منذ مارس/آذار 2020، يكافح المعلّمون ومديرو المدارس والطلاب وأولياء الأمور للتعامل مع النمط الجديد في التدريس بسبب جائحة كورونا. وبالإضافة إلى الحوادث المؤسفة المرافقة، كشف هذا الوباء عن ثغرات عديدة في الأنظمة التعليمية من رياض الأطفال حتى الصف الثاني عشر. بالنظر إلى هذه الفجوات بشكل إيجابي، يمكن للمرء أن يستخلص العديد من التحديات للمستقبل. كمدرّسٍ سابق وكباحثٍ في علم المناهج الدراسية، سأحاول في هذه المقالة تسليط الضوء على الدروس الرئيسية المستفادة من هذا الوباء فيما يتعلق بنظم التعليم المدرسي.
(١) ضرورة إعطاء دور أكبر للطلاب: "ابحث عن هذا"، "أكمل هذا بنفسك وأرسله لي…". هذه تعليمات متكررة نسمعها مؤخراً من المدرّسين في صفوف التعليم عن بعد. فجأةً، بدأ المعلّمون حول العالم إعطاء دورٍ أكبر لطلابهم، واختبروا كيف يمكن للطلاب القيام بجلّ العمل بمفردهم. من المدهش كيف انتقلنا من "افعل ما أطلب منك أن تفعله" إلى "افعل ذلك بنفسك"! في الوقت نفسه، يشتكي العديد من المدرّسين من افتقار طلابهم للاندفاع الذاتي وتحمل المسؤولية.
للأسف، كان يجب تعزيز دور الطلاب في الفصول الدراسية لشهور وسنوات سابقة قبل أن يصبح ذلك إلزامياً. إن ما يحصل اليوم يعتبر فرصة لإعادة التفكير في استقلالية الطالب ودوره في الفصل الدراسي. يجب أن تتمحور صفوفنا حول الطلاب لكي يتحمّل هؤلاء المسؤولية عن تعلّمهم حين لا يكون المعلّم بالقرب منهم للتحقق مما يفعلون. في هذا النموذج التعليمي، سيظل الطلاب بحاجة إلى معلّميهم للتوجيه والإرشاد بدلاً من إعطاء التعليمات والمحاضرات فقط. نحتاج اليوم إلى تشخيص نقدي لمناهجنا لتقييم مدى تركيزها على الطالب ومن ثم إعادة رسمٍ لدور المعلّم والطالب في الفصل الدراسي. من المهم أيضاً ألا يقتصر تفعيل أدوار الطلاب على المهمّات اللوجستية والسطحية، بل أن يتعدى ذلك ليطال جوهر العملية التعليمية.
(٢) لا يحتاج الطلاب إلى المنهج بأكمله ويمكن للبرامج إعادة النظر في التقييم عبر الامتحانات فقط: إحدى النتائج الإيجابية للتدريس عبر الإنترنت أثناء الجائحة قيام العديد من البلدان بتقليص المناهج الدراسية والاكتفاء بما تعتبره "أكثر أهمية". وعليه، إذا كنا نعتقد أن 50% أو نحو ذلك من محتوى مادة معينة هو كل ما يحتاجه الطالب، وأن الكثير من المفاهيم ستتكرر دون داع في العام التالي، فلماذا نحتاج إلى العودة إلى 100% لاحقاً؟! لمَ لا نكتفي بما هو مهم حقاً من حيث محتوى المناهج ونركز بالمقابل على المهارات التي يحتاجها الطلاب بعد التخرج أو حتى قبله؟ علاوةً على ذلك، ألغت معظم النظم الوطنية والدولية تقييماتها الرسمية وامتحاناتها النهائية واستبدلتها بأشكال أخرى من التقييم. إذا كان هذا ممكناً لمرّة واحدة، فلماذا لا يستمر إلى الأبد؟ يناقش الباحثون ومديرو الشركات باستمرار الفجوة بين ما يتطلّبه سوق العمل أو الحياة الواقعية وما يتعلمه الطلاب في مدارسهم. هذا هو الوقت المناسب إذاً لتخفيف هذا التباين والتركيز على ما هو مهم حقاً من ناحية المحتوى التعليمي، بالإضافة إلى ابتكار طرق بديلة للتقييم تعيد النظر فيما اعتادت عليه النظم لعقودٍ سابقة.
