من الارتباط بالذهب إلى الزواج من النفط.. قصة هيمنة العملة الأمريكية على اقتصاد العالم

عربي بوست
تم النشر: 2020/12/31 الساعة 10:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/12/31 الساعة 10:51 بتوقيت غرينتش

نجح المغامر الأمريكي كولمبوس جونيور، عام 1930، في حفر أول بئر نفطية في شرق ولاية تكساس الأمريكية، متحدياً آراء الجيولوجيين الذين كانوا يؤكدون استحالة وجود النفط في تلك المنطقة. كان كولمبوس مستثمراً مغامراً عشق المخاطرة سعياً وراء أعلى الأرباح. وخلال فترة لا تتجاوز الستة أشهر تجمع عدد من صغار المستكشفين في شرق تكساس، محاولين استغلال الفرصة، الوضع الذي قفز بإنتاج الموقع لأكثر من 340 ألف برميل في اليوم الواحد. وبعد عام من ذلك التاريخ أصبح الحقل الذي أطلق عليه اسم "العملاق الأسود" من أكبر الحقول في العالم، بطاقة إنتاجية فاقت الـ500 ألف برميل في اليوم، وهو معدل ضخم بالمقارنة مع معدل الإنتاج الرائج في تلك الحقبة.

لم تكن التشريعات في ولاية تكساس تعطي سلطات الولاية حق التدخل في تنظيم الإنتاج النفطي. ومع ازدياد إنتاج النفط في شرق تكساس بواسطة الشركات الصغرى تم إغراق الأسواق بصورة لم يعهدها العالم، وهو ما أدّى إلى حدوث أول انهيار لسعر النفط في التاريخ، إذ انخفض سعر خام تكساس من الواحد دولار إلى مستوى الـ15 سنتاً أمريكياً، بل إن بعض الشركات اضطرت لبيع نفطها في حدود الـ2 سنت أمريكي فقط. الجدير بالذكر أن تكلفة إنتاج البرميل الواحد في تلك الفترة كانت في حدود الـ70 إلى 80 سنتاً أمريكياً.

أدت فوضى الإنتاج والاختلال بين العرض والطلب إلى اشتعال حرب الأسعار بين الشركات الكبرى والصغرى، وذلك بعد أن ارتفع إنتاج شرق تكساس في نهاية العام 1931 لمستوى المليون برميل في اليوم الواحد، أي نصف استهلاك الولايات المتحدة. لم ينحصر تأثير تلك الفوضى على سوق النفط الأمريكي فقط، بل امتد ليشمل السوق العالمي أيضاً.

كانت الولايات المتحدة في ذلك الوقت هي المنتج الرئيسي والمتحكم في سوق النفط العالمي، لكن مع  بداية ثلاثينيات القرن الماضي بدا أن لاعباً جديداً يبحث عن مكان له في الساحة العالمية. أظهرت الاكتشافات الضخمة التي وجدها الجيولوجيون التابعون لشركة ستاندرد أويل الامريكية في صحاري السعودية، أن تلك البقعة النائية من العالم هي من سيتحكم في سوق النفط العالمي في المستقبل القريب. 

دهاء الحكومة الأمريكية

في فبراير/شباط من العام 1945، كان الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت عائداً من مالطا على متن طيارته الرئاسية، ورأى أن يقتنص الفرصة ويلتقي بالملك السعودي عبدالعزيز بن سعود (وقد كانت هذه الخطوة دون علم البريطانيين). توقف الرئيس روزفلت في البحر الأبيض المتوسط، وأرسل باخرة صغيرة إلى مدينة جدة لإحضار الملك السعودي وعدد قليل من حاشيته. كان ذلك هو اللقاء الأول والأشهر على الإطلاق الذي يجمع بين قيادة البلدين. وهو اللقاء الذي تم فيه التوقيع على اتفاقية كوينسي، بالرغم من أن نصوص الاتفاقية لم يتم الإفصاح عنها بصورة شفافة في حينها، فإن معظم بنودها تم تسريبه فيما بعد.

فقد تعهد الرئيس روزفلت للملك عبدالعزيز أن تقوم حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بتوفير الحماية الكاملة لمملكته الوليدة، والوقوف إلى جانبها ضد أطماع القوى العظمى، كما تعهّد بضمان استمرار حكم أسرة آل سعود ودعمها بشكل لا محدود ضد التهديدات الداخلية والإقليمية. في المقابل تعهد الملك عبدالعزيز بعدم السماح للشركات غير الأمريكية بالتنقيب على النفط في الأراضي السعودية، واعتماد الدولار الأمريكي كعملة وحيدة في عمليات البيع للنفط السعودي.

صدمة نيكسون 

تعد حقبة السبعينات فترة تحول كبرى على الصعيدين المالي والسياسي. في العام 1970 كان حجم الدولارات المتداولة في الأسواق العالمية يقترب من حاجز الـ 300 مليار دولار. بينما كان حجم احتياطيات الذهب في Fort Knox لا يزيد عن 14 مليار دولار وفقاً للسعر الرسمي الذي وضعته اتفاقية بريتون وودز ( 35 دولاراً للأونصة).

