سُبات سياسي عميق ألمَّ باللبنانيين السُّنة منذ سنوات، على وقع منوّمات الخيبة السياسية والتنازلات المستمرة التي انتهجها سعد الحريري سياسةً حصريةً. موسم التنويم المغناطيسي هذا كان قد افتُتح، على أقل تقدير، منذ زيارة الحريري المشؤومة إلى بشار الأسد في نهاية 2009، وذلك بعد رضوخه لما كان يُسمّى بسياسة السين- سين، وما رافقها من تفاهمات بين المملكة العربية السعودية بقيادة الملك الراحل عبداللّه بن عبدالعزيز والنظام السوري.
وقد استمر مسلسل التنازلات الحريرية على حلقات، لاسيما لصالح دويلة حزب اللّه وحلفائه، وعلى حساب الدولة اللبنانية وسيادتها وحصرية السلاح بيد قواها الشرعية، وقد تم ذلك بذرائع كثيرة، تارة باسم الاعتدال، وتارة باسم الوسطية، وتارة باسم الخوف من ضياع البلد تحت مقولة "نحن أمّ الصبي"، وقد توّج نهج الخضوع هذا بالصفقة الرئاسية التي أتت بالجنرال ميشال عون -حليف حزب اللّه- رئيساً للجمهورية في خريف 2016، وذلك بعد أن تم تعطيل الانتخابات الرئاسية لأكثر من سنتين.
إلا أنه حتى مع هذا التنازل الحريريّ الرئاسي الكبير لم يكن اللبنانيون السنّة قد بلغوا بعد نهاية نفق الانبطاح، إذ إنّ الحريري أكمل على نهجه هذا في الحكومتين اللتين شكلهما في بداية عهد الرئيس عون، فتنازل الحريري لصهر الرئيس المدلّل جبران باسيل عن كل شيء تقريباً، في السياسة والمال والاقتصاد والصلاحيات، أي تنازل عملياً حتى عن جزء من صلاحيات رئاسة مجلس الوزراء، وهي الموقع الأول للسنّة في الدولة اللبنانية، وقد جاء هذا التنازل لصالح زعيم طائفي كجبران باسيل، لا يكفّ عن التصريح علانية أنه يريد "استرجاع حقوق المسيحيين"، وتعديل دستور الطائف -الذي أرسى المناصفة بين المسلمين والمسيحيين- بالممارسة، أي بكلام آخر، بخرقه العملي وضرب نصوصه بعرض الحائط، بنداً تلو الآخر.
أما التنازل الحريري الأكبر في حكومة العهد الأولى فكان قبوله بقانون الانتخابات النيابية، ذاك القانون المسخ الذي نفخ قوى سياسية أكثر من حجمها الحقيقي، في حين أنه حجّم قوى أخرى وضعضعها عن غير وجه حق، فيما خص صحة التمثيل. وكانت الطائفة السنية، هذه المرة أيضاً، الخاسر الأكبر جرّاء هذا التنازل.
انفجرت انتفاضة الشعب اللبناني، في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، في وجه الطبقة السياسية الحاكمة، تحت شعار "كلن يعني كلن"، وقد انخرط فيها السنّة انخراطاً كبيراً، لاسيما سنّة الأطراف، أي سنّة الشمال وطرابلس، التي لقبت بـ"عروس الثورة"، وسنّة البقاع وصيدا وإقليم الخروب في الشوف، وحتى جزء لا يستهان به من سنّة العاصمة الذين ترددوا بسبب تأرجح قلبهم بين المطالب المحقة للانتفاضة وبين موقع رئاسة مجلس الوزراء، لاسيما أنه في أيام الانتفاضة الأولى انحصرت المظاهرات بدرجة كبيرة أمام السراي الحكومي في بيروت، في حين أنّ الجيش قطع طريق القصر الجمهوري محوّلاً قصر بعبدا إلى مربع أمني كبير لا يدخله حصراً إلا أنصار الرئيس عون الذين حشدهم صهره للرد على المظاهرات، وفي حين أنّ حرس مجلس النواب قد "قام باللازم" لعزل مجلس النواب، وذلك بالتعاون مع أسراب الدراجات النارية التي تنطلق لتنفيذ طلب "تأديب" المتظاهرين، هاتفةً شعارات "شيعة شيعة شيعة!".
في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2019، استقال سعد الحريري بعد 12 يوماً على انطلاق الانتفاضة. أخذ السنّة استقالة الحريري بصدرهم، وحدهم من دفعوا الثمن، سكتوا، حملوا الانتفاضة على أكتافهم ومشوا نحو المستقبل، ترفّعوا عن الصغائر، ولو أنها كبيرة في بلد كلبنان، تركيبته طائفية حتى النخاع. قالوا "معليش"، موقع رئاسة مجلس الوزراء الغالي على قلوب السنّة "يرخص" من أجل لبنان وفداء للبنان، لاسيما إذا كان هذا هو الثمن في سبيل بناء دولة عصرية، لا طائفية، بركائز جديدة، دولة القانون والمواطنة والمحاسبة والشفافية والمؤسسات، دولة تنهي عقلية القبائلية والعصبيات المستفحلة في كل مفاصل الدولة.
