"على الرغم من تخلّي حركة النهضة الإسلامية عن مرجعيتها المتشدّدة منذ سنوات، فإنّ الخطر الإسلاموي مازال يهدّد تونس، بماذا تفسر ذلك، هل يمكن أن تكون مراجعات الحركة الإسلامية مجرّد شعارات فقط؟".
كان هذا السؤال موجّهاً لرئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي على هامش زيارته لباريس، بداية الأسبوع، في إطار حوار صحفي مع صحيفة لوفيغارو ذات التوجّهات اليمينية.
سؤال يمكن أن يفسّر المزاج الفرنسي في تعامله مع الحركات ذات المرجعيات الإسلامية في العالم وحساسيتها المفرطة منها، خاصة بعد حملة المقاطعة للبضائع الفرنسية والمنتجات في الدول الإسلامية منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني، على خلفية مساندة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وتبنّيه للرسوم المسيئة للرسول محمّد (صلى الله عليه وسلم)، والتي عُرضت على واجهات مبانٍ حكومية وساحات عامة في مدن فرنسية، تنديداً بمقتل أستاذ التاريخ الفرنسي صامويل باتي في شهر أكتوبر/تشرين الأول، حيث اتّهمت الخارجية الفرنسية تركيا بالوقوف وراء حملات المقاطعة وطبعاً من ورائها الحركات الإسلامية من إسلام أباد إلى نواكشوط.
إجابة المشّيشي على سؤال الصحيفة الفرنسية كان واضحاً بالتأكيد على التزام حركة النهضة بقيم الجمهورية ودولة القانون، مع الإشادة بدور الإسلاميين في إنجاح المسار الديمقراطي بتقديمهم تنازلات مؤلمة صيف 2013 وانسحابهم من الحكم طواعية للخروج من أزمة سياسية كادت تعصف بالمسار الديمقراطي برمّته.
زيارة فاشلة!
زيارة المشيشي لباريس (أوّل زيارة رسمية له خارج تونس منذ تولّيه المنصب)، والتي دامت 72 ساعة لم تكن ناجحة بكل المقاييس، حيث تحدّثت الصحافة الفرنسية عن "إهانة " الإدارة الفرنسية للتجربة الديمقراطية التونسية، ممثّلة في رئيس الحكومة، الذي وقع استقباله في المطار دون حضور أي شخصية فرنسية رسمية، كما أن إقامته طيلة أيّام الزيارة كانت في السفارة التونسية بباريس، عكس المعمول به في الزيارات الرسمية حيث تتكفل الخارجية الفرنسية بإقامة الضيوف في فنادق فخمة.
الصحافة الفرنسية قارنت بين احتفاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالرئيس المصري عبدالفتّاح السيسي قبل أكثر من أسبوع، وتوسيمه بأعلى أوسمة الشرف الفرنسية، وبين الاستقبال الباهت لرئيس الحكومة التونسي من قِبَل نظيره الفرنسي جان كاستكس، والتي كانت مقابلة بروتوكولية لالتقاط الصور دون أيّ وعود استثمارية أو مساعدات تحتاجها تونس في أزمتها الخانقة، واعتبر موقع موند أفريك الفرنسي أنّ السياسة الواقعية real politik للرئيس الفرنسي بهندسة جون إيف لودريان وزير الخارجية، تؤكّد دعم الإليزيه للأنظمة الديكتاتورية (في إشارة لنظام عبدالفتاح السيسي) وتجاهل الديمقراطية التونسية الفتيّة التي تتربص بها المخاطر داخلياً وخارجياً، بالتزامن مع أزمة اجتماعية واقتصادية غير مسبوقة وحراك شعبي يزداداً زخماً من يوم لآخر.
علاقة فرنسا بالثورة التونسية
شتاء 2010، كانت وزيرة الخارجية الفرنسية إليو ماري تقضي عطلة نهاية السنة في تونس، وتزامن ذلك مع اندلاع الشرارة الأولى لثورات الربيع العربي، من محافظة سيدي بوزيد التونسية يوم 17 ديسمبر/كانون الأول، بعد أن أضرم البائع المتجوّل محمد البوعزيزي النار في جسده، احتجاجاً على مصادرة عربته من قِبَل دورية للحرس البلدي، وأفادت أسبوعية "لوكانار أونشينيه" الفرنسية بأن ماري قد هاتفت بن علي من النزل التي كانت تقيم فيه في مدينة طبرقة (شمال غرب)، وعرضت عليه التعاون الأمني لوأد الاحتجاجات، التي كانت تزداد حدّة من يوم لآخر، فهذه الصورة يمكن أن تعكس فلسفة الإدارة الفرنسية بقيادة نيكولا ساركوزي حينها، في التعامل مع نظام بن علي والذي يعتبر من أقوى حلفاء باريس في شمال إفريقيا، كما أكّد ذلك ساركوزي في كتابه "زمن العواصف"، وبسقوطه حاول الإليزيه مسايرة الموجة الثورية لاحتوائها للمحافظة على المصالح الفرنسية، وهو ما يفسّر تكثيف التواجد الدبلوماسي الفرنسي في تونس، وتشغيل كل المحرّكات المالية والإعلامية، خاصة بعد فوز حركة النهضة بانتخابات المجلس التأسيسي، فخلال زيارته لتونس تظاهر وزير الخارجية الفرنسي ألان جوبيه (شغل المنصب بعد استقالة إليو ماري على خلفية تواصلها مع رجال أعمال تونسيين وتضارب مصالح)، بدعمه للثورة التونسية حين قال:
"كنّا نعتقد أنّنا نعرف كل شيء، عن الدول العربية لكن على ما يبدو كنّا مخطئين فلا طالما جعلنا من التهديد الإسلاموي مطيّة لدعم الأنظمة السلطوية… نعترف بذلك"، غير أنّ سلوك فرنسا على أرض الواقع في تونس كان مغايراً، خاصة بعد الانقلاب في مصر لتشهد العلاقات التونسية الفرنسية نوعاً من الهدوء مع تولّي الباجي قايد السبسي رئاسة الجمهورية، إذ اعتبره إيمانويل ماكرون في قمة الفرنكفونية سنة 2018 في أرمينيا، سدّاً منيعاً أمام المدّ الظلامي في تونس.
