تشرح أسباب فوز وخسارة المرشحين ودور العائلات الكبرى.. كيف تساعدنا “جغرافيا الانتخابات” في فهم وتحليل الصراعات السياسية؟

تم النشر: 2020/12/26 الساعة 11:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/12/26 الساعة 11:42 بتوقيت غرينتش
المصريون يصوتون في الانتخابات البرلمانية / رويترز

مازال النظام الانتخابي في جمهورية مصر العربية له طبيعة خاصة يختلف بها عن غيره من كل النظم العالمية، التي تجري فيها عملية الاقتراع بشكل سري يزيل الضغوطات من على كاهل الناخبين، ويُعلي من نزاهة العملية الانتخابية ويعزز الديمقراطية. لكن النظام المصري السياسي والانتخابي يتميز بسمات النظام الشعبوي، بما في ذلك النفوذ الجهوي والقبلي على النظام السياسي المصري. 

ويظهر ذلك النفوذ المتعاظم للجهات القبلية والعائلية خاصة في صعيد مصر، وهو الأمر الذي بدأ في نهاية الفترة الناصرية وبداية حكم الرئيس الراحل محمد أنور السادات. إذ كانت تجري عملية الانتخابات المحلية بنظام مباراة كرة القدم، مباراة بين فريقين داخل القرية أو البلدة الواحدة، إذ تنقسم القرية أو المركز إلى جبهتين انتخابيتين. ووجهاء القرية والعائلات الكبرى هم من يتحكمون في عملية اختيار المرشحين للانتخابات، وكان ذلك يتسبب في حدوث خلافات اجتماعية حادة، تصل لمرحلة الاستقطاب بين أبناء العائلات الكبرى المتنافسة انتخابياً. ولطالما كانت طبيعة الموقع الجغرافي والديمغرافي عاملاً مهم في فوز جبهة أو عائلة على حساب عائلة أخرى، بسبب الزيادة السكانية أو توزيع الدوائر الانتخابية. وكثيراً ما تخسر العائلة التي تمتلك خطة عمل حقيقية لتحسين أوضاع القرية أو المركز الانتخابي التي ترغب في تمثله.

في أوائل السبعينيات من القرن المنصرم، وفي مسقط رأسي بالدقهلية، حدث خلاف بين أكبر جبهتين، فذهبوا إلى مدير الأمن رأساً، كي لا يتطور الأمر ويتصاعد النزاع إلى اشتباك مادي. فبعد فوز جبهة منهم قام الفلاح الفصيح لمدير الأمن يشرح الموقف من الناحية الجغرافية وعدد السكان وطبيعة البيئة التي ساعدت على فوز الجبهة الأخرى.

جغرافيا الانتخابات

وتدخل بعد ذلك عمدة القرية يشرح الموقف وكأنه مشهد من التراجيديا الإغريقية من ممثل بارع، صاحب كاريزما، وهو يشرح ماذا كان يجسد الفلاح الفصيح في الشرح وكأنك أمام مشهد من مسرحية "هالو شلبي" لسعيد صالح. وبعد ذلك أظهر العمدة وشرح عامل التقسيمات الجغرافية في عملية اقتراع دوائر مجالس المحليات والنواب. شرح العمدة كل ذلك ولم يعلم أن هناك فرعاً في الجغرافيا البشرية يسمى جغرافيا الانتخابات. وهو فرع يهتم بتحليل الأساليب والسلوك ونتائج الانتخابات في سياق جغرافي وباستخدام مناهج تحليلية جغرافية. أو على وجه التحديد هو دراسة التفاعل المزدوج بموجب السمات الجغرافية للإقليم المراد دراسته، كذلك تأثير القرارات السياسية والتوزيع الجغرافي على نظام ونتائج الانتخابات. 

والغرض من هذا التحليل هو تحديد وفهم العوامل المسببة لنمط انتخاب سكان تلك المناطق بأسلوب متكامل. وتعد جغرافيا الانتخابات فرعاً جديداً تناولتها الجغرافيا السياسية، وتعد من المواضيع الحديثة التي لها تأثير مباشر في الوضع السياسي الداخلي والخارجي للدولة. ومما لا شك فيه أن جغرافيا الانتخابات بما تحتويه من دراسات في الأنماط الانتخابية والسلوك الانتخابي قد أضافت بعداً جديداً للجغرافيا السياسية بشكل خاص وللجغرافيا بشكل عام، فجغرافيا الانتخابات هي جزء من الجغرافيا السياسية، وذلك لأنها تهتم بدراسة تباين الأنماط الانتخابية من مكان إلى آخر، وتحديد أسباب هذه الاختلافات، وهذا يعد من صميم اهتمام الجغرافيا كما تستطيع الاستفادة من البيانات والإحصائيات الانتخابية المتاحة في إثراء الجغرافيا بأبحاث ودراسات متميزة، على اعتبار أن ظاهرة الانتخابات هي ظاهرة مستمرة ومتغيرة من فترة إلى أخرى، وأن تتبع هذه الظاهرة ومتغيراتها يحقق هذا الإثراء.