ولكن بعد سنة على بدء الانتفاضة، لم يتغير شيء عملياً، اللهم إلا المزيد من التقهقر على جميع المستويات. في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2019، لم يستقل إلا سعد الحريري وحده في كل الطبقة السياسية. وبعد مرور أكثر من عام على بدء الانتفاضة لم يستقل حتى الآن، من كل الذين كانوا في الحكم يوم انطلقت الانتفاضة، في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، إلا سعد الحريري، وهي استقالة من رئاسة مجلس الوزراء، مع ما يمثله هذا الموقع للطائفة السنية في البلد، في ظل التركيبة الدستورية القائمة منذ استقلال لبنان سنة 1943.
اما المنتفضون فاكتفوا باستقالة الحريري، وتناسوا عملياً شعار "كلن يعني كلن"، ولم يكملوا انتفاضتهم بوجه باقي أركان الطبقة السياسية ورموزها، بل عادوا إلى بيوتهم، لاسيما أنّ جائحة كورونا لم تساعد القليلين ممن أرادوا إكمال النضال في مبتغاهم. لا بل أكثر من ذلك، فبعد استقالة الحريري جاء فريق ما كان يُعرف بـ8 آذار الحاكم بحكومة دمى سمّاها حكومة تكنوقراط، برئاسة حسان دياب، وهو شخصية مغمورة دون حيثية تمثيلية ولا شعبية في الطائفة السنية. وقد استقال دياب على إثر كارثة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب الماضي.
في 11 ديسمبر/كانون الأول الجاري، ادّعى قاضي التحقيق العدلي فادي صوان، المكلف بالتحقيق في ملف انفجار مرفأ بيروت، على رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب، وعلى ثلاثة وزراء سابقين، اثنان منهم محسوبان على رئيس مجلس النواب نبيه بري، وذلك بعد أن كان قد وجَّه القاضي صوان رسالة إلى مجلس النواب (عبر مدعي عام التمييز، وليس عبر وزيرة العدل كما تقتضي الأصول القانونية)، في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2020، طالباً من مجلس النواب اتخاذ ما يراه مناسباً بشأن مسؤولية بعض الوزراء عن إهمال وتقصير ساهما في وقوع انفجار المرفأ، مرفقاً برسالته لائحة بأسماء عدة وزراء، لم يختَر منها صوان بعد ذلك إلا 3 فقط في ادعائه، وهم حصراً من ألوان سياسية معينة على تماس مع العهد، مضيفاً إليهم اسم رئيس مجلس الوزراء المستقيل حسان دياب.
طفح الكيل.. حتى سعد الحريري، أبو التنازلات وعرابها، لم يستطِع أن يهضم هذا الادعاء التي تفوح منه روائح السياسة وتصفية الحسابات الطائفية، لا سيما أن هذا الادعاء يطرح علامات استفهام كبيرة جداً حول دستوريته وقانونيته، لا سيما بعد الرسالة الموجهة من القاضي صوان لمجلس النواب، وخصوصاً بالنسبة لجهة عدم ملاءمة هذا الادعاء لأحكام الدستور المتعلقة بالأصول الإجرائية الواجب الالتزام بها لمحاكمة الوزراء ورئيس مجلس الوزراء.
التقط الرئيس المكلّف سعد الحريري شيفرة الرسالة القضائية ـ السياسية "على الطاير"، كما يقول اللبنانيون، استيقظ من سبات عميق وطويل، وأيقظ معه أبناء طائفته. وضعوا خلافاتهم الداخلية جانباً، تعالَوا عن الصغائر، وبموقف فيه الكثير من النضوج السياسي والمسؤولية الوطنية، قام الحريري بزيارة دعم لرئيس الحكومة المستقيل والمدعى عليه حسان دياب، رافضاً بذلك أن يكون رئيس الحكومة، مرة جديدة، كبش فداء لكل الطبقة السياسية، لا سيما أنه في هذه المرة يقدّم قرباناً على مذبح الاتهام الجنائي، وفي حين أنّ رئيس الجمهورية مثلاً اعترف بأنه كان على علم بوجود النترات في مرفأ بيروت منذ 21 يوليو/تموز 2020، ولكنه لم يلاحق من قِبَل القاضي صوان، وفي حين أنّ من قام بجلب النترات إلى لبنان، وتخزينها في مرفأ بيروت، واستعمال جزء منها، قد بقي مجهولاًـ معلوماً.
