بعد نظام الاستعمار ظهر إلى الوجود عالَمان؛ عالم صناعي والآخر تابع، الأخير خرج لتوّه من جحيم الاستعمار والاستغلال، ويحاول أن يصنع نهضته، فسنوات الاستغلال المفرط استنزفت خيراته ووضعته في وضعية متأخرة، لن يستطيع -بسبب هذا الوضع المرهق- أن يصبح في ليلة وضحاها من الدول المتقدمة، خاصة أن الدول المستعمرة التي خرجت لتوها من هذا العالم المنحوس لم تحمل أمتعتها وترحل إلا بعد أن ضمنت، من دون لبس، استمرار مصالحها مستقبلاً على هذه الأرض.
هناك من الباحثين مَن قسّم العالم بعد الحرب العالمية الثانية إلى ثلاثة عوالم، العالم الأول، وتمثله الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي اللتان كانتا تتصارعان في حرب باردة من أجل توسيع نفوذ كل منهما حول المعمورة. ثم هناك العالم الثاني، وتمثله أوروبا باتحادها، الذي خلقته (أقصد الاتحاد) من أجل الاستمرار على أرض العظماء بين عملاقين من العالم الأول. ثم أخيراً لدينا العالم الثالث، الذي خرج من الاستعمار ويحاول أن يبني مستقبله دون أن يثير غضب أي قوة من القوى الأخرى.
هذا تقسيم بعض الدارسين إن لم أقل أغلبهم، لكن التقسيم الذي يعطي الصورة الحقيقية للمرحلة التاريخية لما بعد الحرب العالمية الثانية هو تقسيم العالم إلى عالمين، كما فعلنا في السطور السابقة؛ عالم صناعي قوي وعالم تابع ضعيف. العالم الأول يتوفر على وسائل الإنتاج التقنية المتطورة، التي تجعل منه مكتفياً صناعياً على مستوى السلع الاستهلاكية بكل أنواعها، وعلى مستوى الخدمات، وعلى مستوى الأسلحة. أما العالم التابع فهو الزبون الذي يتنافس (اقتصادياً) حوله عظماء العالم الصناعي (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والاتحاد الأوروبي)، والذي يتوفر على المواد الأولية ولا يستطيع تحويلها صناعياً إلى سلع قابلة للاستخدام والاستهلاك.
ومن خلال هذا، ينظر العالم الصناعي إلى هذا العالم التابع، على أنه سوق لتصريف المواد التي يصنعها، وأيضاً ينظر إليه على أنه مصدر للمواد الأولية. وقد تحدثنا عن هذا في الجزء الأول، لكن الفرق هنا هو أن العالم الصناعي الآن لا يستعمل النظام الاستعماري للحصول على ما يريد، وإنما يجعل العالم التابع ضعيفاً ليحقق أغراضه، وسأتحدث عن هذا في الجزء الثالث إن شاء الله.
أما هنا فيجب أن أبين سيكولوجية العالم الصناعي وسيكولوجية العالم التابع، لنفهم رؤية كل عالم للآخر. فالعالم الأول عالم يحس بأنه عالم متفوق، وأنه صاحب الحضارة، وأنه صانع التاريخ ومُطوّره، ومُنقذ الإنسانية من الظلمات إلى النور، وهذا الشعور يجعله بالمقابل يعتبر كل ما يوجد خارج إطاره عبارة عن بدائيين يهددون الحضارة، لا معنى لوجودهم، ودورهم يجب أن يكون هو الحفاظ على التوازن الطبيعي الذي تفرضه الطبيعة على الإنسانية. فكأنهم يقولون نستطيع أن نبيد هؤلاء الحشرات بضربة واحدة، ولكن نحافظ عليهم لأننا نحتاج إليهم ليستهلكوا سلعنا، وننادي بأننا أكثر إنسانية منهم، والدليل على هذا الكلام هو أنهم يتوفرون على الأسلحة النووية التي قد تقضي على هؤلاء البدائيين -حسب تعبيرهم- ولكنهم لا يستخدمونها ليضعوا العالم التابع أمام الاختيار المرير، إما الانقراض أو الاستمرار في سيطرة العالم الصناعي. فهذا العالم لا يرغب أن يمتلك أحد غيره من العالم التابع هذه الأسلحة، حفاظاً على السلم والأمن العالمي، حسب قولهم. كما أنهم يتحدثون باسم حقوق الإنسان (دون أن يعطوا تعريفاً عقلانياً وعملياً لهذا الإنسان ومن يكون)، ويستخدمونها كوسيلة لشيطنة من يخرج من تحت أجنحتهم، في حين لا يذكرونها إلا كتمييز، عندما يتعلق الأمر بهم أو بمن يوجد تحت قبعتهم. وهذا التلاعب باسم حقوق الإنسان نابع من سيطرتهم على الأمم المتحدة (وسأتحدث عن هذا لاحقاً) التي تعتبر نفسها الراعي الرسمي لهذه الحقوق حول العالم.
عالم الاستعمار
إنهم يعتقدون أنهم أوصياء على العالم، وأنهم هم الأسياد، والآخرون –الذين يوجدون خارج حضارتهم– ينبغي لهم أن يكونوا أتباعاً. نعم إن هذا نظام أرستقراطي عالمي مبني على القوة، والشعور بالتفوق، إنهم يتبنون نظرية نيتشه في التعامل مع العالم التابع، بينما يتبنون نظرية جان جاك روسو ولوك ولوثر والآباء المؤسسين، في تعاملهم فيما بينهم، لديهم حق الفيتو على العالم التابع، بينما فيما بينهم يصوتون ديمقراطياً. يساندون الديمقراطيات في بلدانهم، ويساندون الديكتاتوريين في بلداننا.
