يستخدم عادةً مصطلح "غسيل المخ" لوصف عملية إخضاع الأفراد لسطوة أفكار ورؤى الجماعات الإرهابية، أو الأنظمة الشمولية والشعبوية، كحال الشعب الصيني إبان الثورة الثقافية في خمسينيات القرن الماضي، ومن قبلهم ألمانيا النازية تحت وطأة دعاية غوبلز.
الخاضعون لتلك العملية لا يشعرون بالكدر، ولا يتساءلون عن جدوى خضوعهم؛ حيث الظاهر على السطح أنهم يتحركون بملء إرادتهم، كأنهم يعيشون وفق اختياراتهم، وكل ما ينبع منهم مصدره قناعاتهم الشخصية.
هناك أمثلة لا تحصى لانقياد ملايين الأفراد خلف فرد يدَّعي امتلاك الحقيقة وفي قبضته مفاتيح النعيم. يستقطب شباباً عديمي الخبرة، ومعدومي الهوية بإثارة عواطفهم وتفتيت قناعاتهم القديمة ثم إعادة تشكيل أفكارهم من جديد فيما يتناسب مع رغبته وأهدافه.
غسيل المخ
غسيل المخ كممارسة ليس حكراً على من يمتلك السلطة بمفهومها التقليدي، بل يتسع المصطلح ليشمل علاقات الأفراد بعضهم ببعض. يوضح ذلك عالم النفس البريطاني جون بولبي، في نظريته عن الارتباط؛ إذ عادة ما يسعى الأطفال والبالغون للتقرب من أشخاص يرونهم آمنين، إذا ما تعرضوا للضغط، حيث ينشدون الحماية من التهديد. والضغوط الاجتماعية التي يتعرض لها الأفراد في مجتمعاتنا كثيرة، النساء يمتلكن استقلالية وقوة أقل بمراحل من الممنوحة للرجال، مما يجعلهن عرضة أكبر للسقوط في حفرة الاستغلال.
كنت أتحدث مع صديقة بعد ظهور شهادة جديدة لإحدى ضحايا الاعتداء الجنسي من قِبل أحد المدافعين عن الحقوق والحريات في مصر. عبَّرت عن استيائي من تشابه رد فعل النساء في معظم تلك الحالات، حين يصرحن بأنهن لم يعرفن كيفية التصرف، وكل ما تمكنَّ منه هو الرضوخ لرغبة المعتدي. كان اندهاشي من انهزامية الضحايا بعيداً عن رأيها، الذي دفعني إلى البحث ومحاولة الفهم، وأثمر في النهاية هذا المقال.
الجهل بالسياق وبطبيعة الضحية والضغوط التي تعرضت لها، يجعل أعيننا تنظر من خلف زجاج ضبابي. والحل، استعارة أعين الضحية، وفهم الأساس الذي يرتكن عليه المفترس الجنسي (Sexual predator) ويصطاد بناءً عليه ضحاياه.
تمتد الهيمنة لأبعد من الدول الشعبوية، والجماعات القائمة على أيديولوجية تهدف إلى السيطرة والتحكم، حيث تظهر في أكثر الحقول البعيدة عن استعباد وتسخير المرء، مستثمرة لأدوات التخفي لتمارس الخداع، بين الأفراد في العالم الاجتماعي، بعيداً عن اختزالها في السلطة السياسية كاختزال سافر لمعاني الهيمنة، على حد تعبير الفيلسوف المعاصر بيير بورديو.
فساد دولة الحرية
هناك شيء فاسد في دولة الحرية، بشكل تأسيسي يرجع لانحراف الإنسان ذاته. فالحرية كمنتج إنساني محمَّل بالنزاعات والأغراض المستترة، التي تخفي خبثاً وحقارة خلف المطلب الأهم للإنسان. لذا حذارِ من الواعظين، حذارِ من العارفين، على حد تعبير الأديب الأمريكي تشارلز بوكوفسكي. يقدم المعتدي نفسه كمَلاك يحمل بين أجنحته النجاة، سيحررها من سطوة المجتمع المغلق، يُخرجها من سجن العادات والتقاليد، يحمل مفاتيح أغلال الأسرة، ويملك لسان العارف الذي سيلقِّنها دروس الحياة.
