لم أقرأ روايات من قبل للكاتبة الفلسطينية ليانة بدر، وربما لأنني لا أجد موقفي سلبياً من أي تنظيم فلسطيني مثلما أجده في موقفي من الحزب السياسي الذي تنتمي إليه هى وزوجها ياسر عبدربه، إلا أنني شعرت خلال قراءتي لروايتها "الخيمة البيضاء" أنها شديدة الإخلاص للواقع الفني الذي تهندسه في أعمالها الروائية، لدرجة أنك لا تجد لفكر حزبها السياسي أثراً كبيرًا، إضافة إلي ذلك فهي تعالج بشكل من الأشكال الواقع الذي لا يرضاه عاقل للكثير من شؤون المرأة، لكنها رغم ذلك لا تجنح إلى الغرائزية أو الابتذال أبداً.
بدأتُ روايتها الخيمة البيضاء وظللت خلال قراءتي أتوجس أنها تقصد انتقاد غطاء الرأس الذي تلبسه المحجبات، وكنت قابلاً للاستفزاز، لكنني لم أقرأ فعلاً ما يستفزني، كانت الكاتبة محايدة في رسم واقع روائي للأحلام الخائبة للمناضلين الذين عادوا إلى رام الله بعد أوسلو ليفاقموا من خيباتهم، ويعيشوا أحلامهم المجهضة، وهكذا يستسلم أكثرهم لهوامش الحياة حيث اللاجدوى.
بينما يجنح البعض نحو استغلال وضع السلطة في الإثراء غير الشريف، وهكذا فكثير من نشاط المجتمع يتجه لمفاقمة العادات التي تقمع المرأة، وذلك لعجزه عن الانصراف للمواجهات الكبرى المحبطة نحو المحتل ونحو السلطة بعللها الكثيرة.
أما نساء الرواية فهن ناشطات في البحث عن حقوق المرأة، والجميع يرى مساحة الأرض تتقلص ومساحة الحرية تتضاءل والمستوطنين يزدادون تغولاً على الأرض والإنسان.
ورام الله المدينة الجميلة تفقد طرازها المعماري الجميل وحدائقها ومساحاتها الخضراء لصالح تجار المساكن الذين حلَّ الطمع المادي في نفوسهم محل تذوق الجمال.
أصبحنا نعيش تشوه المكان وتشوه الإنسان، الجيل الجديد يعيش قطيعة تتزايد مع الجيل القديم، ترى ذلك من استغراقهم في موسيقى الراب التي لا يفهمها غيرهم، وهكذا يعيش المجتمع مخترقاً بحصار العدو وحصار الاستيطان وحصار خيبة الأمل، وإن كانت الكاتبة تَخلق بصيص أمل بمشهد الأم التي تدخل عبر المعاطة (بفتح الميم وتشديد العين وهي جهاز سلخ الدجاج يطلقه الفلسطينيون كاسم على البوابات الأمنية التي يدخلون عبرها إلى القدس) تريد أن تساعد في إنقاذ فتاة يخطط ابن عمها لقتلها لزواجها برجل من خارج العائلة، وبينما يلحقها ابنها ليبلغها برغبة عائلتها في أن تترك هذه المهمة خوفاً عليها، وحين يصل الابن إلى حدود البوابات الإسرائيلية وبينما يجتاز المعاطة تطلق صفارات الإنذارات وترى الأم ابنها في مرمى النيران، كادت ترجع شفقة على ابنها لكنها تتركه ليواجه مصيره فهو في النهاية يعيش مثل غيره فى مرمى الخطر الإسرائيلي الذي لا يميز بين أبناء الوطن، وابنها الحبيب هو في النهاية مواطن كغيره، وهكذا تبتعد البطلة حتى لا تتأخر عن مهمتها، في نكران ذات نادر ونهاية شديدة التأثير كثيفة التعبير، تشهد للعمل الروائي بالجدارة، رغم أنني أخذت عليه شيئاً من البطء من ناحية السرد.
حفزتني الرواية السابقة وخلوها من الدعاية السياسية للعودة إلى رواية أخرى لها صادرة عن دار الهلال في مصر عام ١٩٩٣، وظلت ثماني سنوات تنتظر على مكتبي، وهي رواية نجوم أريحا، حيث قدمت الرواية البديعة لوحات للبشر وللحياة في أريحا، من نباتاتها ومدارسها إلى قصورها الأثرية وكنائسها، والأساطير التاريخية المحيطة بها.
كل ذلك في إطار مُحكم لحياة الراوية وحياة والدها الطبيب الإنسان اليساري حين كان اليسار هو المود الغالب على المثقفين، لم يترك الوالد سجناً إلا دخله، سجون العدو وسجون الأخوة في الجفر (سجن أردني على حدود العراق) حيث يلقى التعذيب على أيدي جندي البادية، الأب الذي يمارس الطب في عيادة بيته وفي مزارع الأغوار، الطبيب الذي يتقاضى من مرضاه مقابل خدماته العظيمة ما يقدرون عليه من غير الدراهم، بيضاً ودجاجاً، ودعوات، ليقدم صورة مثالية للمناضل.
إلى ذلك ترسم الكاتبة بورتريهات بديعة لصديقاتها وعائلاتهم والحارات والمساكن التي يعيشون فيها، وتتتبع بعض مَن هاجر منهم للخليج وما حل بهم، وبعضهم قُتل على الطريق.
هنا نلتقي بالأسرة التي فقدت هويتها المقدسية تحت ضغط المعاملات القاسية الإسرائيلية وظروف الحاجة أم حسين الصحية في عمان، ومدى إحساس المقدسي بالهزيمة والخطيئة، كما نرى الريحاوي الذي جاء يقاتل في حرب المخيمات حتى لا يبقى لاجئاً، لكنه انتهى في النهاية إلى أمريكا، وابنة فضل ونرجس التي تزوجت من كادر ثوري فهاجرت إلى برستيج التنظيم لتتغرب عن أهلها وتجفو حياتهم إلى حياة القيادات التنظيمية التي اتخذت من العمل التنظيمي وسيلة للتمتع بالملذات ولنسيان هموم الوطن.
المشهد الأخير كما في الرواية السابقة من أقوى المشاهد حيث يتحد في خيال الكاتبة الأب الطبيب المناضل مع أريحا الوطن والمحبوب والحبيب، ولا تتركك الكاتبة إلا وأنت تحس بعظيم الفقد للمدينة الخالدة والشوق المشلول لها شلل المناضل الطبيب الريحاوي الأصيل، ورغم أن الأب أحد الأبطال الرئيسيين كان يسارياً فإن الرواية منحازة إلى الفن والواقع والوطن والإنسان لا إلى اليسار أو اليمين، وهذا هو جمال الواقعية الفنية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.