اليأس، الوحدة، الغربة، الاكتئاب، الضياع، الفشل، فقدان الشغف، الخذلان، الرغبة في التلاشي؛ سبب واحد من تلك الأشياء كفيل بأن يجعل المرء يُقدم علی إنهاء حياته، أما عند عنايات الزيات فقد تمثلت لها كل تلك الأسباب بشكل أو بآخر.
معاناة عنايات
علی مدار حياتها، ومنذ الصغر وعنايات تعاني من الاكتئاب، وفي عمر 11 عاماً لم تدخل عنايات امتحانات الصف الثاني الابتدائي؛ لأنها كانت في مستشفى بهمن للعلاج النفسي، المستشفى نفسه الذي زارته في نوفمبر/تشرين الثاني 1962، لأنها كانت تعاني من نوبات اكتئاب قاسية، الاكتئاب الذي استخدم محامي زوجها روشتة العلاج منه ضد عنايات، بعدما قرروا استخدام مرض عنايات ضدها هم أيضاً، وهذا الأمر كان له وقع الصدمة علی عنايات.
في خريف العام نفسه كتبت عنايات الزيات في يومياتها:
"جمال تعس، حقل الموت صامت وأرض معدومة الحواس، والبرودة تسري في أجساد الورود، فالحياة تمضي وتلد الموت. قد شاهدتُ في الإسكندرية مشاهد عشتها في خيالي من قبل وسمعت عبارات قديمة في أذني، ورأيتُ أناساً في ثياب أعرفها، ولكن متی تماماً؟ لستُ أدري. هناك حاجز ذاب في ذاكرتي. فاختلطت الحياتان. ومع ذلك فأنا لا أعرف ماذا سيجيء به الغد. إذا شاء ترك جثة جثتي الحية تقوم على صفحة الليل لتوصلني للغد، لصفحات أخری قديمة. إنني أحس بانفصال عن الكل، وأنظر من نافذة عيني إلی الناس والأماكن حولي، ولكني لا أتفاعل معهم. وفجأة أجدني قد انفصلت عن وجودي، وخرجتُ من داخلي، أتفرج وأسمع، وكأن ليس لي جسد جالس يتحرك ويعيش. أحس أني قد عشتُ حياتي من قبل، فلماذا إذاً أولد من جديد! ونظرت إلی الباب ملياً، وفتشتُ في ذاكرتي عن أثر لتلك الحياة التي عشتها، ولكني لم أجد إلا صورة الدرجات الحجرية فحسب، فاستدرتُ ونزلت أكمل رحلة مستقبلي القديم".
تزوجت عنايات سنة 1956 من ضابط طيار، رجل سلطوي عنيف، من عائلة كبيرة، ذي سلطة، ولم تستطع عنايات ترميم الشروخ في حياتها الزوجية على مدار ثلاث سنوات، الأمر الذي جعلها تطلب الطلاق.
حتى هنا تبدو الأمور عادية، امرأة تزوجت وترفع دعوى طلاق ولديها ابن وحيد يُدعی عباس. تحاول عنايات الخروج للعمل، وتواجه العالم وهي امرأة علی مشارف الحصول على لقب مطلقة في خمسينيات القرن العشرين، مما يفرض عليها قيوداً كثيرة تزيد من اكتئابها. تكتب رواية وحيدة وتنتهي منها في مايو/أيار من عام 1960 ثم تبدأ محاولة إيجاد ناشر، وتذهب بالرواية إلى الدار القومية للنشر.
تعلمت عنايات اللغة العربية بعد طلاقها على يد والدها؛ لأنها كانت تدرسها كلغة هامشية طوال دراستها في المدرسة الألمانية. لم تمتلك عنايات أسرة بالمعنی المعنوي، لا دفء في البيت، لا أسرار أخوات، ولا حتی شجارات تافهة، ولم تُحدث أمها عما تكتب ولا عن الحب الأول أو أفلام السينما، ولسوء الحظ لم تنعم بحياة زوجية هادئة، ولقبح الحظ لقد فلح والد الطفل في جعل ابنه وسيلة ضغط على عنايات، فقد كان يشحنه بالكره والغضب تجاهها عندما يزوره، وعندما يعود الولد لأمه يرفض قول "ماما" ويُصر علی اقتلاع قلب عنايات من مكانه، وتفريغها من الشعور بالأمومة، ووضع مكانه الشعور بالتضاؤل، الذنب، الوحدة، والفشل.
"أنا لا أعني شيئاً عند أحد، إذا ضعتُ أو وُجدتُ سيان. وجودي كعدمي، أنا إن وُجدتُ أو لم أوجد لن تهتز الدنيا خُطاي لا تترك أثراً وكأني أمشي علی الماء، ووجودي لا يراه أحد كأنني كائن غير مرئي".
(يوميات عنايات الزيات خريف 1962)
في رواية الحب والصمت كتبت عنايات عنها، وعلی لسان الراوية تقول في صفحة 133:
"لو أستطيع أن ألغي ذاتي وأولد من جديد في مكان آخر وزمان آخر؟ زمان آخر.. زمان آخر.. ربما ولدتُ في الزمان الخطأ".
من رواية الحب والصمت، مقتبس من كتاب "في أثر عنايات الزيات".
عنايات كانت تشير في يومياتها الخاصة لنفسها بـ"هي" بدلاً من "أنا" فكتبت في مرة: "تزوجت دون حب.. دون تفاهم.. دون انسجام.. لم تفكر في شيء من هذا. كان هدفها أن تترك المدرسة بكل تزمتها ومحدوديتها..".
