مبكراً جداً سعت بعض الأنظمة العربية للبحث عن مخرج من المواجهة المباشرة مع الكيان الدخيل على المنطقة، فلم تمضِ بضع سنوات على الإعلان عن قيام "دولة إسرائيل" حتى بدأ هذا الاتجاه في الإفصاح عن نفسه.
ولئن كان صوته محتشماً في البداية، الشيء الذي عرّضه للرفض والتخوين إلا أنه سرعان ما استطاع أن ينشئ له محوراً استقطب جلّ الأنظمة في المنطقة، والذي انتقل بعد ذلك من التنظير لخيار الاعتراف بالأمر الواقع إلى عقد اللقاءات العابرة خلسة مع الجانب الإسرائيلي ثم البحث بعد ذلك عن تسوية دائمة معه وصولاً إلى صفقة شاملة تأتي على الحق الفلسطيني جملة واحدة.
كل هذا المسار المتسارع بقدر ما كشف طبيعة الأنظمة الحاكمة في المنطقة بقدر ما طرح موقف الشعوب مما يجري ومدى نجاعة أساليبها في التصدي لهذه الرياح التطبيعية العاتية التي يبدو ألا شيء يتمكن من إيقافها على المحك.
الحقيقة أن الجماهير العربية والإسلامية لم تقف مكتوفة الأيادي، فلم يكن يمر أي تصريح فيه شبهة تنازل دون ضجة تثار حوله، وهو ما اضطر الأنظمة إلى مجاملة هذا المزاج ومحاولة مجاراته، فاستغلت شعاراتها للاستهلاك المحلي وتثبيت شرعيتها، كما عمدت النخب والتيارات على تكييف مواقفها بناءً على القضية الفلسطينية عبر دغدغة مشاعر الجماهير وإن كان بعضها فعلاً جاداً في حمل الهمّ الفلسطيني، ومع ذلك فهي لم تغتنم ذلك الزخم في تحصين المواقف العربية والإسلامية من المتربصين بفلسطين والفلسطينيين.
غلبة الانفعال غير المنظم هو السمة البارزة في التعاطي مع الخطوات التطبيعية المتصاعدة، حيث اتخذ عند البعض طابعاً فردياً اندفاعياً مثلما صنع خالد الإسلامبولي وأحمد الدقامسة والذي لم يقطع مع ظاهرة التطبيع ولم يكن سوى تعبير غضبي سرعان ما طواه النسيان أو عبر احتجاجات شعبية من خلال مسيرات وفعاليات نضالية ذات طابع موسمي والتي كان تأثيرها ظرفياً، فهي وإن حققت نجاحات مثل إجبار عدد من الدول المطبعة في التسعينات على إغلاق مكاتب اتصالها بالدولة العبرية وساهمت في تحصين المجتمع من الوباء التطبيعي والارتماء في أحضان الكيان الإسرائيلي، إلا أن دورها كان دفاعياً فقط ولم ينتقل إلى اجتثاث الظاهرة من الأصل، وهو ما أعطى فرصة للأنظمة المطبعة إلى تمرير ما عجزت عن تمريره زمن الغليان الشعبي في فترات الجزر الجماهيري، فتستعيد ما اضطرت للتراجع عنه بل وتزيد في اتساع مساحة الاختراق الإسرائيلي لمجتمعاتنا.
الاحتجاج على الفعل دون الفاعل ونسبته إلى المجهول أضعف الاحتجاجات المناهضة لسلوك الأنظمة العربية تجاه القضية الفلسطينية، فمن غريب خطاب النخب والجماهير من خلفها هو أن التطبيع خيانة لكن المطبع ليس خائناً وحكام العرب أنذال لكن حاكم البلاد "المفدى" لا يدخل في هذه الخانة، رغم أنه في طليعة المتآمرين على القضية، حيث يمكن التعامل معه في مجالات أخرى بل وتأييده وتقديم فروض الطاعة له، فيتحول أي توتر في الشارع إلى مجرد سحابة صيف عابرة لتعود المياه إلى مجاريها بعد ذلك.
وإن لزم تخصيص شخص بالنقد فهم يبحثون عن كبش فداء ممن لا ظهر يستند إليه ويظهرون عنترياتهم عليه. النتيجة أن المطبع لا يشعر بالتهديد من الفعاليات التضامنية مع فلسطين التي تخدمه على المدى البعيد لأنها تفرغ غضب الجماهير التي تنصرف بعد كل محطة تضامنية منتشية ومرتاحة الضمير ظناً منها أنها أدت ما عليها بتضامنها الجزئي الذي لا يثمر حركية جادة في سبيل تغيير الواقع.
حركة مناهضة التطبيع عانت كثيراً من ازدواجية النخب وانتقائيتهم الفجة في معالجة هذا الملف، والتي زادت حدتها مع تصاعد الاحتراب بين المحاور الإقليمية المتصارعة، فلم تعد القضية الفلسطينية المحدد الذي يضبط خريطة الحلفاء والأعداء، فعلى العكس من ذلك فإن الموقف الحالي من الطرف المطبع ليس مرتبطاً باقترافه جرم التعامل مع الإسرائيليين الذي تحول إلى مطية تستغل للتشهير بالمخالف، أما المتحالف فيتم غض الطرف عنه أو التماس الأعذار له ما أسقط تلك النخب في تناقضات أساءت للقضية الفلسطينية وأضعفت حجة المناهضين الحقيقيين للعدو الإسرائيلي.
لم تنتعش ظاهرة التطبيع بفعل شراسة القوى الاستكبارية المروجة له فحسب، ذلك أن الكوابح الذاتية التي وضعتها النخب العربية والإسلامية لحركتها أعاقت وشلت مقاومة الجماهير لهذا المد التراجعي الخطير، والفرز اليوم رغم قساوته ورغم أنه يخصم من حجم التضامن مع القضية الفلسطينية ويؤثر سلباً عليها في الوضع الراهن إلا أنه في المقابل قد يصحح البوصلة لدى مناصريها وينهي حالة الالتباس التي استفاد منها أصحاب الأوجه المزدوجة الذين انفضحت ولاءاتهم، وهو ما يشكل فرصة لإعادة بناء فعلها التضامني السلمي على أسس متينة تبتعد عن مهادنة الأنظمة المطبعة وتنزع الشرعية عنها، فتتحول كل الأشكال التضامنية مع فلسطين إلى محاكمة للنظام الرسمي، الشيء الذي يشكل مقدمة لازمة لخلق تهديد وجودي له، بهذا فقط سيرتدع بعد أن يشعر أن بقاءه أصبح محرجاً ما دام يعادي قضية الأمة المركزية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.