حظيت الاستثمارات الصينية المتنامية في إفريقيا خلال العقدين الماضيين باهتمام الباحثين ومراكز الدراسات والحكومات في الغرب، وهذا الاهتمام يعود لسببين: الأول متعلق بالقلق من النفوذ الصيني المتزايد عالمياً، خاصة في مجالات الاقتصاد والسياسة الخارجية والقوة الناعمة. والثاني متعلّق بمخاوف القوى الغربية التقليدية من تغوّل الصين على مستعمراتها السابقة التي تعتبر حديقة خلفية لها، حيث تأتي فرنسا وبريطانيا وحليفتهما الولايات المتحدة في طليعة المتخوّفين من أن يكون التوسّع الصيني خصماً عليهم. خاصة مع القوة البشرية والاقتصادية والتكنولوجية الهائلة للشركات الصينية الحكومية التي يتوفّر لها تمويل كبير وتسهيلات لا تتوفر لنظيراتها في الغرب.
من حسن حظ كثير من الدول الإفريقية أن الحكومة الصينية كانت ولا تزال تعمل بمبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وبالتالي لا يؤثّر العامل السياسي والنزاعات الداخلية والحروب الأهلية.. إلخ. في استثمار الشركات الصينية المملوكة للدولة أو الخاصة في أي دولة. بينما الشركات الغربية مقيدة بقوانين معيقة للاستثمار الخارجي لاعتبارات سياسية من قبل المشرّعين والحكومات. والاستثمار الصيني في دول "محرّمة" على الشركات الغربية مثل السودان وإيران وزيمبابوي كان على الدوام مثالاً على هامش المناورة المتاح للدول التي يصفها الغرب بـ"المارقة". لكن النموذج الجدير بالانتباه هو الاستثمار الصيني في إثيوبيا. وهي دولة مهمة سياسياً واستراتيجياً. كما أنها صديق للغرب.
فقد انتشرت شركات حكومية وخاصة في إثيوبيا في العقد الأخير لتعمل في قطاعات مثل البنية التحتية والتنقيب عن الذهب والنفط والصناعة وحتى الزراعة. ومن المثير للإعجاب الخطط التي عملت عليها الحكومات الإثيوبية خلال العشر سنوات الماضية لجذب الاستثمارات الأجنبية وتطوير البنية التحتية، وإنشاء مجمعات صناعية Industrial Parks لتوفير الوظائف لعشرات الآلاف من المواطنين الإثيوبيين.
لكن الحرب الأخيرة التي شنتها الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا على الطبقة السياسية الحاكمة في إقليم تيغراي المتمردة على الرئيس آبي أحمد تعتبر مهدّداً حقيقياً للاستثمار الأجنبي في البلاد، خاصة الاستثمار الصيني المستأثر بنصيب الأسد من الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI) في البلاد، والمدعوم من الحكومة الصينية.
فالمسؤولون الصينيون ينظرون لإثيوبيا باعتبارها أحد المحطات المهمة في "مبادرة الحزام والطريق، حيث يعتبر موقعها الجغرافي وأهميتها السياسية -باعتبارها عاصمة الاتحاد الإفريقي- والقوة البشرية التي تتجاوز 100 مليون نسمة، عوامل مغرية للتنين الصيني للاستثمار في إثيوبيا وتوثيق العلاقات السياسية والاقتصادية معها.
وقد أقامت الشركات الصينية مشاريع مهمة في البلاد مثل مترو العاصمة أديس أباب والطريق الدائري وعدد من المجمعات الصناعية الضخمة ومصانع الإسمنت وحتى مصانع تدوير النفايات لإنتاج الطاقة. لكن الحرب الأخيرة، والتي سبقها اضطرابات إثنية متفرقة خلال السنوات الماضية في عدة مناطق من إثيوبيا، ربما تدفع الحكومة الصينية لإعادة النظر في تمويل مشاريع جديدة في البلاد أو الاستمرار في المشاريع الحالية، خاصة إذا كان الثمن باهظاً مثل مقتل أو اختطاف مواطنين صينيين أو تدمير منشآت تموّلها الحكومة الصينية. وهي أشياء واجهتها الشركات الصينية من قبل في دول أخرى بالمنطقة مثل ليبيا وجنوب السودان وغيرهما.
الأخبار الواردة من إثيوبيا الشهر الماضي تشير إلى حذر صيني من وقوع أحداث مشابهة، حيث كان النزاع ودخول قوات الجيش الإثيوبي لمنطقة تيغراي عواقب فورية على الشركات الصينية، التي سارعت لإجلاء عدة مئات من مواطنيها العاملين في مشروعات في منطقة تيغراي.