باريس وشعار "من ليس معنا فهو ضدّنا"
في تقرير لها نشرته في شهر مايو/أيار الماضي، وقبل أيّام من الزيارة الرسمية التي أدّاها رئيس الجمهورية قيس سعيد لباريس، اعتبرت يومية لوبوان الفرنسية أنّ الزيارة المذكورة مهمّة جداً لإزالة الغموض الذي يكتنف شخصية الرئيس التونسي، وتوجّهاته الدبلوماسية وموقفه من باريس، حيث سعت الإدارة الفرنسية إلى احتوائه، باعتبار أنّ تونس تبقى الورقة الوحيدة المتبقّية لفرنسا في المغرب العربي، مع انحسار دورها في ليبيا بخسارة قاعدة الوطية وفشل خليفة حفتر في محاولاته السيزيفية اجتياح العاصمة طرابلس، علاوة على الموقف الجزائري المتصلّب، خاصة بعد انتخاب عبدالمجيد تبون بنزعته السيادوية المعادية لفرنسا.
وفي الندوة الصحفية التي جمعت في حديقة الإليزيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بنظيره التونسي قيس سعيد بمناسبة زيارة العمل والصداقة التي قام بها الأخير إلى باريس في شهر يونيو/حزيران، حاول الرئيس الفرنسي استدراج قيس سعيّد وإحراجه بالإطناب في الحديث عن "لعبة تركية خطيرة في ليبيا" تهدّد استقرار كامل المنطقة، وذلك بغاية انتزاع موقف رسمي تونسي، يدين التدخّل التركي في ليبيا، وهو ما من شأنه دعم الموقف الفرنسي بعد أيّام من الإهانة التي تعرضت لها باريس، بالقرب من السواحل الليبية وتراجع فرقاطة فرنسية تحت تهديد أخرى تركية .
ففرنسا تتعامل مع خارطة علاقاتها في جنوب المتوسط وشرقه وشمال إفريقيا وفق معيار "العلاقات مع تركيا"، فكلّ حليف لتركيا أو مهادن لها هو بالضرورة خصم لفرنسا، والعكس صحيح، فالحياد التونسي ووقوف دبلوماسيتها على مسافة من كل القوى الإقليمية بسياسة "الصفر عدوّ"، عوامل أثارت احتراز باريس، وهو ما يفسر "البرود" الدبلوماسي حتّى إن زيارة وزير الداخلية جيرالد دارمانان لتونس منذ شهر كانت زيارة أمنية بالأساس للضغط على السلطات التونسية لقبول عناصر متشدّدة قرّرت فرنسا ترحيلهم بعد حادثة نيس الإرهابية والضغط على تونس للتصدّي للهجرة غير النظامية.
"التحرش" الفرنسي بلغ ذروته خلال كلمة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن "الانعزالية الإسلامية" في شهر أكتوبر/تشرين الأول، والذي تحدث فيه عن أزمة الإسلام "العميقة"، في كلّ العالم ضارباً في ذلك مثل "صديقته" تونس التي كانت نموذجاً مجتمعياً يحتذى به؛ وأن نظرة التونسيين للإسلام كانت أفضل قبل 30 سنة، حسب تعبيره، وذلك في إشارة صريحة إلى التحوّلات التي عرفها المجتمع التونسي بعد الثورة بوصول الإسلاميين للسلطة.
فالصراع الفرنسي التركي في المنطقة جعل تونس تفصيلاً مهمّاً في الخارطة الجيوسياسية، ففرنسا التي تعتبر مستعمرتها السابقة سوقاً يعتمد بالأساس على الواردات الفرنسية، لم تنظر بعين الرضا للصفقة التي عقدتها وزارة الدفاع التونسية مع الشركة التركية المصنّعة للطائرات المسيرة بقيمة 80 مليون دولار لشراء 3 طائرات مسيّرة من نوع ANKA-S، و3 محطّات تحكّم أرضية بحسب ما أفاد به موقع "خبر ترك" يوم الأحد 13 ديسمبر/كانون الأول 2020 (تزامن مع اليوم الأول لزيارة رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي لفرنسا) وهو ما يمكن أن يكون سبباً من أسباب التعاطي الرسمي السلبي الفرنسي مع زيارة هشام المشيشي.
زيارة رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي لباريس، التي تعمدت خلالها فرنسا إهانة تونس كشفت بما لا يدع مجالاً للشكّ التوجّهات "الماكرونية" المعادية لتونس وتجربتها الديمقراطية الناشئة، والتعامل بمنطق الوصاية مع حكّامها، وهي عقيدة تطبع السياسة الخارجية الفرنسية، عقيدة ميّالة للأنظمة الاستبدادية ولكل من يحفظ لها مصالحها ووجودها، سواء في إفريقيا أو في شرق المتوسط، والاصطفاف وراءها بشكل غير مشروط.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.