شرحت المُناظرة السياسية حنة أرندت، بأن العزلة، تجربة عدم الانتماء إلى العالم المحيط، من بين أكثر التجارب تطرفاً ويأساً للإنسان، حيث تدفعه تلك الحالة بسهولة إلى الخضوع تحت هوى القائد الكاريزماتي المستبد. في المجتمعات الشمولية، من الضروري فصل الضحايا عن جميع صِلاتهم السابقة بغرض دمجهم في هوية جديدة تابعة. تلك العملية يوفرها نمط التربية المحافظ في مجتمعنا، حيث نادراً ما تنشأ النساء في بيئة تعاملهن ككيان مستقل، يفصل ثوبهن على مقاس التابع دائماً. في الحالات التي تتمرد على تلك العبودية المقنعة، تنفصل عن ماضيها وجذورها، ومن سوء الحظ، ولانعدام الخبرة، تقع في طريق المفترس الجنسي، يهيمن على أفكارها عبر كلامه المنمق، المحمَّل بأفكار وشعارات رنانة لها واقع السحر على شخص قادم من بيئة توجهه فقط للنظر نحو الأرض.
المثقف المنافق والناشط المتحرش
".. المجتمع مثل كائن للتآمر، يبتلع الأخ الذي يملك الكثير منّا مبررات احترامه في الحياة الخاصة، ويفرض مكانه ذكراً متوحشاً ذا صوت يزمجر وقبضة قاسية (…) يستمر في طقوسه الصوفية، وقد تحلى بالذهب والأرجوان وتزين بالريش المتوحش، متمتعاً بالملذات المشبوهة للسلطة والهيمنة، فيما نحن نساؤه يُغلق علينا في منزل العائلة، من دون أن يُسمح لنا بالمشاركة". الكاتبة الإنجليزية، فرجينيا وولف.
جل ما يحتاجه المرء لحظة مراجعة أفكاره، والخروج من الانغلاق لطور حياة جديدة، هو الدعم النفسي، وتوفير إجابات صادقة إن كان من يلجأ له يدَّعي امتلاك معرفة وثقافة. إن استغلال تلك الحالة من التيه يُظهر أننا أمام كيان بشري عديم المروءة والشرف. على سبيل المثال، معظم ضحايا النشطاء السياسيين في مصر كانوا نساء هربن من العنف والقهر والإهانة، وكان من حظهن التعيس اللجوء إلى من استغلهن جنسياً، حين خُدعن بأنه يحمل راية الحريات ويطالب بالعدالة والمساواة.
الحالات التي نتحدث عنها كثيرة وتحمل النمط ذاته في مجتمع النشطاء والحقوقيين المصريين. ومعظمهم يتشاركون رد الفعل ذاته والمنهج ذاته، فلا داعي للتخصيص. معظمهم يقدمون دفاعاً ساذجاً عن النفس، يجعل الناس تتوهم بصدقٍ الأكاذيب. ولم يكن في حسبان أحدهم، أن ميزان القوى الاجتماعية تساوى، ولم يعد صمت الضحايا أمراً وارداً. حتى مع جهل وإنكار الضحية لفترة أنها تعرضت لتحرش جنسي أو اغتُصبت، كما أشير في عديد من الشهادات. حالة الصراع النفسي تلك لن تستمر للأبد؛ لأن الذات لن تمحى للأبد، بل تتراجع وتتلاشى لفترة تحت تأثير الخوف أو الشعور بالرجعية وأنها لم تواكب التطور أو أي شيء آخر. في أي وقت، يستعيد المرء شعوره بذاته، كيانه الذي انتُهك. لن تشتبك مع الحقيقة دائماً، عند مرحلة ما، تنتصر الرغبة في رد الاعتبار أو بكلمات أخرى، العدالة.
