في مقابلة مع صحيفة "تايمز" البريطانية سبتمبر/أيلول 2020 أعرب الرئيس السوفييتي السابق "ميخائيل جورباتشوف" عن "ثقته في أن العالم كان أكثر استقراراً وأمناً وعدالة لو تم الحفاظ على الدولة السوفييتية".
أكتوبر/تشرين الأول 1994 وفي المؤتمر الثلاثين لجماعة خريجي المعهد القومي للإدارة العليا في مصر وتحت عنوان رئيسي "مستقبل التنمية في مصر والدور المنتظر لها في القرن الحادي والعشرين"، تحدث الكاتب المصري الكبير "محمد حسنين هيكل" عن أن انتهاء الحرب الباردة وسقوط حائط برلين 1989 كانا بمثابة ذوبان لثلوج أحدثت فيضاناً تحول إلى طوفان، جرف أمامه حطاماً وركاماً كثيراً من الماضي، وأهم من ذلك أنه غطى الحاضر بسيوله الكثيفة وأخف واقع ما جرى ويجري تحته، فلم يعُد واضحاً ما الذي انكسر؟ وما الذي تهدم؟ وما الذي تكون؟ وما الذي غرق في طين القاع؟ ثم ما الذي ظل عائماً مع الموج حتى وإن لم يظهر على سطحه".
ومن ضمن ما تكسر وتهدم الاتحاد السوفييتي وورثت ما تبقى منه روسيا الاتحادية والتي رآها كاتبنا الكبير تقف على صخرة وسط الطوفان تتلمس طريق العودة للزعامة بعد انحسار مياه الطوفان واستعادة التوازن، بما تملكه من موارد اقتصادية وبشرية وبما تملكه من تكنولوجيا عسكرية يعززها 4900 رأس نووي، وأن على الغرب أن يتوصل إلى أسلوب ناضج يتعامل به مع روسيا لأن روسيا ستظل عاملاً ضاغطاَ على بدايات القرن الحادي والعشرين".
ما بين إقرار آخر رئيس سوفييتي بأن العالم كان أكثر استقراراً وأمناً بوجود الدولة السوفييتية التي تفككت، وبين قراءة لكاتب خبير رأى أن روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي ستكون عاملاً ضاغطاً لإيجاد توازن في عالم ما بعد الحرب الباردة. هنا نتساءل هل روسيا قادرة على لعب دور قيادي في المنطقة العربية؟!
روسيا الاتحادية عندما أفاقت من صدمة تفكك الاتحاد السوفييتي، وجدت أن دورها قد انحسر بشدة على المستوى العالمي وبالضرورة في المنطقة العربية والتي لم يولِها القادة الروس بدءأ من "بوريس يلتسين" وحتى "فلاديمير بوتين" أهمية كبيرة في علاقاتها الدولية، حيث صدر مفهوم السياسة الخارجية الروسية عام 2000 والذي ركز على العلاقات الثنائية في الشرق الأوسط، نصاً "تنوي روسيا تطوير علاقاتها على المستويين الثنائي والإقليمي مع تركيا ومصر والجزائر وإيران والسعودية وسوريا وليبيا وباكستان". وقد تم التأكيد على تلك السياسة في وثيقة أخرى 2008 في عهد الرئيس "ميدفيديف"، ولكن في العام 2013 وافق الرئيس "بوتين" على وثيقة مفهوم السياسة الخارجية قدم فيها التعامل مع العالم الإسلامي على التعامل مع العالم العربي.
وهكذا أصبح مفهوم السياسة الخارجية الروسية واضحاً في أنه يفضل العلاقات الثنائية مع البلدان العربية، مفضلة عدم الخوض في مشاكل المنطقة لأسباب جوهرية منها تفرد أمريكا بمفاتيح اللعبة في المنطقة، ورغبة روسية جامعة في عدم الصدام مع أمريكا لأنه لن يكون في صالحها، وبالتالي أصبحت القضايا العربية بالنسبة لروسيا مرهونة بما تراه من مؤشرات الحركة الأمريكية في المنطقة.
بتاريخ مارس/آذار 1997، وجه رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" تصريحاً للروس قائلاً "لا يجتمع طباخان في مطبخ واحد وفي وقت واحد". في إشارة إلى عدم الحاجة للدور الروسي في المنطقة، وهو ما دفع الروس إلى الوقوف بجانب إسرائيل فعلاً ومع العرب قولاً.
وقد صرح "بوتين" عن ذلك في لقاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي "آرئيل شارون" قائلا "لن تساعد روسيا أعداء إسرائيل" فرد عليه شارون قائلاً "إن روسيا الصديق الصدوق لإسرائيل".
