اللغة العربية لها مكانة كبيرة لدى البوسنيين، وقد بدأ الاهتمام بتعلم اللغة العربية منذ القرن الخامس عشر تزامناً مع الفتح الإسلامي، والإقبال الكبير من البوسنيين على دخول الإسلام.
ولم يقتصر تأثير اللغة العربية على اللغة البوسنية فقط بل شمل كل لغات منطقة البلقان: الصربية، والكرواتية، والمقدونية.. وغيرها.
وانتقلت كلمات عربية كثيرة لتلك اللغات، عبر الأتراك واللغة التركية، في مجالات عدة مثل التجارة والسياسة والمجال العسكري، حتى في اللغة التي تستخدم في الحياة اليومية.
كما ساهم حب البوسنيين للإسلام في زيادة إقبالهم على تعلم القرآن واللغة العربية، ولهذا أُلفت كتبٌ كثيرة لتعليم البوسنيين الحرف العربي، ومازالت تلك الكتب قائمة وتستخدم حتى الآن وتسمى كتب "سفراء".
ويحرص البوسنيون على تعليم أطفالهم الحرف العربي، مما يمكنهم من قراءة القرآن من خلال نظام الكتاتيب القائم في كل المساجد تقريباً، حيث يذهب الطفل، عندما يبلغ السادسة من عمره، إلى الكُتّاب القريب من بيته دورياً خلال العطلة الأسبوعية (السبت والأحد) ويستمر في التعلم حتى يبلغ الخامسة عشرة.
كما أن عدداً كبيراً من البوسنيين قد أجاد حسن كتابة الخط العربي، واحترف مهنة "الخطّاط"، وتلقى معارض حسن كتابة الخط العربي، التي تقام في مدن البوسنة والهرسك، إقبالاً كبيراً من البوسنيين.
ويبالغ البوسنيون أحياناً في حبهم للغة العربية، بشكل لا يمكن تصوره، فمثلاً: إذا مر أحدُهم ووجد ورقةً من جريدةٍ أو كتابٍ ملقاةً على الأرض، وبها كلماتٌ باللغة العربية، فإنه يتأذى ويرفعها فوراً ليضعها في مكان مرتفع، أو يحتفظ بها في حقيبته أو جيبه، إلى أن يتمكن من حرقها، أو التخلص منها بشكل لائق، حتى لو لم يكن الكلام المكتوب في الورقة يتعلق بالدين، حيث يعتبر البوسني أن لغة القرآن لا يجب أن تُلقى على الأرض.
النظام التعليمي البوسني.. الإمكانات والتحديات
وعلى صعيد النظام التعليمي في البوسنة والهرسك، فإننا نجد أن اللغة العربية حاضرة وبقوة، كما يلي:
1- تم إدخال التعليم الديني في المدارس الابتدائية والثانوية كمادة اختيارية يختارها التلميذ في الصف الأول من المرحلة الدراسية فتبقى معه كمادة إلزامية طوال المرحلة، وتحتوي كتب التربية الدينية الإسلامية على الكثير من الكلمات والمصطلحات العربية.
وجدير بالذكر أن أكثر من 90% من التلاميذ البوشناق يختارون التربية الدينية الإسلامية بشكل منتظم.
2- توجد خمس مدارس ثانوية تُدرّس اللغة العربية كمادة أساسية، بالإضافة لتدريس عددٍ كبيرٍ من المواد الدينية باللغة العربية، جنباً إلى جنب مع اللغة البوسنية (كلها مدارس تحت إشراف المشيخة الإسلامية بالبوسنة والهرسك).
3– توجد مدارس ابتدائية وثانوية (حكومية وخاصة) اعتمدت اللغة العربية كلغة أجنبية ثانية.
4- توجد ثلاث كليات تدرس اللغة العربية كمادة في عدد من سنوات الدراسة حسب القسم والتخصص.
5- في كلية الآداب جامعة سراييفو يوجد قسم لتخريج مدرسي اللغة العربية، حيث تُدرَّس به اللغة العربية والأدب العربي طوال سنوات التعليم الجامعي الخمس.
كل ما ذكر يعكس حب البوسنيين واهتمامهم باللغة العربية، لكنه للأسف لا يعكس تمكنهم من تعلمها، ولا يعكس قدرتهم على استخدام مهارتها الأربع: القراءة والكتابة والفهم والتحدث.
والسبب في ذلك يرجع لعدة أسباب، من أهمها:
1- عدم اهتمام المنهج التعليمي البوسني، في كل المراحل السابقة بتعليم اللغة العربية كلغة حية نشطة، بل يتم التركيز على تعلم القراءة وقواعد النحو والصرف.
2- عدم وجود خطة ومنهج تعليمي يبدأ من مستوى المبتدئين وحتى إتقان اللغة واستخدامها بطلاقة. والحقيقة أن هذه المشكلة لا تتعلق بالبوسنة وحسب، بل هي مشكلة عامة، تواجه كل من يرغب في تعلم اللغة العربية من غير العرب. وقد لاحظت أنه يوجد اهتمام كبير من المؤسسات المعنية بإصدار كتب تخاطب المبتدئين، وتهتم بالمرحلة الأولى في تعلم اللغة العربية، ولكن لا يوجد نفس الاهتمام بالمراحل التالية.
