ثمة أزمة توتر باردة تدور بين الرباط ومدريد هذه الأيام، تعبِّر عنها تصريحات متبادلة، يحاول كل طرف أن يلوِّح بأوراق الضغط التي بيديه، حتى يدفع المغرب إسبانيا إلى عدم مقاومة سعيه من أجل الطي النهائي لملف الصحراء بعد اعتراف الإدارة الأمريكية بسيادته عليها، وتحاول إسبانيا من جهتها الضغط على المغرب حتى لا تذهب عينه بعيداً في مناكفة مصالحها الحيوية.
نقطة البداية كانت في التصريح الذي أدلت به وزيرة الخارجية الإسبانية تعليقاً على الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، والذي ذكرت فيه بموقف بلدها من النزاع حول الصحراء، وأن الملف لم يحدث فيه أي تغيير، وأنه لا يزال يخضع للمحددات التفاوضية نفسها التي رسمها مجلس الأمن.
لقد كان المفترض أن يزور رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، المملكة المغربية لحضور اجتماع اللجنة العليا المشتركة للبلدين في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول الحالي، لكن اللقاء قد تم تأجيله، وتم تبرير ذلك بالوضع الوبائي، ليتم بعدها مباشرة كشف معطيات تتعلق بمطلب مغربي بإدراج وضع المدينتين سبتة ومليلية ضمن جدول أعمال اللقاء، وأن ذلك كان السبب المباشر لتأجيله.
وسواء كانت هذه المعطيات صحيحة أم لا، فالثابت أن رئيس الحكومة المغربية، سعد الدين العثماني، قد أدلى بتصريح ذكر فيه أن المغرب سيفتح ملف وضع المدينتين مع إسبانيا بعد أن ينهي قضيته ذات الأولوية (الصحراء).
وسائل الإعلام ذكرت أن تصريح رئيس الحكومة سعد الدين العثماني لم يكن مقصوداً ولا موجهاً، وأن رئيس الحكومة إنما ذكر هذا الموقف تحت إلحاح من الصحفي، لكن وزارة الخارجية الإسبانية تعاملت بجد مع هذا التصريح، واستدعت سفيرة المغرب في مدريد وبلغتها بضرورة أن يحترم شركاء إسبانيا وحدتها الترابية.
والحقيقة أن أحداً لم ينتبه للعبارة التي استعملتها الخارجية الإسبانية، وهي تستنكر تصريحات العثماني بشأن المدنيتين، مع أنه لم يفعل أكثر من استعادة الفكرة ذاتها التي سبق للملك الراحل الحسن الثاني أن أدلى بها في سياق الضغط على إسبانيا، حينما اقترح خلية مشتركة مغربية إسبانية للتفكير في وضع المدينتين، فاستعملت إسبانيا كلمة "سيادة وسلامة أراضيها" في اللحظة التي يستجمع فيها المغرب كل أنفاسه، ويبذل كل جهوده من أجل الطي النهائي لملف وحدته الترابية (سيادته على الصحراء).
المغرب في السياق ذاته، شغل ورقة أخرى للضغط على إسبانيا، هي ورقة الهجرة، فأكد ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، أن المغرب يرفض القيام بدور "دركي الهجرة" لحماية الحدود الأوروبية، معتبراً أن تدبير ملف الهجرة غير الشرعية هو مسؤولية دول المنشأ ودول الوصول، ولا ينبغي وضع ثقل الهجرة كله على بلدان العبور.
ومع أن تصريحات بوريطة كانت موجهة إلى الأوروبيين الذين تميل مقاربتهم إلى تحميل المغرب مسؤولية صد الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، إلا أن إسبانيا تلقفت الرسالة بشكل سريع وأعادت بعث رسالة مقابلة، إذ نشرت وزارة العمل والهجرة والضمان الاجتماعي الإسبانية، الثلاثاء الماضي، معطيات مهمة عن المهاجرين المغاربة بإسبانيا، وأنهم في صدارة ترتيب العمال الأجانب (من خارج التكتل الأوروبي)، وأن أكثر من 800 ألف مغربي يقيمون بشكل غير قانوني بها.
والمثير للانتباه أن حملة التصعيد الباردة بين البلدين، التي يُقِذَفُ فيها بكل أوراق الضغط تأتي بعد التحضير للقاء اللجنة المشتركة، وعقب الإعلان الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه.