يرى بعض المحللين أن السبب وراء هذا العجز الضخم بين الدولارات المطبوعة وتغطيتها من الذهب هو توسع الحكومة الأمريكية في إصدار الدولار لتغطية نفقات حرب فيتنام، وإنفاقها الهائل إبان الحرب الباردة. ومن المؤكد أن هذا التصرف كان انتهاكاً واضحاً لاتفاقية بريتون وودز. وبالرغم من أن الحكومة الأمريكية آنذاك كانت تعد أكبر مالك للذهب في العالم، فإن الخلل في الميزان بين المعروض من الدولار والمملوك من الذهب أخذ في التوسع بصورة أكبر في أواخر العام 1970. وفي منتصف شهر أغسطس/آب من العام 1971 اتخذ الرئيس نيكسون قراره المزلزل بالانسحاب من معاهدة برويتون وودز وفك ارتباط الدولار بالذهب.

كانت المحصلة الفعلية للقرار الأمريكي هي استبدال الذهب بالدولار، وفرض العملة الأمريكية على العالم كأمر واقع، وذلك من خلال تمكين الحكومة الأمريكية من طباعة ما تشاء من الدولارات، ما دام أن هناك من يثق بها ويرغب في امتلاكها. ولأن الحكومة الأمريكية كما أسلفنا كانت أكبر مالك للذهب في العالم، فقد تحكمت في عمليات العرض والطلب عليه، مما أوصل سعر أونصة الذهب إلى 350 دولاراً (أي عشرة أضعاف السعر المنصوص عليه في اتفاقية بريتون وودز). لقد حرر ذلك القرار شهادة وفاة رسمية لما كان يعرف بـ"النقد"، والذي كان يسيطر على التجارة والتبادل منذ قدم التاريخ. كما أعلن عن بداية ما يعرف بـ"اقتصاديات المضاربة"، وهو نمط جديد لم تعرفه البشرية من قبل. على صعيد آخر أتاح  القرار للحكومة الأمريكية إمكانية بيع احتياطياتها من الذهب بعشرة أضعاف أسعار بريتون وودز. 

ووترغيت وحرب 73

لم يبتسم الحظ كثيراً للرئيس نيكسون، فلم تمضِ سوى أشهر قليلة على انسحابه من بروتين وودز حتى تم توريطه في فضيحة ووترغيت. ووفقاً لعدد من المحللين، ربما يكون الرئيس نيكسون قد دفع ثمناً باهظاً لمواقفه الصارمة ضد اللوبي الصهيوني في واشنطن!

ومع انشغال نيكسون بمعالجة آثار فضيحة ووترغيت، كانت الفرصة مواتية للثعلب هنري كسينجر للانفراد بأمر السياسة الخارجية الأمريكية. وقد أدت هيمنته على الشأن الخارجي إلى تفاقم الأوضاع في الشرق الأوسط، وهو ما مهّد إلى اندلاع حرب 1973 وتبعاتها من إعلان الملك فيصل قطع إمداد النفط العربي عن الغرب.

شهدت أسعار النفط تصاعداً غير مسبوق نتيجة لوقف مبيعات النفط العربي لأوروبا وأمريكا، فقد ارتفع سعر برميل النفط إلى أربعة أضعاف سعره ما قبل المقاطعة، ووجدت الدول الأوروبية نفسها في موقف لا تحسد عليه.

أما في الولايات المتحدة فقد كان للمقاطعة أثر مزدوج. فعلى الصعيد المحلي شكل انعدام الوقود في محطات التعبئة والزيادة الكبيرة في سعره أمراً مفزعاً للمواطن الأمريكي. أما بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي فإن الأزمة لم تكن مطلقاً مزعجة له، بل كانت مهرجاناً لجني الأرباح والتوسع في الإيرادات. فزيادة سعر النفط أدت إلى زيادة الطلب على الدولار، وهو الشيء الذي مكّن الفيدرالي الأمريكي من مضاعفة طباعة العملة الأمريكية بمستويات غير مسبوقة. لقد ساعدت أزمة النفط الدولار الأمريكي من التحول من مجرد ورقة نقدية غير مغطاة بالذهب وغير مرغوبة لدى الدول الصناعية الكبرى، إلى سلعة يتبارى العالم في الحصول عليها لضمان مشترياته من الطاقة.

نجحت الخطة الأمريكية في فك ارتباط الدولار بالذهب الأصفر، وربطه عبر زواج كاثوليكي بالذهب الأسود، فقد انتبه صناع القرار إلى أهمية النفط من حيث أنه المصدر الأهم للطاقة، وهو ما يرفع من قيمته الاستراتيجية ويزيد من معدلات الطلب عليه، ليس فقط من قبل الدول الصناعية الكبرى، بل ودول العالم الثالث أيضاً.

حاولت في هذه العجالة أن أقدم للقارئ الكريم سرداً موجزاً لسر الارتباط الوثيق بين أسواق النفط والعملة الأمريكيه الخضراء. في الحلقة القادمة نحاول بإذن الله تسليط الضوء على بعض الجوانب الملتبسة في عوالم النقد والطاقة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالرحمن أحمد
باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا الطاقة
سوداني أمريكي مقيم في ولاية تكساس الأمريكية، محلل اقتصادي في قطاع النفط والغاز، وباحث في الاقتصاد السياسي وقضايا الطاقة، حاصل على درجة البكالوريوس من جامعة الخرطوم، وحاصل على الماجستير من جامعة كليرمونت بكاليفورنيا، وكاتب رأي في عدد من الصحف والمواقع الإخبارية
تحميل المزيد