ماذا يحدث عندما لا يجيد السياسي قراءة التاريخ؟ دروس من سقوط الاتحاد السوفييتي

عربي بوست
تم النشر: 2020/12/24 الساعة 11:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/12/24 الساعة 12:10 بتوقيت غرينتش

"إذا أردت أن تَصْدُقَ تنبؤاتك بما سيحدث في المستقبل، فعليك أن تكون جزءاً ممن يصنعون ذلك المستقبل". 

كانت تلك هي وصية البروفيسور بيتر دراكر عالم الإدارة الأمريكي المشهور لمديري الشركات الذين كانوا يستعينون به في وضع ومراجعة استراتيجياتهم التجارية والمالية. من نافلة القول أن دراكر لم يرد بمقولته تلك أن ثمة من بمقدوره العلم بالغيب، لكنه ربما أراد أن هناك عدداً قليلاً من الشركات التي بوسعها تغيير مزاج المستهلك عبر منتجاتها الذكية؛ هذه الشركات هي التي تصنع السوق ومن ثم فإنها تملك أدوات التنبؤ بمستقبل التنافس التجاري (شركة أمازون نموذجاً). 

كم أبدع دراكر في مقولته تلك؛ لكن هل تصمد فرضيته في عالم السياسة، وهل يتصور أن القوى العظمى والدول الكبرى التي تتحكم في المشهد السياسي العالمي يمكنها صناعة الأحداث والتنبؤ بمآلات المستقبل؟

دعونا نسلط الضوء على النموذج الأفغاني؛ الذي ظل يمثل ساحة للتنافس بين القوى الكبرى. ورد في الوثائق التي أفرجت عنها وكالة الاستخبارات الروسية مؤخراً أن الخطأ الأكبر الذي اتخذته القيادة السوفييتية الذي سرع بسقوطها كان "التدخل في أفغانستان". 

المفاجأة (وبحسب التقرير) أن التدخل السوفييتي في أفغانستان جاء في الأساس لقطع الطريق أمام الأطماع الصينية في المنطقة وليس الأمريكية كما هو مشاع. لكن القيادة السوفييتية تفاجأت من ردة الفعل العنيفة التي أبداها الأمريكيون من خلال أصدقائهم العرب. 

فقد نجحوا في استغلال الشعور الإسلامي المعادي للشيوعية ووظفوه لصالحهم، بل إنهم استثمروا الهلع السعودي/الخليجي من الشيوعية في تمويل الحرب في أفغانستان. هنا وجدت القيادة السوفييتية أن خطوتهم تلك جلبت عليهم متاعب لم تكن في الحسبان. وأن طبيعة الحرب الباردة والصراع السوفييتي/الأمريكي لم تكن لتسمح بالانسحاب من المواجهة.

جاء الانتصار الأفغاني على روسيا بمثابة ثأر للمؤسسة الأمريكية، فالغريم السوفييتي كان قد دعم الثوار في فيتنام وساهم في هزيمتهم. لكن أمريكا نفسها دفعت ثمناً باهظاً لانتصار المجاهدين الأفغان.

 ففي أعقاب سقوط كابول؛ ورثت القيادة الباكستانية المقربة جداً من واشنطون وضعاً معقداً يصعب التعامل معه. امتد خطر أمراء الحرب الأفغان إلى الحدود الباكستانية وباتوا يشكلون خطراً على الأمن القومي الباكستاني. ولحسم الفوضى قررت القيادة الباكستانية (بعد الضوء الأخضر الأمريكي) القضاء على قادة الحرب من خلال دعم القائد الصاعد الملا عمر زعيم حركة طالبان.

 يقال إن عدداً من ضباط الاستخبارات البريطانية حذروا CIA من خطورة دعم هذا الفصيل الأصولي؛ لكن واشنطن راهنت على مقدرتها في التحكم بمجريات الأمور ومستقبل الأحداث. وكما هو معلوم فإن "طالبان" تمردت بعد ذلك على إسلام آباد وواشنطن، بل وربما ثأرت لمن بقي حياً من قادة الاتحاد السوفييتي.

في ندوة عن مسارات الثورات العربية؛ ذكر د. ستيفن كوك، خبير دراسات الشرق الأوسط في  Council on Foreign Relations (CFR)، أنه قبل شهر من انطلاق الثورة التونسية شارك (ضمن كوكبة من الأكاديميين والأمنيين الأمريكيين) في جلسة مغلقة عن الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط.

وبعد مداولات مطولة، خلصت الندوة إلى أنه ليس ثمة خطر يهدد أمن واستقرار المنطقة، وأن دولها غالباً ما ستعيش حالة من الاستقرار السياسي في السنوات القادمات. لكن بعد أقل من شهر، جاءت أحداث الثورة التونسية لتؤكد أنه من الصعب جداً التنبؤ بمسارات الثورات؛ وأن أجهزة المخابرات العالمية ما زالت تفتقر إلى الأدوات الدقيقة لقياس اتجاهات الرأي العام. بحسب ما أورده د. ستيفن: "آخر ما كان يمكن تصوره في تلك الندوة أن يسقط النظام التونسي بتلك السهولة؛ ويتبعه النظام المصري العتيد".