روسيا التي تفاجأت بالثورات الملونة في شرق أوروبا ألقت بكل ثقلها لقمعها في أوكرانيا لمنع تمدد الغرب وأمريكا في الجوار الروسي، وهو الأمر الذي دفعها لضم شبه جزيرة القرم لوقف الزحف الغربي الذي يهددها. وتفاجأت روسيا أيضاً بالربيع العربي والذي رأت فيه سياسة غربية استغلت مشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية عربية من أجل إشعال تلك الثورات لإيصال فصيل راديكالي ديني لسدة الحكم ويكون هدفها النهائي زعزعة الاستقرار في روسيا، عبر إشعال الصراع في القوقاز وآسيا الوسطى (الحزام الإسلامي الروسي).
لهذا لم يكن التدخل الروسي العسكري في سوريا إلا دفاعاً مباشراً عن روسيا نفسها عبر الحيلولة دون وصول الراديكاليين الدينيين للحكم وللحيلولة دون تكرار النموذج العربي في القوقاز، وكذلك للحفاظ على ما تبقى من هيبة قديمة عبر التأكيد على الوجود العسكري في شرق البحر المتوسط في قواعدها السورية (البحرية – الجوية). ولكنها في الوقت نفسه كانت تعلم أن توسيعاً لدورها أكثر من سوريا كما في أوكرانيا هو صدام محتوم مع أمريكا والغرب وهو ما تخشى روسيا حدوثه.
وهكذا كان الاختبار الروسي في سوريا هو الأكبر لحدود استخدام القوة في المنطقة العربية، والذي يقف عند حدود مصالحه المباشرة فقط.
عندما حددت روسيا العالم الإسلامي كمجال أوسع من المجال العربي لسياستها الخارجية، كانت إيران وتركيا والسعودية هي الأهم حيث حجم تأثيرها الكبير في منطقة الحزام الإسلامي في القوقاز وآسيا الوسطى، ولهذا رأت روسيا في العلاقات الإيرانية رحابة في التأثير في الشرق الأوسط حيث تربطهما ملفات مهمة ومصالح مشتركة، منها الملف النووى وبترول بحر قزوين. وكذلك العلاقات التركية التي تراها روسيا هي الأهم بالنسبة لها حيث التأثير التركي القوي في القوقاز على الرغم من الخلاف التاريخي بينهما ورفض تركيا لضم شبه جزيرة القرم لروسيا، وما تفاهمات الروس مع الأتراك في سوريا وكذلك التغاضي عن الدور التركي في حرب ناغورنو قره باغ بين حليفتها أرمينيا وأذربيجان إلا منعاً لتأزم العلاقات وحفاظاً على مكتسبات اقتصادية تستميل بها روسيا تركيا ناحيتها، مثل مشروع السيل الجنوبي المشترك لإيصال الغاز الروسي لأوروبا عبر تركيا، كذلك إمداد تركيا بأسلحة حديثة يرفض الغرب إمدادها بها.
واكتفت روسيا في الداخل العربي بعقد صفقات تجارية وعسكرية ضخمة مع الإمارات ومصر والجزائر وسوريا والعراق، دون التدخل في القضايا الكبرى رغبة في عدم إغضاب الغرب وأمريكا.
بعدما تسارعت وتيرة التطبيع العربي مع إسرائيل وسقطت كثيراً من التابوهات في السياسة العربية، ظهر تساؤل: أين الدور الروسي مما يجري في المنطقة العربية؟
أدرك العرب منذ سقوط الاتحاد السوفييتي أن الدور الروسي أمامه عشرات السنين ليتعافى من أزماته، فراهنوا على الدور الأمريكي، ولم يعُد لروسيا في قاموس السياسة العربية إلا الحاجة للفيتو الروسي في مجلس الأمن كأحد الخيارات المهمة في يد روسيا للحفاظ على بقايا قوة سابقة موروثة من الاتحاد السوفييتي السابق.
لقد فقدت روسيا كثيراً من قوتها السياسية والاقتصادية ولم تعد نداً للسياسة الأمريكية في المنطقة العربية، وعليه فإن الرهان على دور روسي قوي من قبل بعض العرب هو ضرب من الخيال الموروث من أوهام الماضي، فروسيا تفضل العلاقات الثنائية بينها وبين كل دولة عربية كل على حدة واضعة في اعتبارها حدود القوة والتدخل وحدود التأثير، متحاشية الصدام مع أمريكا والغرب في منطقة تفوذهما.
ولكن يبقى للدور الروسي تأثير ولو ضئيل ينبئ بتناميه مرة أخرى في المستقبل كما حدث في التدخل في الصراع الليبي الداخلي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.