حظي الكاتب والإعلامي والمحلل السياسي الأمريكي فريد زكريا بمكانة قلّما يصل إليها شخص في مجاله من حيث التقدير لكتاباته التي تتميز بالرصانة والحصافة والتحليل العميق للشؤون السياسية والدولية، لدرجة أن مقالاته أصبحت تعتبر خارطة طريق للسياسة في الولايات المتحدة. كما أن لهذا المحلل والإعلامي صاحب الأصول الهندية برنامجاً يحظى بنسبة مشاهدة عالية بقناة "سي إن إن" الأمريكية هو "فريد زكريا GPS". كما أنه مؤلف لعدد من الكتب الرصينة مثل "عالم ما بعد أمريكا" و"في الدفاع عن التعليم الحر" و"مستقبل الحرية: الديمقراطية الغير ليبرالية في الوطن وخارجه".
وكان آخرها كتاب "عشرة دروس لعالم ما بعد الجائحة". ولفريد زكريا إسهامات في شكل مقالات تتناول العلاقات الدولية وتقدم النصح لقادة الولايات المتحدة، كان آخرها مقال له نهاية الأسبوع الماضي حمل عنوان "رعب الصين الجديد: لماذا لا يجب على الولايات المتحدة المبالغة في خوفها من آخر التحديات؟".
المقال المطوَّل الذي سنحاول تلخيصه هنا لأهميته الناتجة عن شخصية كاتبه في المقال الأول، ولأنه يأتي بنظرية مخالفة للتيار العام المعادي للصين في الولايات المتحدة. ويتطرق المقال بالتفصيل للعلاقات بين واشنطن وبكين من زاوية تاريخية، مشيراً إلى أن العقلية الأمريكية تميل لمواجهة الشيوعية حتى قبل انطلاق الحرب الباردة.
وقد قاد الرئيس الأمريكي هاري ترومان في نهاية أربعينيات القرن الماضي الحملة ضد المحاولات السوفييتية لضم اليونان للمعسكر الشرقي في مرحلة مبكرة جداً، عن طريق الترويج لخطاب سياسي وإعلامي يجعل من الشيوعية فزّاعة تجبر المجتمع الأمريكي على تمويل أي حملة ضدها. وقد تطوّرت هذه "الفزاعة" لاحقاً في ثمانينيات القرن الماضي لتخويف الشعب الأمريكي من اليابان ونهضتها الاقتصادية التي ستطيح بالهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي كانت الحرب على الإرهاب والمسلمين هي الفزاعة التالية، وخلال العقد الماضي بدأت تتعالى أصوات تشير إلى الصين كتهديد جديد للولايات المتحدة.
يشير فريد زكريا في مقاله إلى أن "شيئاً مشابهاً يحدث اليوم في الجدال الأمريكي حول الصين. والإجماع الجديد -الذي يشمل الحزبين الجمهوري والديمقراطي، والمؤسسة العسكرية، والمكونات الرئيسية لوسائل الإعلام- يرى أن الصين تمثل الآن تهديداً حيوياً للولايات المتحدة على الصعيدين الاقتصادي والاستراتيجي، وأن السياسة الأمريكية تجاه الصين قد فشلت، وأن واشنطن بحاجة إلى سياسة جديدة واستراتيجية أكثر صرامة لاحتواء التهديد الصيني.
وقد أدّى هذا الإجماع إلى تحويل موقف الجمهور لعداء غريزي نحو الصين. فاستطلاعات الرأي تكشف عن أن 60% من الأمريكيين لديهم الآن وجهة نظر غير ودية تجاه الصين، وهو رقم قياسي منذ أن بدأ مركز بيو (Pew) للأبحاث في طرح السؤال في عام 2005″. ويجزم زكريا بأنَّ "طبيعة التحدي من الصين مختلفة وأكثر تعقيداً بكثير مما تُصوّره التحذيرات الجديدة، فالولايات المتحدة تعد نفسها لفشل باهظ الثمن فيما يتعلق بأهم قضية من قضايا السياسة الخارجية خلال العقود العديدة القادمة".
وكأنما يتوقع زكريا أن مجتمع الصقور في واشنطن لن يرضى بوجهة نظره التي يشرحها في مقاله، فيقول: "لنكن واضحين: (أنا أعلم أن) الصين نظام قمعي منخرط في سياسات بعيدة جداً عن الليبرالية، من حظر حرية التعبير إلى اعتقال الأقليات الدينية. وقد كثّفت على مدى السنوات الخمس الماضية سيطرتها السياسية ودولتها الاقتصادية في الداخل.
أما في الخارج فقد أصبحت الصين منافساً للولايات المتحدة في بعض الأماكن، لكن السؤال الاستراتيجي الأساسي بالنسبة للأمريكيين اليوم هو: هل هذه الحقائق تجعل الصين تشكل تهديداً حيوياً، وإلى الحد الذي تقوم به بالفعل؟ وكيف يجب معالجة هذا التهديد؟".