هذا الشعور بالتفوق يجعل الغرب يتمركز حول ذاته، ويحس بكينونته ووجوده، جاعلاً من نظرية ديكارت (أنا أفكر إذن أنا موجود) نظرية كونية، حيث يقولون (نحن الموجودون لأننا نفكر)، أما الباقي فليسوا كذلك لأنهم توابع، نفكر مكانهم ولأجلهم، إذن وجودهم يتعلق بوجودنا. إن هذا التمركز الغربي حول الذات ناقشه بإسهاب المفكر المبدع إدوارد سعيد رحمه الله، الذي يعتبر من مؤسسي نظرية (ما بعد الاستعمار)، (وأنا أعتبره من الجيل الأول للمثقفين الثوريين الذين أفرزهم العالم التابع في صدامه مع العالم الصناعي).
إن التمركز الغربي حول الذات يجعل العالم الصناعي ينظر إلى نفسه على أنه المركز، بينما باقي العالم مجرد هامش، وعلاقة المركز بالهامش هي علاقة بين مقرر ومطيع، يعني أن السياسات الاجتماعية والاقتصادية ستكون مطروحة من الغرب، فإن كانت هناك سياسة داخلية قد تُقاطع مصالحهم سيبترونها أو يبترون البلد كله. يعني أن الاستقلال غير كامل بالمرة، هذا إذا أضفنا جماعات الضغط أو كما أسميهم (عوالق الاستعمار) التي تركها المستعمر هنا، قبل أن يغادر؛ ليحافظ على مصالحه على حساب مصلحة البلد الذي نال الاستقلال لتوه.
أضف إلى هذا الذي ذكرناه، حول نتائج الشعور بالتمركز حول الذات، نتيجة أخرى جد خطيرة، وهي الشعور بأن الثقافة التي يتبناها الغرب هي الثقافة الكونية التي يجب أن تسود باقي العالم، جاعلين بين الثقافة والتقدم رابطاً ميكانيكياً لابلاسياً (نسبة إلى العالم الرياضي بيير لابلاس). حيث إن الثقافة الغربية هي التي سببت التقدم، بينما الثقافات الأخرى سببت التخلف، وهذا ما يعطي لنشر هذه الثقافة مبرراً وظيفياً ووضعياً وعقلانية إن وضعنا أمام أنظارنا التفوق الغربي على أرض الواقع. وهذا ما يضعنا أمام صراع حضاري، هذا المصطلح سكه لأول مرة المفكر المغربي المهدي المنجرة رحمه الله في كتابه الرائع الحرب الحضارية الأولى، وتناوله بإسهاب بعده المنظر الإمبريالي صامويل هنتنجنون في كتابه (صدام الحضارات). وأيضاً المهدي المنجرة أعتبره من الجيل الأول للمثقفين الثوريين على العالم الصناعي، وسنتحدث عن هذا الصراع في سطور قادمة.
مشاعر العالم التابع
أما العالم التابع، فإن شعوره هو شعور استسلامي، ينظر إلى أن التفوق على الغرب يحتاج إلى سنوات ضوئية، واضعاً المسؤولية على المستعمر الذي غادر لتوه هذه الأرض الحزينة، بينما يضع الحل على قدرات خارقة خارج الإطار الواقعي لوجوده، يعني حلولاً ميتافيزيقية (كقدوم المهدي المنتظر)، يعني أن الحل لن يكون الآن، وإنما إلى حين قدوم هذا المنقذ، متى؟ لا أعلم؟ إذن هذا الوضع المتأزم سيستمر، ومن يحاول تغييره فهو مجرد أخرق، فَهِم الواقع من الحوافر.
بالرغم من نظرته إلى العالم الصناعي على أنه مسؤول عن وضعه المتأزم هذا، إلا أنه يعترف بتفوقه، وهذا ما يولد انفصاماً شخصياً، جانب يحقد على الغرب وجانب آخر يحترمه. الجانب الذي يحقد يعتمد على التاريخ في تأكيد نظرته، بينما الجانب الآخر يعتمد على الواقع داخل هذا العالم (الحقوق والقانون والاقتصاد المتفوق والسياسة الرشيدة في الغرب). فيُصبح الجانبان في صراع داخلي حول تأكيد أطروحة كل منهما، وهذا ما يزيد من تأزم وضعية العالم التابع.
وقد تحدّث المؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي عن هذين الجانبين، حيث سمى نزعة الجانب الأول (بنزعة التزمت)، أما الجانب الآخر فيسمي نزعته (بنزعة التشكل). فالأول –حسب توينبي– يؤدي إلى تحجر الحضارة، أما الثاني فيؤدي إلى خلق حضارة مقلدة وتابعة. وخارج هذين الجانبين هناك المبدعون –كما يسميهم توينبي– وهم من يحاولون تحدي الوضع باعتماد الوسائل الحضارية الخاصة بحضارتهم، من أجل استجابة إيجابية تتجاوز هذا الوضع إلى وضع أفضل (وهؤلاء هم الذين أسميهم بالمثقفين الثوريين على العالم الصناعي).
يشتد الصراع بين هذين الجانبين، فيحاول العالم الصناعي الحفاظ على هذا الصراع، عن طريق الحفاظ على توازن القوى بين الجانبين، مع ترجيح كفة نزعة التشكل؛ لأنها الكفة التي تتبنى ثقافتهم، لكن دون أن يقود هذا الترجيح إلى الخروج من الوضع الحالي (وهذا ما يسميه المخططون الإستراتيجيون الغربيون باستراتيجية ترك الوضع كما هو)، أيضاً يحاولون نشر ثقافتهم دون أن يكون لها تأثير إيجابي على العالم التابع، يعني ينشرون الثقافة التي لا تأثير صناعياً لها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.