أوردت الأمثلة السابقة للتدليل على أن التاريخ السياسي ذاخر بالأخطاء الاستراتيجية والتي هي نتيجة حتمية للنزوح نحو تضخيم الذات، وعدم الدقة في قراءة الأحداث وربطها بسنن التاريخ. ومن المدهش أن هذه الأخطاء تختلف في سياقاتها لكنها تتفق في نتائجها، لقد أثبتت مراكز البحوث والدراسات والمؤسسات البحثية في الغرب أن مقولة بيتر دراكر ليست صالحة للتطبيق في عالم السياسة، ليس لضعفها في صناعة الأحداث؛ ولكن لعجزها عن قراءة الحاضر والاستفادة من دروس الماضي.

 وهنا تبرز القيمة الفكرية للعلامة ابن خلدون عندما يحلل فن التأريخ فيقول: "هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال واتسع للدول فيها النطاق والمجال وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال وحان منهم الزوال. وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق".

جاءت الموجة الأحدث من الربيع العربي لتطيح بالأنظمة التي لم تع الدرس (السودان، الجزائر وربما لبنان). كرر الرئيس السابق عمر البشير نفس الأخطاء التي وقع فيها القذافي، فيما حاول رئيس جهاز أمنه الفريق صلاح قوش إعادة إنتاج النموذج المصري من خلال التضحية بالبشير.

لكنه أيضاً (وبقية قادة الجيش) لم يحسنوا قراءة الواقع ولم يستفيدوا من تجارب الماضي. فنفس الخطوة كان قد اتبعها وزير الدفاع السوفييتي بالتعاون مع مدير KGB عندما قررا الانقلاب على الرئيس غورباتشوف (بداية التسعينيات من القرن الماضي) في محاولة منهم للحفاظ على وحدة الاتحاد السوفييتي، وذلك في أعقاب سماح غورباتشوف باستقلال الجمهوريات السوفييتية.

لكن خطوة الجنرالات جاءت متأخرة؛ فقد سبقتهم الشعوب السوفييتية بالانحياز إلى خيار الاستقلال، محررة بذلك شهادة الوفاة لما كان يعرف سابقاً بـ"الاتحاد السوفييتي".

لكن القصور في قراءة الأحداث وفقاً لمعطيات الماضي ليس متلازمة تصيب الحكام؛ بل إنها تشمل الثوار أيضاً. ففي السودان، أظهرت قوى الحرية والتغيير (قحت، وهي إحدى الفصائل التي تبنت الثورة على نظام الرئيس البشير) ميلاً نحو الانفراد بالسلطة، وذلك من خلال عمليات الإقصاء الممنهج لبقية القوى التي شاركت في الثورة.

 لم تكتف "قحت" بذلك، بل شرعت في استفزاز الوجدان المحافظ للشعب السوداني من خلال تصريحات خرقاء. فتصريح وزير العدل بأن (الخمر جزء من الثقافة السودانية) ثم تصريح وكيل وزارة الثقافة (بأن العنصرية بدأت بسيدنا بلال) ثم تصريح وكيل المناهج (إن النظام السابق كان يظلم الأطفال بمقررات القرآن الكريم).

من المؤسف أن العناصر السودانية التي تم استدعاؤها من الخارج لتفكيك نظام البشير لا تعي جيداً ثقافة المجتمع السوداني، وهذا ما سيعجل بالثورة المضادة على "قحت".

إن الافتراض بأن "الشارع السوداني الذي ثار على البشير لابد وأنه قد سئم أمر الدين" هو افتراض خاطئ. لقد ظن بعض قيادات "الاتحاد والترقّي" أن بوسعهم تغيير هوية المجتمع التركي، وراهن شاه إيران على أن التوجه الحداثوي الذي صبغ به المجتمع الإيراني طوال عقود من الزمان سيحول دون تقبل الأفكار الرجعية التي يبعث بها الخميني من منفاه في باريس. 

لكن التجارب أثبتت أن جذوة الدين المتأصلة في المجتمعات المسلمة تخبو، لكنها لا تموت.

تابعت باهتمام مجريات الأحداث في إنجلترا منذ تصويت الخروج من الاتحاد الأوروبي حتى نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة. لقد أثبت الشارع الإنجليزي أن التغطية الإعلامية للأحداث، والنبرة العالية في وسائل التواصل الاجتماعي والحشود الضخمة التي تجوب الشارع، كل ذلك لا يعبر بالضرورة عن رأي الجمهور.

فهنالك أغلبية صامتة؛ لا تتحدث كثيراً في المنابر ولا تجيد التظاهرات وتزهد في استخدام التكنولوجيا. هذه الأغلبية تعبر عن نفسها فقط عبر "الصندوق". فهل تجرؤ قوى الحرية والتغيير على المنازلة الشريفة، أم أنها ستراوغ لتأخير الاستحقاق الانتخابي في السودان؟

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالرحمن أحمد
باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا الطاقة
سوداني أمريكي مقيم في ولاية تكساس الأمريكية، محلل اقتصادي في قطاع النفط والغاز، وباحث في الاقتصاد السياسي وقضايا الطاقة، حاصل على درجة البكالوريوس من جامعة الخرطوم، وحاصل على الماجستير من جامعة كليرمونت بكاليفورنيا، وكاتب رأي في عدد من الصحف والمواقع الإخبارية
تحميل المزيد