفع الإيجار بالزيادة السنوية المقررة قانوناً، والتي تعلنها الدولة بشكلٍ دوري وتتراوح بين 10 إلى 15%. وبقوة القانون تستطيع المكوث لعشر سنوات لا تخرج إلا بحكم القاضي وبعد منحك كامل حقك في الدفاع وإبداء دفوعك، وأحكام الإخلاء تتطلب وقتاً وتكاليف وسبل إثبات، على رأسها امتناعك عن دفع الإيجار، أمور لا يرجحها أصحاب العقارات، ولكن يلوحون بها فقط لتخويف من لا يعرف حقه.
ثانياً:
إذا وجدت أن السكن أصبح غير مناسب لك، وقررت الانتقال إلى ما يناسبك بعد انتهاء مدة العقد – عام مثلاً – عليك أولاً التأكد من إعادة الوحدة السكنية على نفس صورتها عند استلامك لها، وإصلاح ما أُفسد باستخدامك، وبإمكانك عدم دفع آخر شهر وخصمه من التأمين ثم استلامك ما تبقى منه عند المغادرة، وهذا أفضل الحلول لضمان عدم ضياع مبلغ التأمين.
ثالثاً:
إرجاء طلب مبلغ التأمين إلى ما قبل ترك الوحدة بأيام، وفي حال رفض المالك إعادة التأمين وإصراره على خروجك أولاً وتسليم العين، وفي هذه الحالة يمكنك إبلاغه برفضك وإصرارك على الاستلام قبل الإخلاء، وفي هذه الحالة لا يستحق الإيجار ويظل محروماً من الاستفادة منها أو تأجيرها ما دام لم يتسلم منك المفتاح، وبها محتوياتك – دخول الشقة دون إذنك وبمعرفتك جناية لا يمكن لعاقل الإقدام عليها.
الحل الأخير، وهو لمن لا طاقة له بالحلول عاليه، هو قبول استلام التأمين بعد الإخلاء، وفي هذه الحالة إذا أخل وتهرب، وهذا هو الدارج من منطلق قوة وأصبحت الشقة تحت تصرفه، تستطيع تحرير محضر في أقرب قسم شرطة أو شكوى في النيابة برفض المالك أو من ينوب عنه تسليمك تأميناً مالياً على الرغم من تسليمك العين بالشكل المطلوب.
وفي كل الحالات يجب الانتباه لكل صغيرة وكبيرة عند استلام العين، والتركيز على ما بها من عيوب أو مشكلات وإبلاغ صاحب الشقة والسمسار بها بطريقة يمكن الاعتماد عليها لإثبات سلامة موقفك، مثل تصوير صور ومقاطع فيديو وإرسالها لهم، حتى لا يستقطع من تأمينك ما لم تتسبب في إفساده. وبنفس الآلية يجب عليك تصوير الشقة أثناء تسليمها حتى تضمن لنفسك الراحة والأمان.
بقي أن نشدد على أن الدولة التركية تبذل جهوداً كبيرةً لمواجهة التمييز العنصري ضد الأجانب، لكن ربما يحتاج الأمر لمزيد من الجهد، كما أنه لا يمكن تعميم هذا الانتهاك على الشعب التركي أو وصفه على المطلق بأنه يفعل ذلك أو يقبله ويرعاه، لأن في ذلك إجحافاً وإنكاراً لحقيقة أن النسبة الأكبر من الشعب التركي ترفض هذه الممارسات وتجد في كثير من الوقائع أن من يتصدى للمُنتهك هو مواطن تركي.
وفي نهاية هذه الحكاية، نؤكد ما لنا فيها من آية، حيث بالإمكان أن ننعم بالاستقرار إذا ما صدر منا القرار، نستطيع دون تعسف أن نرفض الابتزاز أو سلبنا حقوقاً مادية أودعت على سبيل الأمانة، بإمكاننا على الأقل بجهد يسير أن نلقن شخصاً عنصرياً درساً ونجعله يفكر ألف مرة قبل أن يكرر موقفاً عنصرياً ارتكبه معنا، بتحرير محضر لن يكلفك سوى ساعة أو ساعتين بصحبة مترجم إذا كنت لا تجيد التركية، والإبلاغ عنه بموجب المادة 122 cmk، أو محضر بامتناعه عن دفع مبلغ التأمين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.