كهولة مبكرة
أقفلت جنة الطفولة المبكرة لتفتح باب الشباب مبكراً، بل باب الكهولة المبكرة.. وأخطأتُ الباب. وفتحت آخر يطل علی صحراء.. قاحلة.. حتی السراب لم يكن فيها.. ونظرت خلفها.. ورأت الباب قد أوصد، بل تلاشی.. ولم ترَ طريقاً للعودة.. وحارت.. وبكت.. وبكت في يأس وضياع ثم صبرت وصبرت. واكتشفت في نفسها جلّداً عجيباً.. بل رأت أنها كجمل اجترّ كل اللحظات السعيدة الماضية.. وراح يأكلها بتأن وسط تلك الصحراء العاتية.. ثم.. ثم خلص الزاد.. زاد الماضي.. وأصبحت بحاجة إلی شيء جديد تجترّه.. فلم تجد إلا يأساً أصفر بلون الرمال.. فهزل جسدها ورهفت روحها.. وراحت تطلب الخلاص.. بل تصرخ.. النجدة. واكتشفت فجأة أن بيتها قائم فوق رمال متحركة، كلما حاولت إنقاذه، غطس أكثر وأكثر.. وراحت تطلب الخلاص بل العون من الله، من القدر.. من الكل.. ونسيت في غمار بحثها أن لا أحد يستطيع إنقاذها لأن عملية الإنقاذ تبدأ من داخلها هي. من إيجابيتها للأمور. وفجأة رأت المفتاح. مفتاح الخلاص مُعلقاً في عنقها.. في نفسها.. في نفسها من الداخل. فقامت وفتحت الباب، وعلی عتبته استنشقت بملء رئتيها هواء الحياة.. وعبير الشباب ورائحة الربيع والحرية.. وعلی عتبته أيضاً رمت بجلدها الداخلي القديم المليء بالتشقق والجروح والعُقد والخوف. وخطت أولی خطواتها حرة طليقة بجلد جديد.. بالشجاعة والمثابرة.. والاعتماد علی النفس".
في 3 يناير/كانون الثاني 1963 ابتلعت عنايات الزيات 20 حبّة منومة، لتنام إلی الأبد. وليسكن الألم طوال الوقت.
في مقالة بجريدة الأخبار بتاريخ 18 مارس/آذار 1967 كتب أنيس منصور عن عنايات، وتحدث عن الرواية، وقال إنه قرأ الرواية مكتوبة بالرصاص، وإنه كان يشجع عنايات علی الكتابة دوماً وقال إنها تركت ثلاث ورقات بجانب سريرها مكتوب علی واحدة منها فقط:
"ابني الحبيب عباس، أودعك.. وأقول لك إنني أحبك.. غير أن الحياة غير محتملة".
تحكي نادية لطفي لإيمان مرسال كواليس 3 يناير/كانون الثاني 1963 صباحاً:
"كنت بجهز عشان أروح إسكندرية أحتفل بعيد ميلادي، وكان المفروض هتيجي معايا. كانت منهارة إن الولد هيروح لأبوه، وإن المحامين استخدموا روشتة علاجها من الاكتئاب كدليل ضدها في قضية الحضانة. رجعت البيت لقت الدار القومية كلمت والدتها، وقالوا إن الرواية لا تصلح للنشر".
عنايات الزيات ليست مجرد امرأة عادية، ولا مجرد كاتبة مميزة، أو مريضة اكتئاب مثل الكثيرات، إنها امرأة جمعت في نفسها معاناة الكثير من الناس، عن نفسي كتبت عنها لأنني قرأت مقتطفات لها تشبه ما أشعر به، وربما هذا ما دفع الكاتبة إيمان مرسال للبحث عن كل من رآها أو سمعها أو سمع بها وعنها يوماً؛ ربما لأن عنايات ومثلما قالت الفنانة نادية لطفي للكاتبة إيمان مرسال، ربما لأن عنايات كانت تريد أن تكتب عنها إيمان!
نورا ناجي تكتب عن عنايات
وربما ما دفع الكاتبة نورا ناجي للكتابة عنها هو أن الكاتبة نورا ناجي كانت من الممكن أن تكون عنايات الزيات في عصرنا مثلما قالت في مقالها الأول عن عنايات، ربما كتبت عنها لأنها خير مثال عن المرأة الوحيدة التي كانت تشعر بذاتها بالكتابة، بالنسبة لي فعنايات تمس بروحي أشياء عميقة، مشاعر بالرغم من أنني أكتب دوماً، أشعر وكأنها تُعبر عني أفضل مني، تكتب بأسلوب مميز، بإحساس، تكتب فناً، وتتفنن في كتابة السطر.
ويبدو لي أن عملية الكتابة لها كانت مخاض دائم، ألم شديد، فعل يتوجب علی المرء القيام به علی أكمل وجه، شيء ينظر إليه المرء ليقول هذا ما فعلته طيلة حياتي، ربما لم تكن عنايات تهتم بكل هذا، وكل ما رغبت به هو التعبير عن نفسها، والشكوی، ومحاولة فهم ذاتها وجسدها المتعب، ربما رغبت في كتابة "الحب والصمت"، لتقول أنا هنا، ربما الهدف المرجو من الكتابة لها هو الشعور بالوجود الذي لم تشعر به رغم جهدها الدؤوب، وربما كان السبب الأوحد لقرار رحيلها هو أن كل المحاولات لم تفِ بالغرض.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.