تفسير هذه الديناميات لا يمكن قراءته فقط من خلال الموقف من الصحراء، فقضية الصحراء بالنسبة إلى إسبانيا هي مجرد ورقة تتمسك بها للإبقاء على احتلالها لسبتة ومليلية والجزر الجعفرية، وهي تدرك أن الخطوة الثانية بعد إنهاء المغرب لملف الصحراء هو تحرير المدينتين، وأن معطيات التاريخ والجغرافيا والسياسة ومبادئ القانون الدولي كلها في صالح المغرب، وأنها لن تستطيع أن تصمد في مواجهة مطالب المغرب باسترجاع المدينتين، ولذلك تنظر لأي تقدم يحرزه المغرب في ملف وحدته الترابية بقليل من الود.
المغرب على الأقل في المرحلة الراهنة لا يطمح أن يفتح ملف المدينتين، فهو يدرك أنه لا يمكن فتح جبهتين في وقت واحد، لكنه، في الآن ذاته يدرك أن التحدي الذي سيواجهه لتحقيق طموحه بإنهاء ملف الصحراء، ليس هو الجزائر التي تعاني من أزمة اقتصادية وسياسية خانقة، وتوجد في وضع إقليمي ضعيف بسبب تغير الموقف الموريتاني، وميله للتنسيق مع المغرب، وإنما التحدي هو إسبانيا، التي تملك أوراق ضغط مهمة يمكن أن تستعملها ضد المغرب، للإبقاء على وضعها المحتل للمدينتين.
والحقيقة أن استراتيجية المغرب لإضعاف أوراق اعتماد إسبانيا لم تبدأ مع الإعلان الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه، وإنما بدأت مبكراً مع تربع الملك محمد السادس على العرش، وبلورته لاستراتيجية تنمية شمال المغرب، وبناء الميناء المتوسطي، الذي حاصر مدينة سبتة، وقضى بشكل نهائي على وضعها الاقتصادي والتجاري، لتساعده بعد ذلك جائحة كورونا في الإنهاء الكلي لتهريب السلع من المدينتين سبتة ومليلية إلى الداخل المغربي، حتى أصبحتا عبئاً ثقيلاً على الحكومة المركزية في مدريد.
لقد نجحت استراتيجية المغرب في خلق وإنضاج مبررات التخلي الإسباني عن المدينتين، ثم جاءت اللحظة التي يستعمل فيها هذه الورقة، ومعها أوراق أخرى أكثر قوة مثل ورقة الهجرة، حتى يدفع إسبانيا إلى أن تساند طموحه في إنهاء ملف الصحراء، أو على الأقل تبقى في الحياد ولا تضطر لمعاندة سياسته.
إسبانيا التي تفهم جيداً لغة المغرب وحساباته، توجد اليوم في وضع غير محسود عليه، لأنها من جهة تدرك أن دعمها لسياسة المغرب لإنهاء ملف النزاع حول الصحراء بالطريقة المغربية، يعني أنها تساعده في وضع الحبل على عنقها، حتى تتنازل له عن سبتة ومليلية، ولأنها من جهة ثانية لا تستطيع أن تتحمل خروج المغرب من دائرة المسؤولية في قضية الهجرة، لأن الخطر الذي تشعر به أوروبا برمتها تتحمله إسبانيا لوحدها، لأن الجغرافيا تحكم بأنها هي بلد الوصول الأول ضمن دول أوروبا.
من المستبعد جداً أن تظل لغة التوتر هي السائدة بين الطرفين، فالاتفاق الذي أبرم بين المغرب وأمريكا، وحجم الاستثمارات الأمريكية التي ستبذل في اتجاه إفريقيا عبر المغرب، يعني الكثير بالنسبة إليها، ويعني من بين ما يعنيه أن هذه النزاعات التي كانت تنتمي إلى زمن الحرب البادرة، تتجه السياسات الدولية اليوم إلى إنهائها نظراً لكلفتها وتأثيرها على استقرار المنطقة وعلى حركية التجارة بها، ولذلك ما يُنتَظَرُ هو أن يعزف إيقاع واحد بين الطرفين، بعد أن يتم ضبط الميزان على أرضية مصالح مشتركة، توقن فيها إسبانيا أن المغرب لن يخرج ورقة المدينتين، ولن يكون جاداً في استعمال ورقة الهجرة ضدها، وأنه لم يلجأ مرة أخرى إلى تغليب كفة فرنسا، وإضعاف شراكته لإسبانيا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.