حينما دُفِن أبي قبل أن أودِّعه للمرة الأخيرة

عربي بوست
تم النشر: 2020/12/06 الساعة 14:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/12/06 الساعة 14:44 بتوقيت غرينتش

في السادس من ديسمبر/كانون الأول الماضي، فقدت أبي.. هكذا أخبروني: ألو، رانيا، بابا مات؛ ماذا؟ كيف؟ متى؟ كلها أسئلة لم أطرحها لأختصر الوقت، أغلقت الهاتف بسرعة، فما كان يهمني هو أن أطير إليه؛ سافرت، كنت أشعر بل أجزم أني لن أتمكن من الوصول في الوقت المناسب، كانت الرحلة طويلة، وكثيرة، كانت العراقيل، هاتفوني قرب نهايتها، وأعلموني أنهم قد دفنوا أبي بالفعل قبل أن أتمكن من الوصول إليه وإعطائه الوداع الأخير، فانفجرت باكية، لم أدرِ ماذا أفعل!

تعاطفت من قبل مع  حزن زوجي وهو يحكي لي عن مدى ألمه لوفاة والده ودفنه أثناء أعوام سفره، ولكني لم أفهمه! لم أكن أستوعب نداءات أهالي المعتقلين أن أخرِجوا فلاناً ليدفن أباه!  لذا فإني أعتذر لكل من عاش هذا الألم وحدثني عنه ولم أدرك ما يعتمل في قلبه من أسى. حاولوا التخفيف عني، فحكوا لي أن أبي كان بصحة جيدة قبل الوفاة، وأنه صلى الجمعة وتسوق لأمي، وضحك وتحدث مع الباعة، ثم عاد إلى المنزل ليسقط ميتاً! قالوا لي إن تأخيري ربما كان نعمة من الله حتى لا أحضر جنازته، فهم يعلمون مدى تعلقي به. ذهبت إلى قبره الطيب، واعتذرت له، واطمأننت عليه، وودعته، ثم غادرت.

منذ وفاته كلما فتحت حاسوبي لأكتب عنه أسرح بخيالي، أتأمل صورتي معه وهو يرفعني بحنان وسعادة في حفل عيد ميلادي الأول، فينساب سيل الذكريات ولا أسطر حرفاً. في أول مناسبة زرت فيها أمي جمعت كل صوري معه، لكني وجدتها أقل بكثير من لقطات له طُبعت في قلبي، سأصفها لكم.

اللقطة الأولى: وهو يميل برأسه إلى الخلف ضاحكاً من قلبه، حين كان يلبس حذاءه صباحاً استعداداً للنزول ليكتشف أن حذائي الصغير قد بات ليلته داخل حذائه؛ فقد كان حذاؤه هو مخبئي السري.

الثانية: وأنا أنتظره كل يوم عند عودته من عمله لأحصل على لوح الشيكولاتة الكبير، كان يخبرني أن طلبي سينفَّذ ولكن بعد أذان العصر، وكنت أنتظر أن يتناول غداءه بفارغ الصبر، وعندما يستلقي ليستريح قليلاً، أقوم أنا برفع أذان العصر بصوت هادئ قرب أذنه، فينهض ضاحكاً، ويصحبني حيث أحصل على كل ما أريد.

الثالثة: ونحن نتمشى أنا وهو بعد العصر إلى أن نصل إلى منطقة اللسان برأس البر صيفاً، ونسير على جسر طويل داخل البحر يوصلنا إلى "الكازينو العائم"، حيث نشرب عصير الليمون المثلج، ثم نكمل إلى الفنار وهو نقطة التقاء البحر بالنيل، فنجلس سوياً لنستمتع في صمت بمشهد الغروب، ولا نغادر حتى نطمئن أن الشمس قد ذابت تماماً في مياه البحر.

الرابعة: وهو قلق على وزني، أذكر أنه وزنني في ليلة مرتين وحصل على نفس القراءة، فوزنني للمرة الثالثة متمنياً أن تكون القراءتان السابقتان خاطئتين، فوجدني قد زدت كيلوغراماً، فكاد أن يطير من السعادة، إلا أنه لم يسترِح إلا بعد أن وزنني للمرة الرابعة ليكتشف أن وزني لم يزِد غراماً واحداً، فابتسم واستمر يزنني بمناسبة ودون مناسبة.