ويوضح زكريا بالقول إن "عواقب المبالغة في التهديد السوفييتي كانت هائلة: الانتهاكات المحلية الجسيمة خلال الحقبة المكارثية (McCarthy) من سباق تسلح نووي خطير وحرب طويلة وعقيمة وفاشلة في فيتنام.
والعديد من التدخلات العسكرية الأخرى في مختلف ما يسمى دول العالم الثالث. وستظل عواقب عدم مواجهة التحدي الصيني على النحو الصحيح اليوم أكبر. واليوم تخاطر واشنطن بتبديد المكاسب التي تحققت بشق الأنفس من أربعة عقود من الشراكة مع الصين، الأمر الذي سيشجع بكين على تبني سياسات المواجهة الخاصة بها، وقيادة أكبر اقتصادين في العالم إلى صراع لا يُعرف نطاقه ومداه سيؤدي حتماً إلى عقود من انعدام الاستقرار والأمن"، مرجّحاً أن "تكون الحرب الباردة مع الصين أطول بكثير وأكثر تكلفة من الحرب مع الاتحاد السوفييتي، كما أن النتيجة غير مؤكدة".
ويلفت زكريا نظر القارئ إلى مقولة لوزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر ذات مرة، بأن "الولايات المتحدة قد دخلت في جميع حروبها الرئيسية منذ العام 1945 -في كوريا وفيتنام وأفغانستان والعراق- بحماس كبير ودعم من الحزبين، لكن "مع تطور الحرب يبدأ الدعم الداخلي لها يتلاشى. وسرعان ما كان الجميع يبحث عن استراتيجية خروج".
وينصح زكريا بأنه "ولتجنب تكرار مثل هذا المسار ينبغي على الولايات المتحدة أن تأخذ الوقت الكافي لاختبار الافتراضات الكامنة وراء الإجماع الجديد حول مواجهة الصين عن قرب. وهذا الاجماع يتمثل بشكل عام في الأسباب التالية: أولاً: فشلت الشراكة لأنها "لم تغير في التنمية الداخلية والسلوك الخارجي للصين".
ثانياً: تمثل السياسة الخارجية للصين حالياً أكبر تهديد للمصالح الأمريكية، وبالتالي للنظام الدولي القائم على القوانين الذي أقامته الولايات المتحدة بعد عام 1945.
وثالثاً فإن سياسة المواجهة النشطة مع الصين ستواجه التهديد بشكل أفضل من استمرار النهج السابق. وقد تَشكّل هذا الإجماع من الحزبين استجابة للتغيرات المهمة والمقلقة من نواحٍ كثيرة في الصين.
فمنذ أن أصبح الرئيس شي جينبينغ الزعيم الأوحد في البلاد تباطأ التحرير الاقتصادي في الصين، وتراجعت الإصلاحات السياسية (التي كانت أصلاً محدودة). وتجمع بكين الآن بين القمع السياسي والدعاية القومية التي تعود إلى حقبة ماو. وعلى مستوى السياسة الخارجية فإن الصين أكثر طموحاً وحزماً الآن، وهذه التحولات حقيقية ومقلقة، لكن كيف سيتعين على هذه التحولات تغيير سياسة الولايات المتحدة؟
ويشدّد الرجل على أن صياغة استجابة فعالة يتطلّب البدء بفهم واضح لاستراتيجية واشنطن تجاه الصين. فما يفتقده الإجماع الجديد حول الصين هو أنه خلال ما يقرب من خمسة عقود منذ انفتاح الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون على بكين، لم تكن سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين أبداً سياسة شراكة بحتة، لقد كانت مزيجاً من الشراكة والردع.
وفي نهاية سبعينيات القرن الماضي خلص صناع السياسة في الولايات المتحدة إلى أن دمج الصين في النظام الاقتصادي والسياسي العالمي أفضل من تركها خارجه مستاءة ومرتبكة، لكن واشنطن زاوجت تلك الجهود بدعم ثابت للقوى الآسيوية الأخرى، مثل مبيعات الأسلحة المستمرة لتايوان. إن هذا النهج الذي يوصف أحياناً بأنه "استراتيجية تحوّط"، يضمن أنه حتى مع صعود الصين فإن قوتها تحت السيطرة وجيرانها يشعرون بالأمان.
ويلفت زكريا إلى أن البنتاغون قام بتخفيض الإنفاق العسكري وأغلق الكثير من القواعد الأمريكية بعد احتواء الخطر السوفييتي في التسعينيات، كما قلل من تعداد القوات الأمريكية في الخارج باستثناء آسيا. "والسبب أن استراتيجية البنتاغون لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ لعام 1995 المعروفة باسم مبادرة ناي (Nye Initiatve) حذّرت من تطور قدرات الجيش الصيني المتزايدة وطموحات السياسة الخارجية للصين.
