رسالة إلى ولدي وزوجته: هل شهِدتما الحرب الأهلية الأمريكية الافتراضية؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/12/12 الساعة 10:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/12/12 الساعة 10:59 بتوقيت غرينتش

رغم أنك الآن في الأربعين من العمر يا ولدي، ولديك زوجة وأولاد، أنا سعيد جداً لأجلكما، ولأنكما أصبحتما راشدَين الآن، وأنا في غاية السعادة لأنك تُعيد قراءة كل رسائلي الغابرة، وبالذات هذه الرسالة التي كتبتها لك قبل ثلاثين عاماً ونيفاً من الآن.

اليوم أشعر أنني أتحدث إليكما من عوالم أخرى غير عالمكما، دعنا نبتعد قليلاً عن نوع الرسائل السابقة التي كتبتها لك على مدار الأعوام الأربعة الفائتة، التي تناولنا معاً فيها أحداثاً وقضايا شتى كقضيتي أنا وكرامتي، وقضيتنا والوطن السليب، وأيام التطبيع المجاني، وبدء زوال دولة الكيان في العام اثنين وعشرين بعد الألفين، وقبل الزوال حين توقعنا أن الأنظمة العربية ستسن قوانين تُجرِّم الدعاء على الكيان وتمني زواله، وتحدَّثنا أيضاً حول المعضلات والظواهر الجنسية الدخيلة علينا، وكيف باتت محط اهتمام الحكام والإعلام والمنظمات الدولية، وكيف جاءت الجائحة التي شلّت كوكبنا بالكامل مطلع سنة عشرين بعد الألفين، حسب ما كنتُ أعتقد عن العقاب، وقصتي والناسك وغيرهم، هل تذكر؟

لكن اليوم وبعد هذه الأعوام الطويلة جداً هل ما زلتَ تصدق أنني نسيتكما، وأنني لم أعد أذكر يوماً أنكَ كنتَ طفلاً رضيعاً حين كنتُ أتلذذُ باستنشاق رائحتك وتقبيل قدميك الصغيرتين جداً؟ كم من المرات وضعتك على صدري العاري لتنام وأنا أستمع إلى أنفاسك الصغيرة السريعة حين كنتُ أشعرُ بحرارتها على رقبتي؟

أتذكر يا ولدي؟

أتدري أمراً بني؟ أنا أكره البلل، كل أنواع البلل التي خلقها الله، لكني لم أتوقع أن أعشق البلل الذي شعرتُ به ذات مرة على صدري العاري حين غفوتَ عليه وسال لعابك عليه، يا إلهي لم أعشق هذا البلل، بل كان السعادة بعينها.

أرجو أن لا تتهماني بأنني كاتب فذّ أعتصرُ عقلي أحرفاً فيتشكل كلام مِن كلمات عذبة رقيقة لا أكثر؟ لا.. أنا لستُ كذلك، بل أنا مجرد أب أحبَّ أبناءه، ليس كأي أب؛ بل ربما أن تلك الكلمات تحمل من المعاني ما لم تدركاه بعد، كم كنتُ أرجو أن أكونه ذاك الكاتب الفذ؛ كي أكتب لكما كلاماً أعمق من هذا بكثير، علَّه يلامس مشاعركما التي تحجرت تجاهي، لقد كنتُ يوماً أعيشُ كل تفاصيلكما الصغيرة قبل أن تدركايَ جيداً، وبعد أن بِتُّما لا تريدان إدراكي.

منذ فترة وجيزة رزقني الله بأخٍ لكما، يا إلهي إنه رائع وصغير جداً، لكنني محروم من التمتع بتقبيله واستنشاق رائحته، وتلك العادات التي عرفتما عنها للتو، فأنا أخاف عليه من كورونا اللعين، غير أنني أسمح لنفسي أحياناً بأن أُقبِّل قدميه الصغيرتين جداً، لقد حملته مرات قليلة وكان قلبي يزيد خفقانه كلما وضعتُ وجهه الصغير بالقرب من أذني كي أستمع مجدداً إلى صوت أنفاسه الصغيرة السريعة، وأشعر بحرارتها تدغدغ رقبتي من جديد، سحقاً لفيروس كورونا المستجد هذا، وسحقاً لِمن أوجده على كوكبنا.

هل تذكران جائحة كورونا التي ضربت كوكبنا سنة 2020؟ أنا أعيشها الآن، يا إلهي لقد اتخذَت الحكومات وقتها سياسات قاصرة، دمرت البشر، وزادت الجوعى والفقراء في عالمنا العربي، الذين كانوا أصلاً هم الأكثرية قبل كورونا، وكانت فسحة هائلة لليهود والصهاينة كي ينفذوا صفقاتهم الخليعة الإجبارية مع معظم الأنظمة العربية الهزيلة الضعيفة، المشكلة الكبرى التي عانى منها العالم العربي حينها، والتي كان سببها تلك الأنظمة هي أنه استفاق متأخراً جداً، بعد أن كان قد أغفل الزراعة والتعليم والبحث العلمي والاهتمام بالبيئة وظاهرة تغير المناخ لعقود طويلة، ووقف ينتظر مصيره المحتوم، بينما كانت تتسابق الأمم الأخرى لاكتشاف لقاح للفيروس، لقد كانت تهتم أنظمتنا فقط بمسائل الأمن، وتكميم الحريات، وكبت الشعوب، وتنفيذ سياسات القبضات الحديدية كي تبقى هي وتستمر، غير أن جائحة كورونا عرَّتها تماماً في النهاية أمام شعوبها، وكشفت هشاشتها، وخلقت ثورات جياع تزامنت مع الحرب الأهلية الافتراضية بأمريكا، حين تمسّك ترامب بالسلطة، وأطلق ميليشياته من اليمين المتطرف وحركة القوميين البيض لتعيث فساداً بأمريكا، بعد أن خسر في الانتخابات الرئاسية، وعُزلة دولة الكيان الصهيوني، فكان تغييراً هائلاً في وطننا، أخيراً نحو الأفضل، كم كنتُ أتمنى أن أعيش لأشهد تلك الأزمنة وهذا التغيير الهائل وأتذوق مِن ثماره كَمْ، هل تذوقتما ثمارَه؟

تحياتي الحارة لكما.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

بشار طافش
كاتب أردني
بشار طافش هو كاتب أردني حامل لشهادة البكالوريوس في الاقتصاد، ومؤسس منظمة Warming Observers التي تُعنى بالتوعية بظاهرة الاحتباس الحراري واحترار كوكبنا، وأعمل في مجال الدواء مديراً لأحد مستودعات الأدوية في الأردن.
تحميل المزيد