نعمة من الله وأسمى من باقي البشر.. كيف يبرِّر الطاغية طغيانه على المواطنين؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/12/22 الساعة 13:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/12/22 الساعة 13:55 بتوقيت غرينتش
معمر القذافي/رويترز

جلنا تقريباً شاهد أنمي المحقق كونان، وليس هناك من الذين شاهدوا حلقات هذا الأنمي، لم يُشاهد تلك الحلقات التي تتحدث عن أسطورة أو خرافة معينة يُحاول القاتل استغلالها لجعل الناس يعتقدون أن الجريمة لها علاقة مباشرة بهذه الأسطورة أو الخرافة، ليبتعدوا بانتباههم عن الخيوط التي تقودهم إليه، ولكن المحقق كونان، بحسه النقدي وذكائه المشع لا يدع الأساطير أو الخرافات تتحكم بعقله، بل يطرح الأسئلة، إلى أن يصل بملاحظاته الدقيقة إلى المجرم الحقيقي، ويحل اللغز بتفاصيله المشوقة.

هذا بالضبط ما يستغله الطاغية، ليُبعد انتباه الناس عن طرح الأسئلة التي يمكن أن تقودهم إلى الحقيقة، التي تُخبرهم بأن الطاغية هو شخص قد استحوذ على الحكم لنفسه، دون مشاركة باقي الشعب معه في هذا الحكم. ومن أهم الخرافات التي يستغلها هذا الطاغية خرافة السمو.

كيف تساهم خرافة السمو في استمرار سيطرة الطاغية؟

إن قوة الخرافة تعمل على كبح الروح النقدية في الناس، تجعلهم يُسلمون بالأمر الواقع، لأنه يتجاوز قدراتهم الإنسانية، فلا يرغبون أن يتحدوا شيئاً سامياً تحميه قوى روحية خارجية– حسب اعتقادهم– وهكذا يضعون أمر حكم الطاغية كقدر سامٍ.

إن نشر هذه الخرافة بين الناس وتكرارها بينهم إلى أن يؤمنوا بها، تجعلهم يعتقدون بأن الطاغية ليس مجرد شخص عادي يُشبههم في التكوين الروحي، وإن كان يُشبههم في التكوين الجسدي، وإنما هو شخص يتجاوزه القانون الطبيعي إلى درجة أن البعض لا يستطيعون أن يتصوروا ولو سخرية بأن الطاغية أيضاً يدخل إلى المرحاض، بل هناك من لا يتصور  إمكانية موت الطاغية.

الطاغية أعلى الهرم الروحي

إن خرافة السمو تضع الطاغية في أعلى الهرم، ليس الهرم الاجتماعي والاقتصادي، وإنما الهرم الروحي، فيُصبح كياناً لا يجب انتقاده، وإنما التسليم بأفعاله على أنها ضرورة لابد منها، حتى وإن كانت ظالمة. فهي أفعال ظالمة بالمعيار الإنساني العادي، أما بالمعيار السامي فهي أفعال عادلة. هكذا يُقسّم الفرد الذي يؤمن بخرافة السمو، معايير الحكم، حيث يضع المعيار الإنساني في المقام العادي الذي يتعامل به العامة، وبين المعيار السامي، الذي يتعامل به الطاغية.

إن الهرم الروحي الذي صنعته خرافة السمو في عقول الناس يوجد الله في قمته، والطاغية أسفل الله مباشرة، وبعده خدامه (أي خدام الطاغية)، وأسفله أشياءه، وفي الأخير يأتي المواطنون المطيعون، أما من يخرج عن طاعته فهو في الحقيقة يخرج من الهرم، ويُصبح منبوذاً من العامة، تُلاحقه اللعنات من كل الجهات، وفي كل الأماكن التي تُشرق عليها الشمس.

تبرير تاريخي

إن خرافة السمو هي تبرير ميتا-تاريخي لقداسة الطاغية، تجعل الناس يعتقدون بأنه الشخص الذي أخذ قبساً من الله، ليُنير به مجتمعاً كاملاً، فتصبح كل الخيرات بسبب وجوده، وكل الشرور هي نتيجة لعدم طاعته.

وأكثر من هذا تجعل خرافة السمو والطاغية مركزاً للاهتمام، حيث تُصبح خدمته من الأولوية للحصول على بعض من رضاه، الذي يعني شهادة على العبد الصالح.

هذا بالنسبة للرؤية المتطرفة لبعض معتنقي خرافة السمو، أما المعتدلون منهم فيرون في الطاغية الأب الأعلى (كالأخ الأكبر باللغة الأورويلية)، فتُصبح إطاعة الأب الأعلى أسمى من إطاعة الأب، وإن كان المجتمع يحترم الأب، فإن الأب الأعلى يجب أن يُقدس. لأنه الأولى بالطاعة.

الطاغية نعمة من الله

تذهب خرافة السمو إلى الحد الذي يعتقد بسببها المواطن أن الطاغية هو نعمة من الله يجب شكره عليها، وأي انتقاد لهذا الطاغية يعني انتقاد لقرار الله، الذي بسببه أرسل هذه النعمة للناس. وهكذا يُصبح الخروج عن طاعة الطاغية، هو في الحقيقة انتقاد للنعمة؛ وانتقاد النعمة، يعني طلب للسخط، وهذا ما لا يرغب فيه الناس.

خاتمة

لا تقف خرافة السمو عند هذا الحد، وإنما ترعى في عقول الناس بكل الطرق، وتزرع تصورات قد تتناقض مع معتقدات الشخص الدينية ومصالحه الدنيوية، ومع ذلك تعيش دون أن يلاحظ الفرد هذا التناقض؛ لأنها (أي الخرافة) تفرض نفسها بالقوة، إما بعامل الخوف أو بعامل الوعي المُغيب.

إن خرافة السمو تلعب دوراً معنوياً في نفسية المواطن البسيط إلى درجة أنه يُصبح متحمساً لهذه الخرافة؛ فيدافع عنها بكل ما أوتي من قوة؛ لأنها الأساس المتين لبنيانه النظري الذي يفهم من خلاله الواقع السياسي والاجتماعي. وهكذا تُصبح لهذه الخرافة قوة تبريرية للوضع القائم. لا يمكنك مبدئياً تجاوزه.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد أمزيل
باحث وكاتب مستقل
تحميل المزيد