الأمر الذي دعا واشنطن لعدم تخفيض وجودها العسكري في المنطقة. وبدلاً من ذلك سيبقى ما لا يقل عن 100 ألف جندي أمريكي في آسيا في المستقبل المنظور، وستستمر مبيعات الأسلحة إلى تايوان لردع بكين عن استخدام القوة ضد الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي، وقد حافظ على "نهج التحوط" هذا الرؤساء من كلا الحزبين.
ويدعم فريد زكريا وجهة نظره بالقول إنّ سياسة الشراكة مع الصين دفعت ماو تسي تونغ ومن خلفه للانفتاح بعدما كانت الصين في قمة الدكتاتورية في ستينيات القرن الماضي على المستوى الداخلي، وفي الخارج تدخّلت أيديولوجياً وعن طريق دعم الثورات عسكرياً في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وبالمقارنة فإن الصين اليوم دولة مسؤولة بشكل ملحوظ على المستويين الجيوسياسي والعسكري، حيث لم تدخل حرباً منذ عام 1979، ولم تستخدم القوة العسكرية المميتة في الخارج منذ عام 1988، كما أنها لم تموّل أو تدعم متمردين في أي مكان في العالم منذ أوائل الثمانينيات.
وهذا السجلّ من عدم التدخل (Non-interference) فريد من نوعه بين القوى العظمى في العالم، التي استخدمت (وفي مقدمتها الولايات المتحدة) (القوة العسكرية بشكل أو بآخر عدة مرات خلال الأربعين سنة الماضية.
ويضيف زكريا أن الصين انتقلت من السعي لتقويض النظام الدولي إلى إنفاق مبالغ كبيرة لدعمه، حيث تعتبر ثاني أكبر دولة تنفق على قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وأكبر دولة من حيث عدد الجنود المشاركين في هذه القوات. وخلال الفترة بين عامي 2000 و2018 أيّدت بكين 182 قراراً من أصل 190 لمجلس الأمن تفرض عقوبات على الدول التي يُعتقد أنها انتهكت القواعد أو المعايير الدولية.
وعلى مستوى التجارة يقول زكريا إن الشركات الغربية تشتكي في السنوات الأخيرة من تضييق الصين عليها، مضيفاً أن الصين تواجه اليوم بعض التحديات الجديدة، خاصة مع تصميم شي جينبينغ على هيمنة الدولة اقتصادياً على القطاعات المهمة. ولكن إذا نظرنا للأمر في سياقه التاريخي فسنجد أن أكبر ميزة للصين في نظام التجارة العالمي لم تأتِ بسبب انتهاكها للقواعد وإنما بسبب حجمها الكبير اقتصادياً وكثافتها السكانية العالية.
ويضيف زكريا أنه فيما يتعلق بالتنمية السياسية في الصين، فإن الصين لم تنفتح في سياساتها بالقدر الذي توقعه الكثيرون؛ تحركت نحو مزيد من القمع والسيطرة. كما أن السياسة الخارجية للصين في عهد شي جينبيغ أكثر طموحاً وصرامة، بدءاً من سعيها لأدوار قيادية في وكالات الأمم المتحدة إلى مبادرة الحزام والطريق، وبنائها للجزر في بحر الصين الجنوبي.
وتمثل هذه التحركات تغييراً كبيراً عن السلبية السابقة للصين، التي أسّست لها مقولة الزعيم السابق دنغ شياو بينغ "أخفِ قوتك، استفِد من الوقت". ويجادل زكريا بأنه "لا يمكن استمرار النظام القديم، الذي تتصرف فيه دول أوروبية صغيرة كقوى عالمية ثقيلة الوزن، بينما يتم استبعاد دول عملاقة مثل الصين والهند من الصفوف الأولى للمؤسسات العالمية. يجب أن تُمنح الصين مكاناً على الطاولة، وأن تُدمج بشكل حقيقي في هياكل صنع القرار، أو أنها ستعمل بشكل مستقل وتقوم من جانب واحد بإنشاء هياكل وأنظمة جديدة خاصة بها.
خلاصة المقال أن زكريا يحاول حثّ متخذ القرار الأمريكي على مواصلة سياسة الشراكة والحصار تجاه الصين المستمرة منذ 50 عاماً، وهي سياسة كان عرّابها داهية السياسة الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر ورئيسه نيكسون. وقد نجحت سياسة الشراكة في فتح الصين اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً تجاه الغرب والعالم ككل، بينما أسهمت سياسة التحوّط والحصار غير المباشر عن طريق القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة في لجم طموحات الصين خلال العقود الثلاثة الماضية. ومع تزايُد الانفاق العسكري الصيني، وخاصة في قطاعي البحرية والطيران تتزايد مخاوف القادة العسكريين الأمريكيين، وتتزايد ضغوطهم على المجتمع السياسي في واشنطن. وهو أمر يحتاج إلى فطنة وكياسة كبيرتين لمنع تصاعد الخلاف بين الطرفين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.