بالنسبة إليّ سنة 2020 كانت سنة الكتب بامتياز؛ ففيها طُبع لي كتابان مترجمان، هما: "لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية؟" لتوماس باور، و"إمبراطوريات، منطق السيادة الكونية" لهرفريد مونكلر. وفيها راجعت كتابين مترجمين لطبعة ثانية، واحد لي "فكر بنفسك" لينس زونتجن، والآخر بطلب وهو "ثقافة الالتباس" لتوماس باور أيضاً. وفي هذه السنة أعددت المجلد العاشر من تحقيقي لأعمال إبراهيم عبدالقادر المازني ولكني لم أسلمه بعد بسبب حالة الإغلاق التي نعيشها. كما نشرت في مجلة "إبداع" القاهرية عدة مقالات من سلسلة بعنوان "مفضلياتي" أتناول فيها بالتحليل القصائد التي أفضلها من الشعر العربي القديم. كما نشرت عدة نصوص مترجمة في المجلة نفسها أذكر منها: "لماذا نبقى في الإقليم" لمارتن هيدجر، و"تحت شجرة الكريسماس" لهيرمان هيسه، و"حياة المدعو كانط" لهاينريش هاينه. ونشرت كذلك عدة مقالات طويلة في هنا في "عربي بوست" تجدها في صفحتي الخاصة. وإلى جانب أنني ترجمت جزءاً كبيراً من كتاب عن تاريخ علم الكلام الإسلامي، ولكنني لن أذكر عنوانه ولا مؤلفه بالطبع.
روح الشريعة وقصور الاستشراق
وإلى جانب ذلك كله قرأت كعادتي عدداً لا بأس به من الكتب الجادة والهازلة التي يمكن أن أذكر بعضها هنا كأمثلة. أما الكتب الجادة التي قرأت أغلبها بسبب التخصص فمنها كتاب هيو كيندي الأخير عن تاريخ "الخلافة" كنظام حكم. هذا في الإنجليزية أما في الفرنسية فقرأت كتاباً ضخماً لأوليفر هان بعنوان "كيف اكتشفت أوربا القرآن".
في العربية أقرأ تقريباً كل ما أجده على الشبكة من كتب ومجلات، وهذه كثيرة بالفعل. زد على ذلك ما يبعثه لي الكُتاب والمترجمون ودور النشر من كتب، وتكون هذه الكتب في الغالب في شكل (بي دي إف). وهذه تحديداً أقرأها بسرعة وأخبرهم برأيي بشكل الخاص في الغالب، وأتمنى أن يأتي اليوم الذي أتمكن فيه من الكتابة عنها أيضاً.
وحينما كنت في مصر قبل الوباء مباشرة اشتريت (من حر مالي) كتابين مترجمين أولهما أعجبني من حيث المحتوى ومتانة الترجمة هو كتاب "روح الشريعة الإسلامية" لجون بول شارناي بترجمة محمد الحاج سالم.
أما الكتاب الثاني فهو "قصور الاستشراق" لوائل حلاق بترجمة عمرو عثمان. وقد أعجبتني ترجمة الكتاب أيضاً، أما محتواه فلي عليه مآخذ كثيرة. طبعاً وائل حلاق كاتب ومفكر قدير وأنا أتابعه بدقة منذ سنة 1997 وهي السنة التي بدأت فيها كتابة رسالتي للدكتوراه، وقد عرفته آنذاك بسبب اهتمام المستشرقين الألمان بنتاجه منذ هذه الفترة المبكرة. ورأيي أن هذا الكتاب أضعف من كتبه السابقة، وأسوأ ما فيه هذه الأنوية المتضخمة بشكل غير معهود فيما كتب من قبل. وكنت قد بدأت في كتابة مقال نقدي لمحتوى الكتاب، ولكنني توقفت في منتصفه كما أفعل كثيراً، ولعلي أكمله قريباً إن شاء الله.
إضافة إلى كل ما سبق قمت بإعادة قراءة عدة كتب قديمة وذلك لأشغال متنوعة، ومنها كتب للجاحظ وابن حزم وعبد الرحمن بدوي وطارق البشري، وحالياً أقرأ كتاباً لزكي نجيب محمود.
قراءاتي في الألمانية
أما عن قراءاتي في الألمانية، فتأتي في المرتبة الثانية بعد العربية. ورغم أنني لم أذهب لأي معرض كتاب؛ حيث ألغيت دعوة معرض لايبزج للكتاب، كما ألغيت دعوة مؤتمر المترجمين الدولي في برلين بسبب إجراءات الإغلاق بالطبع، فإنني قرأت عدداً كبيراً من الكتب الألمانية.
