في نهاية الجزء السابق من مقالتنا انتهى بنا الحديث عن دور البعوضة في ظهور المسيحية الأوروبية، ولكنها أيضاً أسهمت في تحقيق واحدة من أكبر هزائمها، حدث ذلك خلال الحروب الصليبية، وهي سلسلة من تسع حملات عسكرية إلى الشرق الأوسط قامت بها جيوش أوروبية مسيحية مختلفة بين عامي 1096 و1291.
كان الهدف الظاهري للحروب الصليبية هو "استعادة" الأرض المقدسة في فلسطين والبلدان المجاورة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، المعروفة باسم بلاد الشام، والتي حكمها المسلمون منذ ظهور الإسلام في القرن السابع. ولكن إذا وضعنا ذرائعهم الدينية جانباً يمكننا أن نرى الحروب الصليبية كأول محاولة واسعة النطاق للقوى الأوروبية لاستعمار الأراضي خارج قارتهم.
لكنها انتهت بالفشل، مرة بعد مرة عرقلت الملاريا الجيوش الأوروبية. كان المرض مستوطناً في المناطق الساحلية الرطبة المنخفضة من بلاد الشام، ويؤثر في السكان المحليين بنوبات خفيفة، لكن من لم يتعرضوا له من قبل كجيوش الغزاة كان المرض قاتلاً لهم.
عندما كان الإمبراطور كونراد الثالث ملك ألمانيا يخطط لغزو دمشق، جهز له المسلمون سلاحاً بيولوجياً عنيفاً، حيث قاموا بتلويث جميع مصادر المياه العذبة حول المدينة وتحويلها لمياه راكدة، ما خلق بيئة مناسبة لنمو البعوض وازدهاره، حصار دمشق الذي استمر خمسة أيام في يوليو/تموز 1148 أثناء موسم الملاريا كان كارثة على الجيش الصليبي، الذي واجه نضوب الماء الصالح للشرب مع تفشي العدوى.
وعندما حاصر الصليبيون مدينة عكا الساحلية لمدة عامين تقريباً من 1189 إلى 1191، مات حوالي 35% من الجنود المسيحيين بسبب الملاريا. من خلال استنزاف قوة جيشهم مادياً ومعنوياً، ساعد المرض في إحباط طموحهم في احتلال القدس، واستمرت بلاد الشام مستقلة عن السيطرة الأوروبية حتى الحرب العالمية الأولى.
في هذه المرحلة من قصتنا نحن في بدايات القرن العشرين على مشارف الحرب العالمية الأولى، ولكن هناك مفاجأة، لأول مرة، لم يكن للبعوض تأثير كبير على مجرى الأحداث العسكرية. في الحرب العالمية الأولى كانت الوفيات الناتجة عن الأمراض التي ينقلها البعوض هي أقل من 1%. ما الذي تغير؟
لأكثر من 3000 عام كان التفسير السائد للأمراض التي ينقلها البعوض هو نظرية الميازما، وفقاً لهذه النظرية كان يُعتَقد أن تلك الأمراض ناتجة بسبب الأبخرة المنبعثة من المسطحات المائية الراكدة التي يقطنها البعوض، وليس البعوض نفسه.
ولكن بحلول عام 1897 اكتشف عدد من العلماء الأوروبيين الذين يعملون في مستعمرات أوروبية مختلفة في إفريقيا وآسيا أن البعوض وطفيلياته هم الجناة وراء جرائم الملاريا، وفي أكتوبر/تشرين الأول 1900، أعلنوا أنهم اكتشفوا دليلاً قاطعاً على أن البعوض تسبب أيضاً في الحمى الصفراء.
دفع هذا الإعلان العديد من أطباء الصحة العامة لشن حربٍ شاملة ضد البعوض، عبر عدد من التكتيكات كتجفيف المستنقعات، والحدّ من المياه الراكدة في الشوارع، والحث على استخدام الناموسيات عند النوم، واستخدام مجموعة من العوامل الكيميائية، بما في ذلك الكبري، ومسحوق الأقحوان، والكيروسين.
بمزيج من التمويل الحكومي والخيري استمر البحث العلمي في محاولة إيجاد حلول لمكافحة البعوض وأمراضه خلال الحربين العالميتين وفترة ما بين الحربين. أدت هذه الجهود إلى تطوير عقاقير مضادة للملاريا، مثل الكلوروكين والأتابرين، كما أدت إلى اكتشاف مبيد حشري بدا وكأنه حل معجزة لمشكلة البعوض، كان يطلق عليه ثنائي كلورو ثنائي الفينيل، ثلاثي كلورو الإيثان، أو للاختصار DDT.
في عام 1939 قدم العالم الألماني السويسري بول هيرمان مولر بحثه الذي حاز جائزة نوبل، حول قدرة مادة الـ دي.دي.تي على قتل مجموعات واسعة من الحشرات الوبائية، مثل خنافس البطاطس، والبراغيث، والقمل، والقراد، وذبابة الرمل، وبالطبع البعوض.
بين عامي 1939 و1955، انتشر استخدام الـ دي.دي.تي بشكل متزايد. وقام الجنود الأمريكيون برشها في جميع أنحاء بلدان المحيط الهادئ وجبهات القتال الإيطالية في الحرب العالمية الثانية. ورشها المزارعون الأمريكيون على حقولهم ومنازلهم. وقامت منظمة الصحة العالمية برشها على مساحات شاسعة من أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا.
