سرت في مواكب المثالية والفضيلة.. كيف قضيت ليلة رأس السنة مع “بورخيس”؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/01/01 الساعة 08:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/01/01 الساعة 08:41 بتوقيت غرينتش

من بورخيس؟ أعرفه حين لا أسأل عنه، لكن حين يتعلق الأمر بتفسيره فأنا لا أعرفه أبداً. نفذ بورخيس من إطار الزمن، لجأ للماضي مرتحلاً في كتاباته، ليرتد في حاضرنا. مما جعله مسافراً عقلياً متمرساً إلى عصور أخرى-كما وصفته سوزان سونتاج-  فعدم معرفة بورخيس نابع من خصائص نصوصه الغنية في ذاتها، هو كالنهر في مقولة هيراقليطس الشهيرة "الإنسان لا يعبر النهر ذاته مرتين" في صيرورة مستمرة، يتحرك ويتغير، وتكرار قراءته يجدد النص ويغنيه.

كان ألبيرتو مانغيل يقضي رأس السنة في بوينوس آيريس عام 1967 رفقة بورخيس، الذي أخذ يعمل غير مكترث لضجيج الاحتفالات في المدينة، قال "الناس يحتفلون طائعين كما لو أن نهاية العالم غدت وشيكة" ثم أكمل نظم قصيدة. آمن بورخيس بما قاله صديقه شول صولار، منذ سنوات خلت، بأن ما تفعله عشية رأس السنة يعكس ويحدد النشاط الذي ستقوم به خلال الشهور القادمة من العام، فطبق تلك العِظة بصورة حرفية. يأمل بذلك أن يمنحه العام الجديد المزيد من الكتابة.

بعد 53 عاماً من تلك الذكرى، في قارة أخرى غير التي توجد بها بوينوس آيريس، انقضى عام كئيب جعل عالي البشرية أسفلها، لا احتفالات في شوارع مدينتنا، كحال مدن العالم كلها. أجلس متذكراً نصيحة صديق بورخيس، مستعيداً سيرة أحد أبرز كتاب القرن العشرين.

بورخيس وشوبنهاور

أفتتح ستار العام الجديد، الذي لا يبشر هو الآخر بانقشاع ضباب الوباء، بالحديث عن من كتب ذات مرة "ارتكبتُ أكبَر إثمٍ اقترفه إنسَان: لم أكُن سعيداً." – خورخي لويس بورخيس.

حين زار الأديب ماريو بارغاس يوسا بيت بورخيس، فوجئ بأن مكتبته لا تتضمن الكتب التي ألفها أو التي كتبها عنه النقاد، وكان رده "أعتني كثيراً بمكتبتي. من أنا حتى أكون إلى جانب شوبنهاور؟!".

تأثر بورخيس كثيراً بالفيلسوف الألماني شوبنهاور، كتب ميشائيل مار في كتابه "فهود في المعبد" عن ذلك "هزلية الوصف تعد شيئاً مألوفاً لنبرة كاتب يشكّل الهزل والسخرية من الذات، الجانب الأعظم في مغناطيسيته الغامضة. بورخيس جاد إزاء موضوعاته، لكنه غير جاد إزاء نفسه، فمن صفاته الأكثر جذباً، أنه يستطيع بصورة غير لافتة السخرية من ذاته بشكل متكرر، هذه الصفة مرتبطة بلا شك بكونه من أتباع شوبنهاور، الذي تعلم من أجله اللغة الألمانية".

وعلى العكس من شوبنهاور، الذي اعتز بأعماله، ورأى بكبريائه الشديد أنه خاطب المستقبل، حين لم ينَل التقدير الكافي في عصره. لم يقع بورخيس في حب أعماله، وحصد شهرة واسعة. حيث أصيب بلعنةِ المُعتَرَف بهم. وكان يستحقّ أفضل من ذلك، على حد تعبير إميل سيوران في رسالته لصديقه فرناندو سافاتير.

لم يكن بورخيس يحتفظ بأي نسخة من أعماله المطبوعة في مكتبته، ولم يعِد قراءة عمل له قد أرسل للنشر. قال في أحد اللقاءات التلفزيونية، بنبرة ساخرة لا تخلو من الحسم "شخصياً لا تعجبني أعمالي، سأفضل عمل أي كاتب آخر". ثم يكمل "أعتقد في كل مرة لا أفوز بجائزة نوبل بأن الأكاديمية السويدية قد تصرفت بشكل عادل". لكنه عاد ليقول "هؤلاء الناس في ستوكهولم ربما اعتقدوا أنهم منحوني الجائزة بالفعل". لقد رحل بورخيس 1986، ولم يحصد جائزة نوبل حتى الآن؛ لأسباب سياسية بعيدة عن استحقاقه الأكيد للجائزة.

