يضعون الحاكم فوق القانون ويحوِّلون السياسي إلى متهم جنائي.. كيف يساهم القضاء الضعيف في هيمنة الطاغية؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/12/16 الساعة 10:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/12/16 الساعة 11:46 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية لقضاة كنديين/ رويترز

"يعتبر الإنجليزي جون لوك رائداً في هذا الشأن، حيث قسم السلطة في رسالته (الحكومة المدنية) إلى تشريعية
وتنفيذية وفيدرالية. ويقصد بالأخيرة الهيئة التي تتولى الشؤون الخارجية، أما القضائية فاعتبرها تابعةً للسلطة التشريعية، لأن البرلمان الإنجليزي كان يقوم بمهام قضائية مهمة، ثم جاء مونتسكيو واقتبس أفكار جون لوك وأصَّل لنظرية الفصل بين السلطات، حيث دعا صراحةً إلى الفصل التام بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية…" (مقتطف من كتاب "الرقابة على الحكومة" للدكتور نعمان عطا الله الهيتي- ط.1، 2007، ص7-8).

يعتبر القضاء جهازاً مهماً في الدولة، فهو الذي يفصل بين الناس فيما يخص صراعاتهم الاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً هو الذي يعطي لكل ذي حق حقه، وبسبب هذا يقع القضاء بين قوتين متصارعتين، وهما قوة الظلم وقوة العدالة، فإما أن يميل إلى هذه وإما إلى تلك، ومحاولة القضاء لأن يبتعد عن الظلم ويقترب من العدل هي المهمة التي خُلق من أجلها، لهذا أعتبر أن السلطة القضائية أهم السلطات، واستقلالها يضع الدولة في مصافّ الدول الديمقراطية، لكن ماذا لو كان هذا الجهاز بيد الطاغية، أو الدولة المتسلطة؟ ماذا يمكن أن يفعل به؟ بالطبع سيُسهم في استمرار سيطرته وزيادة طغيانه وتسلُّطه على المواطنين.

كيف يُسهم القضاء في استمرار سيطرة الطاغية؟

– إضفاء الشرعية على القمع والاعتقال الذي تمارسه أجهزة الطاغية أو الديكتاتور من أجل استمرار سيطرته، حيث يقوم القضاء بجعل الطاغية بعيداً عن فعل الظلم، حتى وإن مارسه، ليُصبح المظلوم هو المتهم، والظالم محايداً، وبهذا يكون شرعياً أن يبقى الناس بعيداً عن ظلم الطاغية، لأنه ظلم مقدس، إن وقع على أحد فإنه لم يقع اعتباطاً وإنما وقع لضرورة أو لحكمة.

إن القضاء في هذا الإجراء يجعل من القمع والاعتقال شيئاً قانونياً ومشروعاً، فيتحول اسم المعتقل السياسي إلى اسم المتهم الجنائي، لتسقط قيمة ورمزية المعتقل السياسي، ويُمسي كل شخص متخوفاً من مجابهة الطاغية، خوفاً من تحوله إلى متهم جنائي.

التحكم في القانون لمسايرة هوى الحاكم، حيث تُطوَّع البنود التي تُهدد استمراره، والتي بقيت من العهد السابق، وذلك بتحويلها إلى بنود مرنة تتماشى ومطامحه، وتُبرَّر قانونياً حتى تُساير ما يرغب في تحقيقه ولا تبقى عائقاً بينه وبين استمرار سيطرته. (قد تلاحظ أن هذا يخص السلطة التشريعية، ولكن تبقى بداية التطويع والتطبيق من شأن القضاء).

يحاول القضاء من خلال هذا الإجراء أن يقفز على مكتسبات الشعب القانونية، ليُرضي شهوة الطاغية للهيمنة والسيطرة، وبذلك يجعل من بقائه بقاءً ممكناً، بل ضرورياً باسم القانون.

– جعل العدل ثمرة من ثمرات الطاغية، فكل محاكمة تحدث وتكون عادلة في مجملها تُصبح من إنجازات الطاغية، الذي إما أن تُفتح الجلسة باسمه، وإما أن يكون هو القائم الأعلى على القضاء في الوطن المعني، ومن ذلك يربط الأفراد بين العدالة التي يحصلون عليها في المحكمة والطاغية، الذي لولاه -في اعتقادهم- لَمَا حدثت هذه المحاكمة بهذه العدالة.

إنه إجراء يتلاعب بِلَاوعيِ الأفراد، يجعلهم ينظرون بطريقة تفاؤلية للوضع، رغم مرارته، وذلك بعد أن يفكروا في أنه لو لم يكن هذا الطاغية حاضراً لكانت الفوضى سائدة، وَلَضَاعت الحقوق بسبب ذلك، متناسين أن الوضع القائم مزرٍ، وأن الحقوق التي يحصلون عليها فيما بينهم أقل شأناً وكرامة من الحقوق التي يجب أن يحصل عليها من الطاغية.

– جعل الطاغية شخصاً متعالياً عن القانون، حيث لا يطوله الحكم، مهما فعل، فهو خارج السياق القانوني، بل إنه شخص متعالٍ، لا يجب على المواطن حتى أن يتجرأ بذكر اسمه (أي اسم الطاغية) متهماً داخل المحكمة. إنه القانون، والقانون لا يُحاكم نفسه، وكل من يوجد تحت عباءته لا يتعرضون لذلك، فليفعل الطاغية ما يشاء، فهو خارج التقييم الذي يميز بين الأفعال الخيّرة والأفعال الشريرة، لأن كل أفعاله خيرة، ومن يعارض فسيُعاقب لأنه فعل فعلاً شريراً، لما كذب أطروحة أن الطاغية كل أفعاله خيرة بالمطلق.

إنه الفاعل الذي يُرفع دائماً، ولا يجب أن يُجر، فدمه مقدس وأزرق لا يمكن أن تُصدر ضده أية تهمة مهما كانت، فبوجوده تغيرت الجملة المشهورة قانونياً "كل متهم بريء حتى تثبت إدانته"، إلى جملة "كل متهم بريء كلما تقرّب إلى الطاغية".

خاتمة

إذن حامل الميزان ليس أعمى، وإنما هو دمية بيد الطاغية، يُظهر نفسه أنه أعمى حتى يكتسب ثقة الناس، ليرضوا بالوضع كما هو، ويعترفوا بعدالة حامل الميزان، الذي وُجد بفضل الطاغية، الذي توجد بيده كل الوسائل القانونية لعقاب المتمردين، ومكافأة المتملقين.

إن جهاز القضاء لا يزال في طفولته، يعيش على إعالة الطاغية، فهو لم يبلغ بعد سن الرشد، لهذا لن يستقيل بنفسه، حتى إن الطاغية لا يرغب في أن يستقيل هذا الطفل المدلل، لأن ذلك سيُهدد مكانة الطاغية، فإن أصبح القضاء مستقلاً فهذا يعني أن كل الإجراءات التي ذكرناها سابقاً ستسقط، ويُصبح الطاغية جزءاً ممن ينالهم القانون، ما يعني أنه سيسقط عند الوهلة الأولى التي سيستقيل فيها القضاء.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد أمزيل
باحث وكاتب مستقل
تحميل المزيد