كانت النتائج مذهلة. في العالم النامي انخفضت حالات الإصابة بالملاريا بمعدلات تتراوح بين 35 إلى 90% في مناطق متعددة. في أوروبا تم القضاء على الملاريا تماماً بحلول عام 1975. وعلى الصعيد العالمي، من عام 1930 إلى عام 1970، انخفض إجمالي حالات الأمراض التي ينقلها البعوض بنسبة 90% عن معدلاتها السابقة.
بدا أن عهد الرعب الذي تمارسه الحشرات الماصة لدماء البشر قد انتهى، ولكن هيهات.
عادت البعوضة مجدداً، مسلحةً بجينات مقاومة للـ دي.دي.تي في جميع أنحاء العالم. كما تعرّضت المادة الكيميائية لانتقادات من دعاة حماية البيئة، وأشهرهم عالمة الأحياء راشيل كارسون، التي وصفت آثارها البيئية السلبية، مثل تدمير مجموعات من الطيور، في كتابها المقروء على نطاق واسع والمؤثر بعمق Silent Spring، الذي نُشر في عام 1962. بعد عقد من نشره، في عام 1972، حظرت الولايات المتحدة الاستخدام المحلي للـ دي.دي.تي، وحذت العديد من الحكومات في جميع أنحاء العالم حذوها.
أدى الجمع بين فقدان فاعلية مادة الـ دي.دي.تي ووقف استخدامها إلى عودة ظهور الأمراض التي ينقلها البعوض. في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وآسيا الوسطى عادت معدلات الأمراض إلى مستوياتها السابقة بحلول أوائل السبعينيات. في غضون ذلك كان طفيل الملاريا يطور جينات مقاومة ضد الأدوية المضادة للملاريا. بحلول منتصف الثمانينيات أصبح الكلوروكين غير فعال في أجزاء متفرقة من العالم، ثم تبعه الميفلوكين. كانت النتائج كارثية وما زالت تعصف بجنسنا البشري حتى يومنا هذا.
منذ عودة ظهور الأمراض التي ينقلها البعوض في السبعينيات حدثت الغالبية العظمى من حالات الملاريا، ولا تزال تحدث في الأجزاء شديدة الفقر من العالم، مثل جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا، حيث يعيش 55% من سكان المنطقة على أقل من دولار واحد في اليوم.
تنفق شركات الأدوية القليل جداً من المال على البحث وتطوير عقاقير جديدة مضادة للملاريا، لتحل محل الأدوية التي أصبحت غير فعالة، نظراً لافتقارها إلى دافع الربح. في القرن الحادي والعشرين تدخلت المنظمات غير الربحية مثل مؤسسة غيتس لتمويل الأبحاث المضادة للملاريا، ولكن لم يتم العثور على علاج فعال بعد.
في عام 2018، وبعد 28 عاماً من التطوير و565 مليون دولار من الدعم من مؤسسة غيتس ومنظمات أخرى دخل أول لقاح للملاريا "Mosquirix" الجولة الأخيرة من التجارب السريرية التجريبية، لكن تبين أن فاعليته قصيرة الأجل، فهو يعطي مناعة 39% بعد 4 سنوات و4.4% فقط بعد 7 سنوات. يتطور طفيل الملاريا بسرعة كبيرة بحيث يصعب قمعه لفترة طويلة.
نتيجة لذلك يستمر عدد القتلى في الارتفاع، ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين يموت مليونا إفريقي في المتوسط كل عام بسبب الملاريا.
ولكن لم نفقد الأمل، فهناك احتمال جديد في الأفق، تكنولوجيا الهندسة الوراثية المعروفة باسم كريسبر. مع هذه التكنولوجيا يمكن للعلماء العبث بالحمض النووي لذكر البعوض في المختبر، ثم إطلاق أسراب معدلة جينياً في البرية للتزاوج ونشر جيناتها الجديدة. من شأن ذلك أن يمهد الطريق لهدفين محتملين يمكن للعلماء والحكومات والمنظمات غير الربحية السعي لتحقيقهما.
الاحتمال الأول هو جعل البعوضة غير قادرة على نشر الملاريا، ربما بجعل غدتها اللعابية تقتل الطفيليات قبل أن تتاح لها فرصة للانتقال، سيكون هذا هو الاحتمال الأكثر اعتدالاً والأقل تأثيراً على التوازن البيئي، ولكنه صعب التنفيذ.
أما الاحتمال الثاني فهو إعادة هندسة البعوضة لتلد مولوداً ميتاً أو عقيماً، أو أن تلد ذكوراً فقط، ما سيجعل البعوض ينقرض في غضون جيلين، قد يبدو عالم خالٍ من البعوض وكأنه حلم وردي للبشرية، لكننا لا نعرف ما هي عواقب هذا الخيار على النظم البيئية للأرض والتوازنات الطبيعية التي تحافظ عليها.
لا يزال الخيار في أيدينا، فهل ستُحسم حرب الجنس البشري مع البعوضة لصالحنا؟ من يعش سيرَى :).
إذا أردت التوسع في القراءة عن دور البعوض في تشكيل التاريخ البشري أقترح عليك قراءة كتاب The Mosquito: A Human History of Our Deadliest Predator، فالمعلومات الواردة في هذا المقال مستقاة منه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.