من هذا المنطلق فإن جغرافيا الانتخابات هي جوهر الجغرافيا السياسية، خاصة أن الهدف النهائي للجغرافيا السياسية هو توضيح المسببات والنتائج المكانية للعمليات السياسية. وفي هذا المجال بالذات دراسة العمليات المكانية واختلافاتها تستطيع جغرافيا الانتخابات أن تضيف بعداً جديداً للدراسات الجغرافيا إذا كانت العلوم بشكل عام يمكن أن تصنف وفق ثلاث مجموعات أساسية، بحيث تشمل المجموعة الأولى العلوم الطبيعية، سواء تلك التي تبحث في المادة غير الحية كما هو الحال في الكيمياء والفيزياء، أو تبحث في الكائنات الحية كما هو الحال في علم الأحياء أو النبات. في حين تشمل المجموعة الثانية العلوم الرياضية، التي تبحث في الكم والخواص المجردة من أعداد وأشكال. أما المجموعة الثالثة فتضم العلوم الاجتماعية والإنسانية، والتي تتمحور حول الإنسان وأحواله كعلم النفس والاجتماع والاقتصاد. 

فإننا لا يمكن أن نضع الجغرافيا تحت أي مجموعة من المجموعات السابقة، فهي ليست بالعلم الطبيعي الصرف، كما أنها ليست بالعلم الاجتماعي الصرف، وإنما هي جسر يجمع بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية في نسق واحد تتفاعل فيه البيئة الطبيعية مؤثرة في الإنسان ومتأثرة به، بحيث يخرج في النهاية مركب جغرافي متكامل ناتج عن هذا التفاعل بين المكونات الطبيعية والبشرية للبيئة الجغرافية. ومن هنا نجد أن التفسير المتكامل للعديد من الظواهر البشرية وفق المفهوم المتكامل لعلم الجغرافيا هو أحد الأمور التي يجب العناية بها.

جغرافيا التحولات السياسية 

وعليه فإن تعريف الجغرافيا بأنها علم التخصص في عدم التخصص هو أحد التعريفات الهامة للجغرافيا، والتي تؤكد على الطبيعة التركيبية لعلم الجغرافيا، والتي تتداخل فيها فروع الجغرافيا المختلفة، سواء منها الطبيعية أو البشرية. وعليه فإن الجغرافيا تدرس البيئة بكل مكوناتها، والتي لا يستطيع أن يفهمها أو أن يدرسها بهذا الشكل باحث آخر في أفرع العلوم الأصولية المختلفة، بسبب محدودية رؤيته النابعة من طبيعة تخصصه. ولم تعد الدراسات الجغرافية في الوقت الحاضر دراسات تقليدية نمطية أو كشفية وصفية، بل أفرزت الاتجاهات المعاصرة في الجغرافيا فروعاً جديدة ترتبط بالواقع البشري المعاصر، كجغرافيا الانتخابات وجغرافيا الأديان والصراع الدولي والسلام.

 ويمكن القول إن جغرافيا الانتخابات كانت من إسهامات المدرسة الجغرافية الفرنسية والتي تطورت لتشمل اهتمام عدد من المختصين في حقل الجغرافيا السياسية بهذا الموضوع في الوقت الحاضر، وفي مختلف جهات العالم. 

ولم تعد دراسات الجغرافيا السياسية في الوقت الحاضر أسيرةً لدراسة الدولة كونها وحدة سياسية، إلا أنها اتجهت نحو دراسات عديدة ومتعمقة ترتبط بالتحولات الاقتصادية والسياسية العالمية التي طـرأت عـلى الساحة السياسية خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين. بالإضافة إلـى انتشار مفاهيم جديدة مثل: العولمة والدمقرطة (إشاعة الديمقراطية)، وأيضاً ظهور بعض الدراسات الخاصة بسلوك الأفراد والجماعات تجاه بعض الظواهر مثـل: دراسـة السلـوك الانتخابي للأفراد وتأثره بالظروف الجغرافية (جغرافيا الانتخابات).

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد سعد عبداللطيف
متخصص فی علم الجغرافیا السیاسیة
تحميل المزيد