على ضوء هذه التطورات الأخيرة، من الصعب عدم التفكير بفرضية "ضربة معلّم" قضائيةـ سياسية من قِبَل جبران باسيل، صهر العهد المدلل، ومن فريقه السياسي، يستميلون من خلالها الشارع المسيحي، لا سيما بعد أن نشطت سرديات طائفية حزبية وإعلامية، منذ الرابع من أغسطس/آب الماضي، على تصوير انفجار المرفأ كاعتداء أصاب حصراً الطائفة المسيحية دون سواها، في حين تم التعتيم على المناطق ذات الأغلبية المسلمة المتضررة أيضاً بشكل كبير من جراء الانفجار، كالخندق الغميق وزقاق البلاط والبسطة والباشورة وعين المريسة.. الخ. وقد نجح الباسيليون في مبتغاهم هذا، إذ وقع الشارع المسيحي بأغلبيته، لا سيما بإعلامه المرئي ونشراته الإخبارية وبرامجه السياسية ومحلليه، في الفخ الدعائي الذي نصبوه له.
أما الهدف الآخر لباسيل وفريق العهد، فهو استمالة المجتمع المدني الناشط في الانتفاضة أو "الثورة" كما يسمونها، والذي يعيش الكثير من أفراده في عالم المُثل للأسف، ويغرقون في الديماغوجية وشعبوية العناوين اليوتوبية البراقة التي لا تُسمن ولا تغني من جوع، في حين أنهم يدّعون خوض غمار السياسة، وهي فنّ الواقع.
وتقوم محاولة العهد وأركانه وأبواقه في استمالة المجتمع المدني على سردية لا تخلو من النفاق الطائفي المغلّف بقالب أخلاقي قانوني هزيل، تصوّب على الطائفة السنية وعلى مواقف قياداتها السياسية والدينية، ناعتة إياها بالطائفية، لأنها تدعم موقف الرئيس دياب الرافض للمثول أمام قاضي التحقيق.
فمن لم ينتقد البطريرك الراعي ومجلس المطارنة عندما قالوا إنّ رئاسة الجمهورية خط أحمر، لا يحق له أن ينتقد المفتي دريان وأن يتطاول عليه وعلى المجلس الشرعي عندما يقولون مثل الراعي والمطارنة فيما خص رئاسة مجلس الوزراء. إنّ ازدواجية المعايير السياسية والقضائية، وسياسة "صيف وشتاء تحت سقف واحد" لا تصنعان وطناً، بل هما مجرد نفاق ديماغوجي، ومزايدات شعبوية سخيفة، وطائفية مستترة مقيتة لا تنطلي إلا على ضعاف العقول. كما أنّ التمييز الكيدي في المعاملة القضائية هو أخطر أنواع الطائفية وأبشعها، فالقانون إما أن يطبق على الجميع بالتساوي، وإما أن يصبح التعامل القضائي جُبناً وتعسفاً واعتباطية.
ولكن يبدو أنّه قد فات باسيل وفريقه السياسي ـ القضائي توقّع الأهمّ، وهو أنه قد جاءت ضربتهم السياسية ـ القضائية بنتائج عكسية، ولو جزئياً، إذ تجسّد ذلك باستفاقة السنّة وقياداتهم، والتفافهم على بعضهم، لا بل وتلاقي اللبنانيين المسلمين، بشقيهم (الشيعة والسنّة)، لا سيما أحزابهم، على رفض ادعاء القاضي صوان.
فليعلم القاصي والداني أن الطائفة السنية لن تسكت على الضيم بعد الآن، ولن تستكين أمام محاولات الشيطنة، ولن تتراجع أمام الاتهامات بالطائفية خوفاً من عقدة ذنب يخال البعض أنه يمكنه – بنفاقه الطائفي – أن يفرضها عليها لإغلاق أفواه أبنائها عن قول الحق. فاللبنانيون السنّة لن يرضوا، لا اليوم ولا غداً، أن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية في بلدهم.
فهل هي استفاقة سياسية حقيقية للطائفة السنية في نهاية 2020، أم هي مجرّد أرق عابر في عز الليل البهيم؟ في الحقيقة، إنّ سوابق سعد الحريري لا تشجع كثيراً، ولكنّ الأيام الآتية كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال. الأهم من كل ذلك، أنه قد آن لعهد الفشل والدمار والخراب أن يرحل. آن له أن يزيح عن صدر اللبنانيين بكل أركانه وأبواقه ومستشاريه. شبع اللبنانيون طائفية، وعنصرية، وعزلة عن العالم، وكوارث، وانهياراً شاملاً على جميع الصعد المالية والنقدية والاقتصادية والمؤسساتية، وقد ملّوا من خرق الدستور، ومن الكيدية، ومن الكذب والهذيان، ومن سائر ضروب النفاق.
فلترفع الحمايات الطائفية عن الجميع، هذا هو الأهمّ.
"كلن يعني كلن".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.