3- غياب البيئة التعليمية المحفزة لتعلم اللغة العربية والتدريب على استخدام مهاراتها الأربع، ومنها أن عدد كبير من مدرسي اللغة العربية لا يجيد التواصل بها.
4- غياب الدعم (بكافة أنواعه) من العالم العربي، إلا القليل، وكلها مبادرات فردية لا تفي بالاحتياجات، وتوجد أمثلة كثيرة على ذلك، مثلاً:
- لا يمكن لكلية الفلسفة في سراييفو، الحصول على محاضر عربي في قسم اللغة العربية وآدابها، على الرغم من أنهم طلبوا ذلك عدة مرات، ومن جهات عدة.
- توجد حاجة مُلحة أن يحضر طلاب اللغة العربية (في المدارس والجامعات) دورات قصيرة (عدة أشهر) باللغة العربية في أي دولة عربية من أجل إجادة التحدث بالعربية، لكن ذلك من الصعب تنظيمه.
كان يوجد، في السابق، تعاون جيد مع جمهورية مصر العربية، لكنه تقريباً توقف في السنوات الأخيرة!
5- الضعف الشديد لحركة الترجمة من اللغة العربية للبوسنية والعكس نظراً لغياب التمويل اللازم لذلك، بالرغم من وجود أدباء وكتّاب بوسنيين وعرب على درجة عالية من المهنية والتخصص، ولديهم الخبرة، من أمثال: أسعد دوراكوفيتش، ومحمد أرناؤوط، وإسماعيل أبوالبندورة، وغيرهم.
تأثير اللغة العربية على اللغة البوسنية ولغات البلقان
كما ذكرنا آنفًا، فقد تقبل البوسنيون وغيرهم من شعوب البلقان، الإسلام كدين ومنهج حياة، ومع انتشار الإسلام انتشرت المبادئ والمفاهيم الإسلامية وانتشرت الكلمات العربية. فقد رافق التحول في الحياة الدينية تحولات في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وبالإضافة إلى الكتب والمطبوعات، وصلت إلى منطقة البلقان، السلع التجارية كالأثاث والأدوات المنزلية والملابس والمأكولات، وغيرها، وصلت كلها من الشرق الإسلامي (العربي والتركي)، وكلها تحمل أسماء عربية.
وقد تلقت شعوب المنطقة تلك الأشياء، وعرفتها بأسمائها العربية، مما أدى إلى إثراء اللغات المحلية بمئات من المصطلحات الجديدة. ولهذا نجد في اللغات البوسنية والصربية والكرواتية، وغيرها من لغات البلقان، آلاف الكلمات والمصطلحات العربية في مجالات العلوم والدين والأدب والسكن والملبس والتجارة والطب والطهي وغيرها من جوانب الحياة.
ويوجد العديد من القواميس التي تتحدث عن الكلمات العربية في اللغة البوسنية ومن أشهرها قاموس "البروفيسور عبد الله شكايليتش"، الذي بحث في استخدام الكلمات العربية والتركية والفارسية في اللغة البوسنية والصربية والكرواتية، وتوصل إلى نتائج مذهلة، وعلق على ذلك، بقوله: "يمكننا أن نجد الكلمات والمصطلحات العربية في اللغة البوسنية في جميع الميادين وجميع المجالات، لا سيما تلك التي لها علاقة بالحياة الإسلامية التعبدية".
ونسوق هنا بعض الكلمات البوسنية التي جاءت من اللغة العربية:
(مع ملاحظة أن حرف j في اللغة البوسنية يقرأ ي، وحرف č يقرأ ش، وحرف ž يقرأ مثل جيم).
بالإضافة إلى ذلك فإن كل الكلمات المتعلقة بالدين يستخدمها البوسنيون كما هي:
مصحف، سجادة، قبلة، محراب، منبر، سجدة، ركعة، التشهد، مسجد، أذان، فهي تستخدم لدى البوسنيين تقريباً كما هي في اللغة العربية.
وهناك كلمات عربية يستخدمها البوسنيون للدلالة على ارتباط المعنى بالدين، فمثلاً:
- كلمة "حرف" بالبوسنية هي Slovo، أما إذا قال البوسني: "Harf" فهو يعني الحرف العربي كناية عن اللغة العربية.
- وكلمة "مَدرسة" في اللغة البوسنية هي Škola، أما إذا قال البوسني: "Medresa" فهو يعني مدرسة دينية.
- كذلك كلمة "مُعلم" باللغة البوسنية هي Nastavnik، أما "Mualim" فتعني مدرس التربية الإسلامية، كما تطلق على معلم الدين في الكتّاب.
عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة:
الآن وبعد أن استعرضنا تلك الأمثلة للكلمات العربية المستخدمة في اللغة البوسنية، يتضح لكم، أنكم جميعاً تتكلمون اللغة البوسنية وأنتم لا تدرون، وستجدون أن البوسنيين يتكلمون اللغة العربية؛ "لكنهم يدرون"، بل ويفخرون بذلك.
فأهل البوسنة يفتخرون بمعرفة كلمات من أصل عربي أو تركي أو فارسي، ويحرصون على ترديدها في الجلسات العائلية وأمام الأصدقاء كدليل على حب الدين، والارتباط بالثقافة العربية والإسلامية.
كل عام واللغة العربية بخير، وكل عام، ومحبو اللغة العربية من عرب وعجم، يزداد حبهم لها وتمسكهم بها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.