(٣) العلامات المرتفعة والغش: إذا سألت المعلمين عن عيوب التدريس عبر الإنترنت، فسيخبرك معظمهم عن "الغشّ في الامتحانات" و"العلامات المرتفعة وغير العادلة". هذا الواقع المتمثل بأن العديد من الطلاب من مختلف الجنسيات لا يعملون بجدية إذا لم يتم تصنيفهم عبر علامات أو أنهم يطلبون من الآخرين القيام بعملهم إذا لم يكن هناك أحد يراقبهم، يلقي الضوء على مشكلة مواقفهم تجاه التعلم واندفاعهم الذاتي لتحصيله. يمكن للمرء أن يدّعي بشكل عادل أن العديد من الأنظمة التعليمية فشلت في جعل الطلاب يؤمنون بأهمية التعلم في حد ذاته، وأن قيامهم بالعمل بأنفسهم يؤثّر على مستقبلهم. يبدو أن معظم المناهج الدراسية تستخدم الاختبارات والدرجات المئوية لإخافة الطلاب وإجبارهم على العمل، بدلاً من تقييم قدراتهم فعلياً وإعطائهم ملاحظات مفيدة حول تحصيلهم العلمي. هذه فرصة إذاً لمصممي المناهج لإعادة التفكير في ممارسات التقييم، ونداء للمعلمين أيضاً لإقناع طلابهم بقيمة معرفتهم وأهميتها. إن إلقاء المحاضرات للطلاب عن الأمانة العلمية ومخاطر الغش ليست الحل الوحيد. ما يهم حقاً هو تقديم منهج قيِّم يجعل هؤلاء الطلاب يؤمنون بصلته بحياتهم العملية.
(٤) أهمية العامل النفسي والاجتماعي للطلاب: اختبر الجميع كيف تُحدث الصحة النفسية والاجتماعية للطلاب أثراً في تعلمهم. رأينا كيف لا يمكن للطلاب العمل دون أن يتفاعلوا في مجموعات ويلعبوا ويختلفوا. قدّرنا أكثر أهمية النقاشات والتفاعلات التي تحصل في الصفوف والاستراحات.. لقد أدركنا مؤخراً حقيقة أن الصحّة العاطفية والنفسية للطلاب لم تعد حالة ترف بل هي عامل حاسم وأساسي في أدائم. من جانب آخر، اختبرنا كيف أن مواقف الطلاب تجاه التعلم وتقديرهم لأهميته هي ما يصنع الفارق في تحصيلهم العلمي. لا يمكننا إذاً تجاهل هذه الجوانب بعد الوباء. يجب أن تؤخذ الظروف الشخصية التي تؤثر على تعلم كل طالب في الاعتبار. لا يمكننا إطلاق العنان لقدرات ومواهب الطلاب دون بيئة إيجابية في منازلهم وأحيائهم ومدارسهم.
(٥) المهارات الحياتية في القرن الحادي والعشرين ضرورية: في عصر "Google" و "YouTube"، لا يحتاج الطلاب إلى معلّميهم للحصول على المعلومات. يستطيع الطلاب الحصول على أفضل محاضرة عبر الإنترنت وبأحدث وسائل الإيضاح. ورغم أن بعضهم كان يدرك ذلك من قبل، استطاع الكثيرون التأكد الآن عن طريق الممارسة الفعلية. وبناءً على ذلك، فإن الدور الأفضل للمعلّمين هو أن يكونوا ميسّرين لعملية اكتساب المعرفة ليزوّدوا الطلاب بمهارات القرن الحادي والعشرين. نحتاج إلى تعليم طلابنا كيفية البحث عن المعلومات وكيفية تطوير التفكير النقدي الذي يمكّنهم من التمييز بين الصادق والكاذب والمضلّل. نحن بحاجة إلى طلاب قادرين على اجتراح حلول إبداعية للمشكلات وإلى مواطنين مرنين لمواجهة تحدياتهم. طلابنا بحاجة أيضاً إلى المزيد من مهارات التواصل والتعاون.. حبذا لو يتم استبدال الوقت الذي نقضيه في نقل المعلومات المتاحة أصلاً لطلابنا بالوقت لتعليمهم المهارات الحياتية الأساسية. عندها، سيكون مستقبلهم أكثر إشراقاً بالتأكيد.
(٦) العدالة المفقودة: لقد أبرز الوباء انعدام العدالة بين مدارس البلد الواحد وأظهر وجود فوارق كبيرة بين الطلاب في نفس المدينة. على سبيل المثال، لا تمتلك بعض العائلات جهازاً إلكترونياً أو قدرة على الاتصال بالإنترنت في المنزل. إذاً، فإن العديد من الأطفال لا يمتلكون الدعم الكافي والموارد المناسبة للنجاح كغيرهم. نحن بحاجة إلى التركيز أكثر على الطلاب في المجتمعات المحرومة، والمناطق الريفية، والأسر ذات الدخل المحدود. هؤلاء هم الذين يحتاجون فعلاً إلى الدعم من أجل الحصول على جودة تعليم أعلى، لما في ذلك من قدرة على إحداث فارق أكبر في حياتهم.