بعض هذه الكتب قرأته بطلب من دور نشر وبعضها بطلب من القسم الثقافي في معهد جوتة الألماني، وأذكر منها كتاب "منطقة نزاع" لإينس جايبل، وكتاب "الذاكرة لمن؟ الماضي الاستعماري والعنصرية اليوم" لمارك تاركسيدس، وعنه كتبت مقالاً طويلاً نشر في عربي بوست.
ولكن توجد كتب قرأتها كما سبق بسبب التخصص، منها الكتاب الأخير للمؤرخ الألماني يورن روسين "هيستورك" عن نظريته الشهيرة في كيفية كتابة التاريخ.
ومنها كذلك كتاب يورجن هابرماس الأخير "أيضاً تاريخ للفلسفة"، وهو من أصعب الكتب التي قرأتها منذ فترة، ولكنه يستحق تعب القراءة بالفعل. والكتاب في مجمله دراسة لتاريخ التفكير النقدي في سياقه الغربي، والذي تم تنظيره فلسفياً على يد إيمانويل كانط وديفيد هيوم.
ولأن هابرماس أحد كبار المدافعين عن هذا الخط الفكري، ويعتبره الخط الرئيسي في الفلسفة الغربية خلال الألفيات الثلاثة الماضية. وبهذا المعنى يعد الكتاب تأريخاً للفلسفة أيضاً، ولكني كنت أفضل لو زاد هابرماس من تواضعه قليلاً وجعل العنوان: "أيضاً تاريخ للفلسفة النقدية الغربية".
أما فيما يخص فلسفة هابرماس نفسه فالكتاب بمثابة تأسيس تاريخي للانعطافة الدينية في فكره، وهي الانعطافة التي برزت لديه بعد هجمات سبتمبر 2001؛ حيث بدأ يهتم بدور الدين في المجال العام. وقد ظهر له ولمجايليه من منظري الحداثة أن الدين لم يختفِ – كما افترضوا – في النصف الثاني من القرن العشرين.
فقد ثبت له وهو العلماني العتيد أن الدين لا غنى عنه عندما يتعلق الأمر بالتواصل حول معايير العيش معاً في مجتمع عالمي متعدد الثقافات والديانات. وهذا ليس إقراراً منه بواقع فقط، ولكنه إقرار بأن للإيمان الديني تأثير إيجابي أيضاً، خاصة كمحفز اجتماعي في حالة انعدام الأمن.
وبالتالي أصبح للدين موقع حاسم في رؤية هابرماس للمجتمع (العالمي). وأصبح يرى أن الحل الأفضل يتمثل في التفاهم المتبادل بين دعاة العقل العلماني ودعاة المعتقد الديني. ولذا يمكن أن ينظر لكتابه أيضاً على أنه عرض للتفاهم من المفكر العلماني لزميله الديني.
هزل 2020
وأختم هذا الحديث الجاد الذي طال بالكلام عن أحد الكتب المسلية (الكثيرة) التي طالعتها هذا العام. وهو كتاب عن تاريخ المخبوزات بين فيينا وباريس، وعنوانه: "من الكيبفرل إلى الكروسان". والكتاب يركز على الدور الذي لعبه خباز ورجل أعمال نمساوي يسمى (أجوست تسانج) في فرنسة المخبوزات النمساوية وتعليم الفرنسيين طرق الخبيز الراقية.
ويقول الكتاب إن هذا الرجل رأى في بداية القرن التاسع عشر بؤس المخبوزات الفرنسية مقارنة بمخبوزات فيينا الفخمة. ولأنه أراد تغيير أذواق الفرنسيين في هذا المجال افتتح أول مخبز نمساوي في باريس سنة 1838. وجهز مخبزه هذا بشكل فاخر، بل وثوري بالنسبة للمخابز الفرنسية آنذاك، وقد استخدم في مخبزه أفراناً مميكنة مما كان يعد ثورة آنذاك. وكما نقول الآن في الإعلانات وبفخر عن شيء ما أنه صناعة يدوية كان الرجل يفتخر آنذاك بأن خبزه لم تمسسه يد بشر!