اختار بورخيس أن يكون مبدعاً متطلعاً لتجاوز ذاته. فالكاتب كما يرى الأديب الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل، ويليام فوكنر، لا يجب أن يرضى عن نفسه، بل يتمسك برؤيته أن ما كتبه لم يكن جيداً كما يجب. عبر بورخيس عن ذلك بكلمات أخرى، حين قال "أكتب لتحقيق مصيري الشخصي". فلم يكن سيستطيع العيش دون الكتابة، إذ يستحيل تخيل خنق عالمه الخيالي في جسده، دون إخراجه للنور. فلا جسد يتسع لتقييد هذا الكم من الطاقة الإبداعية الخلاقة.

في محاضرة بعنوان "لغز الشعر"، يجيب بورخيس عن سبب الدافع للكتابة، حيث أشار لخطئه حين عنون محاضرته بهذا الاسم، لأن يوحي للمتلقي بأنه بصدد اكتشاف المغزى الحقيقي للغز، والحقيقة أنه لم يصل لأي حل، فقد أمضى حياته يقرأ ويحلل ويكتب، ليكتشف في نهاية الأمر أن هذا هو المهم مقتبساً من الكاتب الإسكتلندي توماس كارليل، قوله "كل الأعمال قابلة للاحتقار، ولكن القيام بها لا يمكن احتقاره".

إن ولع بورخيس بالنهايات المخالفة للنقطة التي بدأ منها، يشكل ثيمة رئيسية لكتابته، أبعد من كونها حالة خاصة في المحاضرة المذكورة فقط. نراه يكتب "قال لي أبي ذات مرة إنه يجب أن أنظر مليّاً إلى الجنود والبزّات والثكنات والأعلام والكنائس والقسس ومحلات القصابين". حيث المزج بين أغراض العسكريين ينقطع بذكر محلات القصابين، في ختام غير متوقع. 

في عام 1982، قبل وفاة بورخيس بأربع سنوات، قالت سوزان سونتاج في إحدى المقابلات "قد يقول الكثير من الناس إنه أعظم كاتب على قيد الحياة.. قلة قليلة من كتاب اليوم لم يتعلموا منه أو يقلدونه". ثم أعادت التأكيد على ما قالته في خطاب كُتب في الذكرى العاشرة لوفاته، مضيفة "وهذا لا يزال صحيحاً حتى الآن.. ما نزال نتعلم منك.. ما نزال نقلدك. لقد أعطيت الناس طرقاً جديدة للتخيل".

احترف بورخيس اللعب بالكلمات، عاملها كالعجين يشكل منه ما يشاء من التركيبات والجمل والأفكار. يخلقها في ذهنه، يعيد مداعبتها في عالمه وحده، قبل أن يمليها على أحد الجالسين معه بعد تمام نضجها. بالنسبة له، لم يكن بحاجة لينشد الخلود، فمؤلفاته مثلت الأبدية، وحققت الوجود المستمر. اعتقد أن واجب الإنسان الأخلاقي يتلخص في أن يكون سعيداً، لكنه رغم ذلك تصالح مع وجه العالم القبيح، ورأى في أن الكتب "تحمل إمكانية السعادة" الاعتقاد الذي لم يدر سببه، لكنه اعترف بجميل هذه المعجزة عليه. حيث ظل دائم الثقة في الكلمة المكتوبة.

بورخيس، عالم مغناطيسي يجذبنا حوله، كحركة الكواكب حول الشمس. تتألق في سمائه إيحاءات من شعراء وأدباء من مختلف الثقافات. نظم الشعر موسيقى، تخيل لحناً في رأسه ونسج معه نوتة شعرية، وجدنا فيها "التعبير التام عن الكونية"، كان هذا وصف شوبنهاور للموسيقى، كإرادة مدرة لذاتها؛ إن كان هناك من يليق بهذا الوصف أيضاً، سيكون بورخيس

"من الخطأ أن تفتح أحد مجلدات مقالات الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، أعني من الخطأ فعل ذلك لو كان لديك خطط لعمل أي شيءٍ آخر خلال هذا اليوم، فهذه المقالات تشبه جبل المغناطيس في الحكايات الخيالية، لا يقع المرء في مجالها إلا وانجذب إليها، وبقي ملتصقاً لساعاتٍ طويلة". ميشائيل مار/فهود في المعبد.

أتذكر- وهي كلمة استخدمها بورخيس كثيراً في مقالاته- ما ذهب إليه سيوران، في كتابه "تمارين في الإعجاب" بقوله: "قد يصبح بورخيس رمزاً لبشريّة خالصة من العقائد والنُّظُم. وإذا كان ثمّةَ من يُوتُوبيا أقبَلُ بها طَوْعاً، فهي تلك التي يسير فيها كُل على مثال بورخيس، أحد العقول الأقل إثارةً للملل وآخر المُرْهَفِين".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد أشرف
كاتب وقاص مصري
كاتب وقاص مصري مهتم بالثقافة العربية وعلم الاجتماع وتقاطعاتهما مع عالم الرياضة
تحميل المزيد