هل يكفي رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب لتحقيق التحول الديمقراطي؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/12/19 الساعة 09:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/12/19 الساعة 14:46 بتوقيت غرينتش
يعاني السودان من أزمات اقتصادية متعددة نتيجة عقوبات أمريكية ودولية فُرضت عليه من 27 عاماً، رويترز

 خطوة جبارة حققتها الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك بإزالة اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب. وتشكل هذه الخطوة مثالاً ناجعاً على أن تحقيق الإنجازات في القطاع العام لا يتحقق من دون إرادة سياسية صلبة تستند إلى معايير موضوعية، أهمها وضوح الرؤية، وتحديد الأهداف، وحشد الموارد، والتنفيذ، والتقييم المستمر. هذه الخطوط العامة وغيرها أسهمت في الوصول لهذا الإنجاز المستحق، والذي يشكل نقطة فارقة في مشروع الانتقال الديمقراطي. 

على أهمية هذا الإنجاز كونه يُسهم في جدولة ديون السودان لدى المؤسسات المالية العالمية، وبالتالي إمكانية الحصول على قروض تنموية واستثمارات أجنبية، لكن التحول الديمقراطي لن يتحقق بهذا الإنجاز فحسب، بل هناك مطلوبات داخلية لحصد ثمار الانفتاح على العالم الخارجي، أهمها على الإطلاق إصلاح القطاع العام، وهو مصطلح مختصر لعمل عويص وشائك يتضمن تشريح مؤسسات الدولة، بما فيها المؤسسات العسكرية والأمنية، ومراجعة مهامها واتساقها مع المشروع السياسي للانتقال الديمقراطي. أيضاً يشمل إصلاح القطاع العام مساقاً مهماً، وهو التغيير النظمي Organizational Change، الذي يهدف لتغيير سلوك وثقافة العمل عبر مراجعة مهام مؤسسات الدولة وربطها بالأنشطة اليومية. 

للأسف، لم تشمل قوى الحرية والتغيير معيار إدارة التغيير النظمي في ترشيحاتها للمناصب القيادية، بل استندت فقط إلى المحاصصة السياسية.

بالنظر لواقع الإصلاح المؤسسي في السودان يمكن اعتبار "لجنة إزالة تمكين نظام الإنقاذ واسترداد الأموال"، التي أُنشئت بناءً على قانون تفكيك نظام الإنقاذ لسنة 2019، يمكن اعتبارها نموذجاً لاستحداث مؤسسي مواكب لرؤية سياسية تصب في صميم التحول الديمقراطي. فقد نصَّ الاتفاق السياسي على تفكيك أوصال النظام السابق بما يسمح ببناء لبنة الانتقال الديمقراطي، لكن تظل تركيبة هذه اللجنة، وآلية عملها، هي المعضلة وليس المؤسسة ذاتها. 

أيضاً فإن محاولات السلطة التنفيذية لفرض ولايتها على الشركات الاستثمارية التابعة للقطاع الأمني تنضوي تحت طائلة الإصلاح المؤسسي. على الرغم من معاندة القيادة العسكرية في عضوية المجلس السيادي لولاية وزارة المالية على الشركات العسكرية، فإن التشريع الأمريكي المسمى "قانون التحول الديمقراطي والشفافية المالية في السودان لسنة 2020″، الذي يشترط سيطرة المدنيين على أموال وأصول الأجهزة الأمنية والعسكرية وإدخال الإنفاق العسكري ضمن ميزانية عامة، يشكل مساهمة حقيقية نحو إصلاح مؤسسي جذري في السودان، فمازال حجم الإنفاق العسكري من أسرار الدولة التي يجد المواطنون والمراقبون صعوبة كبيرة في معرفتها وتتبع مساراتها.