وكان هذا مما جذب إليه الأنظار، وجعل مخبزه مقصداً للباريسيين آنذاك، ومن ثَم اتسعت شهرة الرجل، وخلال سنتين فقط افتتح 12 فرعاً لمحله، ما جعل شهرته تتعاظم وتمتد لخارج فرنسا. وقد عرفت طريقته في الخبيز الآلي باسمه "طريقة تسانج" أو "طريقة فيينا". واشتهر الخبز الذي يصنعه باسم (Pain viennois) أي "خبز فيينا" وهو ما نعرفه عندنا في مصر بالعيش "الفينو"!
أما أشهر إنجازات الرجل فإحضاره لأحد المخبوزات النمساوية العتيقة تسمى "كيبفرل" وتطويره بشكل كبير حتى تحول إلى الكروسان الفرنسي بشكله المعروف حالياً. وهذا "الكيبفرل" النمساوي أكثر نحافة وأشد استدارة من الكروسان كما نعرفه الآن. ويتفنن الكتاب في الحديث عن كيفية تطوير الرجل للعجيبنة والإضافات المتنوعة التي أدخلها حتى أصبح الكيبفرل النمساوي كروساناً فرنسياً.
ورغم طرافة الكتاب وتوسعه في هذه الجزئية تحديداً فإنه أهمل التاريخ السابق لهذا الكيبفرل النمساوي. وهذا الموضوع تحديداً مليء بالأساطير ولكن أقربها للمنطق أن جذور الموضوع تعود لآخر حصار عثماني لفيينا (سنة 1683). وفي ذلك الحصار أبدى أهل فيينا جلداً وصبراً كبيرين على مقاومة الحصار العثماني الذي طال أكثر مما توقع العثمانيون، لذا قرروا فك الحصار خاصة أن أشياء كثيرة بدأت تعمل ضده منها الشتاء الذي حل بأمطاره وثلوجه ما سيؤدي لصعوبة تحريك المدافع وتأخير وصول الإمدادات.
المهم عندما انسحب العثمانيون تركوا خلفهم ما لا يحتاجونه، لذا تركوا آلافاً مؤلفة من أكياس القهوة التركية التي جمعها أهل فيينا واعتبروها من غنائم الحرب. وآنذاك، كما يحكي أهل فيينا أيضاً، قرر أحد خبازي فيينا المشهورين واسمه (بيتر فيندلر) أن يصنع نوعاً جديداً من المعجنات احتفالاً بهزيمة العثمانيين كي يؤكل مع شرب قهوتهم، ولأن الهلال كان رمزاً للعثمانيين فقد قرر أن تكون فطيرته على شكل الهلال ليكون أكلها رمزاً معبراً عن هزيمتهم للهلال. ومن هنا ظهرت معجنات الكيبفرل هلالية الشكل التي أمست جزءاً مهماً ضمن المخبوزات النمساوية. فأهل فيينا كانوا على الأرجح أول من شرب القهوة التركية مع هذا الكروسان النمساوي العتيق!
ورغم اشتهار الكيبفرل في النمسا ومنطقة وسط أوروبا فإنه لم يصل فرنسا إلا في نهاية القرن الثامن عشر. ففي سنة 1770 تزوج ولي عهد فرنسا لوي-أوجست (لويس السادس عشر) من الأميرة النمساوية (ماريا أنطونيا) التي انتقلت إلى فرنسا في موكب مهيب، وما أن عبرت الحدود النمساوية الفرنسية ووصلت إلى مدينة ستراسبورج الفرنسية حتى غيرت كل شيء تقريباً، فغيرت موكبها النمساوي بموكب فرنسي كانت ينتظرها هناك، وغيرت ملابسها النمساوية بملابس فرنسية، وغيرت اسمها من (ماريا أنطونيا) إلى (ماري أنطوانيت)، بل وغيرت لغتها أيضاً، فلما تحدث عمدة ستراسبورج في استقبالها بالألمانية رفضت هي ذلك وقالت إنها منذ الآن لا تفهم إلا الفرنسية. وتقول الأسطورة إن الشيء الوحيد الذي أحضرته معها ولم تغيره كان الكيبفرل النمساوي الذي اشتهر في فرنسا بسببها، ولكنه ظل كما هو لم يجرِ تطويره فرنسياً حتى قام أجوست تسانج بذلك.
وقد مات أوجست تسانج في فيينا سنة 1888 عن ثروة طائلة، ولكن حتى وفاته لم تظهر أي وصفة للكروسان في كتب الخبيز الفرنسية. وقد حدث هذا فقط في سنة (1906). وفقط في سنة 1948 أقر "قاموس لاروس لفن الأكل" بالأصل النمساوي للكروسان. وفي القرن العشرين أيضاً أصبح الكروسان رمزاً وطنياً فرنسياً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.