فمجموعة (Gezhouba) الحكومية العملاقة المتخصصة في بناء السدود سحبت في شهر نوفمبر أكثر من 400 من مواطنيها العاملين في مشروع بمدينة مقلي، عاصمة إقليم تيغراي، بينما غادر 187 عاملاً صينياً يتبعون لشركة (CAMC) المتخصصة في الهندسة والإنشاءات بسياراتهم على عجل الى العاصمة أديس أبابا خوفاً من احتدام القتال ووقوعهم في مرمى نيران الأطراف المتحاربة.
وقد صرّح السفير الإثيوبي لدى بكين Teshome Toga Chanaka لوسائل إعلام صينية بأن العاملين في الشركتين الصينيّتين تم إجلاؤهم إلى العاصمة وأن لهم كامل الحرية في العودة عند استتباب الأمن في إقليم تيغراي أو المغادرة الى الصين.
كما طمأن السفير الاستثمارات التابعة لدول أخرى حول الوضع قائلاً إن الأمر لن يتوسّع الى حرب أهلية شاملة. وإذا ما علمنا أن هناك مجمعاً صناعياً ضخماً أنشأته شركة الاتصالات والإنشاءات الصينية (CCCC) في مقلي، عاصمة إقليم تيغراي.
وقد أبدت شركات هندية وصينية وبريطانية وبنغلاديشية رغبتها في الاستثمار الصناعي فيه. فسندرك حجم التهديد الذي يشكّله النزاع الذي نشب الشهر الماضي في شمال إثيوبيا على الاستثمار الأجنبي المباشر في هذا البلد الصاعد، والذي كان قبل عقود قليلة يعاني من الحروب والمجاعات والحكم الدكتاتوري ونظام "الدرق" الدموي للرئيس الأسبق منقستو.
أما بالنسبة لبكين فإن بعض تجاربها السابقة في الاستثمار في مناطق ساخنة لم يحالفها التوفيق دائماً، حيث واجهت معضلة لوجستية وأمنية في عام 2011 عندما اندلعت المواجهات بين الثوار الخارجين على حكم الدكتاتور القذافي وبين قواته في أنحاء البلاد، لتكتشف الحكومة الصينية حينها أن لديها أكثر من 35 ألف مواطن يعملون في ليبيا. وقد أطلقت الحكومة الصينية وقتها عملية إجلاء بحري وجوي لمواطنيها اعتبرت الأضخم منذ قيام جمهورية الصين الشعبية في 1949، ولم تخسر أرواحاً لكن خسرت الكثير من الاموال والأصول.
كما خسرت أرواحاً في السودان قبلها عندما اختطفت مجموعة قبلية في إحدى المناطق القريبة من حقول النفط عمالاً صينيين وقامت بقتلهم عند محاولة القوات الحكومية تحريرهم. وكان الأمر أسوأ في جمهورية جنوب السودان الوليدة، حيث خسرت الشركات الصينية الكثير واضطرت لإجلاء عامليها ووقف الانتاج النفطي وكافة مشاريع البنية التحتية عند اندلاع النزاع الإثني في جنوب السودان في أواخر عام 2013.
وفي حين تم تصوير عملية إجلاء الصين لرعاياها من ليبيا في عام 2011 داخلياً وفي الغرب على اعتباره علامة على عبور الصين إلى مصافّ الدول العظمى التي ترسل الأساطيل الجوية والبحرية لإنقاذ رعاياها، إلا أن تكرار المخاطر الأمنية والاقتصادية للشركات الصينية وموظفيها في الخارج يعتبر كابوساً للحكومة الصينية ولجنة إدارة والإشراف على الأصول المملوكة للدولة (SASAC) التابعة لمجلس الدولة (مجلس الوزراء) والمسؤولة عن الشركات المملوكة للحكومة الصينية داخل وخارج البلاد.
والأمر المؤكد هو أن الحكومة الصينية تتعلم من تجاربها السابقة وتكوّن اللجان التي تحلّل وتدرس تجارب وأخطاء الماضي، لكن المشكلة تواجه الدول الفقيرة مثل إثيوبيا عندما تواجه النزاعات العرقية وهروب الاستثمار الأجنبي في وقت واحد. والآمال في هذا الوقت معقودة على أن يكون النزاع في إقليم تيغراي سحابة صيف عابرة، وألّا يتطور إلى نزاع طويل أو حرب أهلية أو تمرد طويل الأجل يبدّد الحلم الإثيوبي بالتطوّر والسلام والرخاء الاقتصادي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.