بالنظر للتحول الرقمي، وهو مساق تنتهجه أغلب الدول التي تسعى لتطوير اقتصاداتها عبر تجويد أداء الإدارة العامة، فقد خصصت السلطة الانتقالية هيئة معنية بهذا الأمر، وهي الهيئة القومية للمعلومات، وذلك لدعم الحكومة الانتقالية تقنياً، خاصة في حوكمة المعلومات وإنشاء قواعد البيانات كخطوة أولية نحو بناء استراتيجي للخدمات الإلكترونية، ولكن تظل فاعلية هذه المؤسسة مثار شكوك نسبة لعدم تخصيص الموارد اللازمة لإحداث نقلة نوعية في مؤسسات القطاع العام. 

خلافاً لما سبق، لا تبدو في الأفق أي مبادرات للإصلاح المؤسسي وإدارة التغيير. فأغلب مؤسسات الدولة تفتقر لمواقع تعكس أنشطتها، ناهيك عن تقديم خدمات إلكترونية. أيضاً مؤسسات مهمة كديوان المراجع العام، وهيئة الحسبة والمظالم، وديوان الضرائب، وغيرها من المؤسسات ما زالت تعمل بنفس النسق القديم. على سبيل المثال التحصيل الضريبي في موازنة العام السابق لم تتعد نسبته 8% من إجمالي الناتج المحلي، وهي أقل بكثير من متوسط مساهمة التحصيل الضريبي للدول المجاورة في المحيط الإفريقي (16.5%). كذلك تفتقر السلطة الانتقالية لمؤسسات مهمة كمفوضية مكافحة الفساد، نظراً لأن السودان يقبع في ذيل قائمة النزاهة العالمية، تحديداً في القطاع العام، فإن قضية مكافحة الفساد لم تجد بعد الاهتمام اللائق من القيادة السياسية. فسياسة التعتيم، وانعدام نظام منضبط للمساءلة، ومحدودية المشاركة في اتخاذ القرارات، وتحديد السياسات العامة، جميعها تؤطر لهيمنة الأقلية ( Oligarchy) ومن ثم الاستبداد.

الإصلاح المؤسسي في القطاع العام تحديداً ليس من نوع الممارسات التي يتم دفعها من الأسفل للأعلى، بل بالعكس، لذلك فهو يعتمد بصورة رئيسية على الإرادة السياسية، والمقدرات القيادية لمن هم على هرم السلطة التنفيذية، فالتغيير يحتاج لموارد بشرية ومالية لن يتم توفيرها ما لم يكن للقيادة السياسية مصلحة فعلية في ذلك. وبالنظر إلى أن مشاركة قيادات الجيش السوداني والقوات غير النظامية كقوات الدعم السريع، في السلطة السياسية، فمن غير المستغرب انتفاء رغبة الحكومة الانتقالية في أخذ خطوات جادة في هذا المسار، لكن لو نظرنا للسلطة التنفيذية في السودان عبر عدسة الإصلاح المؤسسي فمن الممكن أن نستنبط معايير معقولة لقياس أداء السلطة التنفيذية، ابتداءً من رئيس الوزراء وحتى مديري الإدارات في الوحدات الحكومية الأدنى.

عود على بدء، يجب أن يُترجم الاحتفاء بإعادة السودان للمجتمع الدولي بالمزيد من الهمة والجديّة في استكمال مؤسسات الانتقال، وإصلاح المؤسسات العامة، فالقروض والهبات وحدها لن تُخرج السودان من قمقمه، بل المؤسسات القوية القادرة على تحويل الرؤى السياسية لمشروعات تصبُّ في التنمية الاقتصادية والإنسانية المتوازنة. هذه الواجبات لن تتحقق من دون ضبط بوصلة العمل السياسي بالسياسات العامة المحكمة، لبناء مؤسسات قوية تُسهم في تحقيق انتقال ديمقراطي مستقر ومستدام.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

هيثم كرار
باحث سوداني في الحوكمة ومكافحة الفساد
باحث سوداني في الحوكمة ومكافحة الفساد، ويعمل مستشاراً بمنظمة النزاهة العالمية.
تحميل المزيد