من المعلوم أن العنف نوعان: عنف مادي مباشر يُلحق ضرراً بالآخرين، وعنف رمزي مهذب يكون بواسطة اللغة، والأفكار المتداولة. الأخير، يعرفه بيير بورديو بقوله: "العنف الرمزي عبارة عن عنف لطيف وعذب، وغير محسوس، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم، وهو عنف يمارَس عبر الطرائق والوسائل الرمزية الخالصة، أي: عبر التواصل، وتلقين المعرفة، وعلى وجه الخصوص عبر عملية التعرف والاعتراف، أو على الحدود القصوى للمشاعر والحميميات".
يمارَس العنف الرمزي على فاعل اجتماعي ما بموافقته وتواطئه. ندرك الفرق بين نوعين من الخداع، يبعدوننا عن التسليم بأن الشخص الذي خضع للسيطرة يرغب في الوضعية المفروضة عليه. الأول، خداع كامل، حيث تُجهل الحقيقة بأكملها. والنوع الثاني، خداع جزئي، حيث يكون جانب معلوم، يبنى عليه لاكتشاف المجهول. قد يخدع الفرد دون مسؤوليته عنه، ويخدع هو نفسه لتبرير ضعفه وقلة حيلته. وفي كل الحالات، ينكشف الخداع حتى لو بلغ ممارسوه الكمال في إتقانه. لذلك، لم ينتج الضحية المفعول الذي مورس في حقه نوع من الإكراه.
أقتبس من إدوارد سعيد "الجميع اليوم يتكلمون اللغة الليبرالية والتناغم بين الجميع، ومشكلة المثقف هي كيف يطبق هذه الأفكار على الحالات الواقعية حيث نجد أن الهوة التي تفصل بين القول بالمساواة والعدل من ناحية، وبين الواقع الأقل جمالاً وتهذيباً، من ناحية أخرى، هوة شاسعة إلى حد بعيد". كبشر نحن أشبه ببناية مليئة بالثغرات، يتسلل منها المستغلون نفسياً ومادياً وجسدياً، بقدر ما يدعو للخوف، يحثنا أيضاً لاحترام عقولنا، ومراجعة أنفسنا لتقوية دفاعتنا أمام أصحاب النزعات الدنيئة.
الواجب الأول للمثقف، كما يرى الفيلسوف الإيطالي المعاصر، أمبرتو إيكو، هو في المقام الأول انتقاد رفاقه. لن يدان المدافعون عن الحرية إن طردوا المتطفلين على أفكارهم، إن نزلوا من البرج العاجي، ورتبوا صفوف البيت من الداخل. إن المحايد لم ينصر الباطل، لكنه خذل الحقيقة، على حد تعبير أنيس منصور.
ومن العبث، مطالبة البعض بالاكتفاء باعتذار المجرم. وأتساءل بلسان أمبرتو إيكو، أيشير ذلك إلى "تيار من التواضع، أو على العكس تيار من الوقاحة: فأن تقوم بفعل لا يليق ثم تطلب المعذرة وتنفض يديك منه". ومن الضروري حذف "فعل لا يليق" واستبدالها بـ"جريمة" حين نوجه السؤال لمتبني هذا الموقف.
إن أسماك القرش تهجم على من تشتمُّ دمه، وبالمثل يتبع كل إنسان رغبته، التي تتفاوت باختلاف البشر، كما تختلف طرق تحقيق الغاية. سمك القرش هو المفترس الجنسي، المصطلح المستخدم في بداية المقال، وليس البشر جميعاً. وهؤلاء، الذين آمنوا بأفكار وشعارت رددوها، تقع عليهم مهمة الانتصار لأفكارهم بالحرب لأجلها، فالصمت، والحياد في تلك المواقف، عار قريب من دناءة الجاني. من ينسى أمثولة التفاحة الفاسدة الموجودة في كل الثقافات؟ لن يتغير شيء بالإشارة فقط للتفاحة الفاسدة في السلة، فحتى لو صلح باقي السلة، فلن يعيدوا إصلاح التفاح الفاسد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.