الخامسة: وهو يحقق معي أجمل فشل حدث في تاريخ صناعة الطائرات الورقية.

السادسة: وهو يحضر لي باستمتاع وحرص شديد مكونات مشاريعي الصغيرة من غراء وجلود وألوان وزجاج وخشب، فقد كان يشعرني أن ما أفعله هو نوع من الإبداع.

السابعة: وهو يلبي أتفه احتياجاتي التي لم أطلبها في برد أو حر أو مطر أو عاصفة، وكثيراً ما كنت أتقافز صدمة وشفقة "لماذا يا أبي؟" فيكتفى بابتسامة ويذهب.

الثامنة: كان لا يقتنع بوسائل المواصلات، وكان مقياس كل المسافات عنده "خطوتين"، فكنت أصل إلى أتوبيس أي رحلة مدرسية أو جامعية وأنا منتهية الصلاحية، لكني كنت أسعد بالجري برفقته، وبوجهه المبتسم وهو يلوح لي مودعاً، ومستقبلاً لنقطع مسافة "الخطوتين" عائدين إلى المنزل وأنا أتلو الشهادتين.

التاسعة: وهو يقرأ الجرائد، ويسمع نشرات الأخبار المصرية، ثم يقارنها بما كان يبث عبر إذاعة لندن "بترقيق اللام كما اعتاد أن ينطقها" بالراديو. قال لي قبل قيام ثورة يناير بعدة شهور: (هذا الوضع لن يستمر، ستشتعل ثورة عما قريب).

العاشرة: قبل وفاته بسنوات قليلة، ابتلي أبي في عينيه، فقد البصر وكان شيئاً صادماً بالنسبة لي، فأبي كان كثير الحركة، ظننت أنه سيصاب باكتئاب، إلا أنه تكيف بشكل سريع غير متوقع، فبات يتصرف وكأن ما حدث له أمر عابر يجب تجاوزه؛ حتى إنه كان مواظباً على صلواته بالمسجد كما اعتاد لا يمنعه عنها مانع.

الحادية عشرة: ككل الرجال، مرت بأبي أزمات شديدة مختلفة الأشكال، لم أشعر مرة واحدة أنه قد هُزم، فقد كان لديه عناد مقدس عجيب، كان يسير في كل الطرق حتى نهايتها، لم تكن لديه محاولة أخيرة، فكل محاولاته مستمرة، لم يكُن يعرف معنى كلمة استسلام، لا يظهر غضباً أو عصبية، لا يثير ضجة، لا يبالغ في احتفال بفوز، ولا تهمه صدارة المشهد، لكنه كان يصل إلى الهدف.

الثانية عشرة: كنت أعرف نتيجة امتحان آخر العام من صوت قفزاته السعيدة على السلم، فنجاحي وحده كان مبهجاً له دون تفاصيل.

الثالثة عشرة: حين كان صوته يتهادى إلى أذني فجراً وبعد صلاة العشاء وهو يقرأ القرآن محافظاً على ورده.

صوري معه أكثر من أن تحصى، فقد طُبعت في قلبي، وشكلت روحي، وعقلي، ووجداني.

تتخيل في شبابك أنك مختلف عن والديك، لكنك عندما تكبر تكتشف أنك جزء من نسيجيهما، وأنك تتحول تدريجياً إلى إصدار آخر منهما.

إن الأب هو سند من عند الله لأبنائه، دعاء من قلبه وقت عسرة يفتح كل مغلق.

هو باب من أبواب الجنة، فلا تبرحوا عتبته.

ولينتبه كل أب إلى أنه سيختفي يوماً، فليترك لأبنائه إرثاً جميلاً من الذكريات،

لتنطلق ألسنتهم بالدعاء له بالرحمة كلما طاف بخاطرهم.

اللهم ارحم أبي.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

رانيا مصطفى
مدونة مصرية
تحميل المزيد