(٧) الأنظمة البطيئة والبدائية: أظهر لنا الوباء كيف أن الأنظمة التعليمية في معظم البلدان تعاني من البطء الشديد مقارنة بالتسارع التكنولوجي الحالي في باقي القطاعات. فعلى الرغم من وجود الممارسات التعليمية عالية التقنية في عدد قليل من الأنظمة، عانت غالبية المدارس الأمرّين لاعتماد حلول التدريس عبر الإنترنت. سارعت المدارس متأخرة إلى الاشتراك في أنظمة إدارة التعلم وبرامج الموارد التعليمية المتطورة. كان من الأجدى أن تولي الحكومات المزيد من الاهتمام بقطاع التعليم عبر دمج التكنولوجيا بشكل تدريجي منذ زمن حتى لا يتم حرق المراحل على عجالة. نحن بحاجة إلى إعداد معلمينا وأنظمتنا المدرسية وتحضير البنية التحتية لكوارث مستقبلية محتملة. يجب أن تكون الأنظمة التعليمية أكثر ديناميكية ومرونة لاحتضان التغيير بشكل أسرع من أجل تحقيق جودة التعليم لأجيالنا القادمة.
(٨) تأهيل المعلمين وتبادل الخبرات: كافح المعلمون مؤخراً لتعلّم مهارات جديدة كان ينبغي تعلّمها قبل سنوات. لا يمكن إلقاء اللوم على المعلمين هنا. إن التعامل مع الوباء وانتقال ملايين الطلاب إلى بيئات التعلم الجديدة عبر الإنترنت ليس بالأمر السهل. ومع ذلك، كان من الممكن أن يكون هذا الانتقال أكثر سلاسة في حال التحضير المسبق ولو الجزئي لهذه المهارات الأساسية. على صعيد إيجابي، شهد الوباء تعاوناً فريداً بين المعلمين من خلال تبادل الخبرات والموارد عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من المنصات. يجب أن يستمر هذا التعاون بعد الوباء، وحبذا لو تتم مأسسة هذه المبادرات وتنفيذها عبر جهات دولية لضمان فاعليتها وعموم منفعتها.
(٩) أهمية المعلّمين: رغم ظروفهم الخاصة، بذل المعلّمون جهوداً استثنائية في تحضير الدروس وإعطائها، وتوجيههم ورعايتهم للطلاب. لذا، علينا الاعتراف بأن المدرّسين كانوا في الخطوط الأمامية تماماً كأفراد القطاع الصحي. الآن وبعد أن أدرك الجميع مدى صعوبة عملهم، ولأن مستقبل أجيالنا بين أيديهم، يستحق المعلّمون مكانة مجتمعية أعلى ومردوداً مادياً أفضل واستثماراً أكبر في طاقاتهم للمحافظة عليها وصقلها. يتحقق هذا الاستثمار عبر تقديم الدعم الكافي والمتواصل للمربّين وعن طريق انتظام برامج تطوير مهاراتهم.
(١٠) تفعيل دور الأهل في العملية التربوية: بعد أن أجبِروا على المشاركة الكاملة في تعليم أبنائهم، اكتشف العديد من الآباء والأمهات أنهم يعرفون القليل عن المستوى الأكاديمي لأطفالهم واحتياجاتهم وقدراتهم. ساعد الوباء هؤلاء على معرفة بعض تفاصيل المناهج ومتابعة عمل أطفالهم بمزيد من الاهتمام. يحتاج الطلاب بالفعل إلى دور فعّال وأكبر لذويهم في العملية التربوية من خلال المتابعة المستمرة والتخطيط المشترك والعمل معهم لمعالجة الثغرات. بما أن الاستثمار المستقبلي الأهم لأي مجتمع هو المستوى التعليمي لأطفاله وشبابه، يحتاج الآباء إلى تكثيف التعاون مع المعلمين لتحقيق هذا الهدف النبيل.
لقد قدّم لنا الوباء خدمة جليّة عبر كشف العديد من الثغرات التي كانت موجودة لفترة طويلة في نظمنا التعليمية. في الماضي تم تجاهل هذه الثغرات أو تم توثيقها دون اتخاذ أي إجراء عملي. لقد غيّرت هذه الجائحة العديد من عاداتنا اليومية وأجبرتنا على التخلي عن الكثير من المسلّمات.. فيا ترى، هل نحن بحاجة إلى أوبئة أو كوارث أخرى لإقناعنا بأن أنظمتنا التعليمية تسير في الاتجاه الخاطئ، وأننا بحاجة إلى اتخاذ إجراءات سريعة للمعالجة؟! تستحق أجيالنا أفضل من الموجود حالياً، وبإمكاننا طبعاً تقديم ما هو أفضل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.