مع ظهور الرأسمالية في القرن التاسع عشر كان لزاماً دراسة لهذه الظاهرة، وبهذا الشأن يقدم عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر كتابه الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية لتحليل تطور الرأسمالية وعلاقتها بالأخلاق البروتستانتية. و"البروتستانتية" هي طائفة مسيحية اعتنقت مبدأ الإصلاح الديني وخرجوا على الكنيسة الكاثوليكية وتم تسميتهم بروتستانت لأنه عندما تم تنفيذ قرار الحرمان عليهم أعلنوا احتجاجاً يسمى بالإنجليزية (بروتست).
والكتاب صدر عن مركز الإنماء القومي ببيروت بترجمة محمد علي مقلد، ويأتي في 200 صفحة، وقد مر أكثر من مئة عام على نشر الكتاب في أوروبا، حيث بوبه ماكس فيبر على النحو الآتي: الفصل الأول الانتماء الديني والشرائح الاجتماعية، الفصل الثاني أخلاق العمل في البروتستانتية.
وقد انطلق ماكس فيبر من تساؤل إلى أي مدى أثرت تصورات الدين على الاقتصاد وتحديداً الرأسمالية الحديثة؟ حيث يقدم استدلالات عن أن الدين له علاقة تأثير بتطور الاقتصاد، كما أننا نقدم تساؤلاً وهو هل فعلياً الأخلاق البروتستانتية ساهمت في تطور الرأسمالية بحسب أطروحة فيبر؟ وهو ما سنتناوله في مراجعتنا للكتاب.
أولاً: الرأسمالية وروحها
في البداية يتحدث فيبر بأن نقاشاً حول روح الرأسمالية قد يكون معقداً بسبب المؤثرات العديدة، وقد حدد الرأسمالية الغربية الحديثة، حيث يقول هناك رأسمالية في الصين والهند وبابل القديمة وغيرها من البلدان، لكن ليس لديهم روح خاصة تدفع بعجلة التجارة والتبادل بعيداً، أي ما يراه فيبر في الرأسمالية أنها ليست كنظام اقتصادي بحت، بل نظام أخلاقي مميز كما سماها.
ويعود ذلك لما لاحظه فيبر في ألمانيا، حيث لاحظ أن أصحاب المال والتجارة أغلبهم من البروتستانت مقابل الكاثوليك، كما أنهم- البروتستانت- أكثر الحاصلين على التعليم، وقد يكون التفسير المنطقي لهذه الظاهرة هو أن ألمانيا شهدت في القرنين السادس عشر والسابع عشر بروز البروتستانتية وتراجع الكاثوليكية، كما أن هناك عدة مدن ألمانية تخلت عن حكم الكنيسة الكاثوليكية، مما أتاح هذا التحول لعموم الشعب الألماني والتحرر من وطأة الكنيسة الكاثوليكية، لكن ما لاحظه فيبر أيضاً أن الدول البروتستانتية مثل بريطانيا وأمريكا تطور فيها الاقتصاد والصناعة بفارق شاسع عن الدول الكاثوليكية، ويحلل ذلك بعلاقتها بالأخلاق البروتستانتية.
يرى فيبر أنه مع ظهور الرأسمالية الغربية ظهرت معها أخلاقيات ربطت بين كسب المال والأخلاق الحسنة، إلا أن فكرة ربط الدين ببداية الرأسمالية كان لها تاريخ طويل فيما يتعلق بالبروتستانتية والديانات الأخرى قبل كتاب فيبر.
وقد قام كتاب سابقون، بمن فيهم الاقتصادي الإنجليزي ويليام بيتي، بعمل بعض هذه الروابط. ما فعله فيبر هو تقديم تفاصيل الحجة، مع تفاصيل الآلية التي تطور بها الإيمان، مما أدى إلى الرأسمالية الحديثة. لا يتعلق الأمر بأن البروتستانت سعوا إلى الثروة أكثر من الكاثوليك، وخاصة أنه يذكر أن البروتستانت عندما كانوا أقلية لجأوا للتجارة وأن أي أقلية عادةً ما تسعى إلى التجارة لنيل الاستقلال المالي للحفاظ على كيانها، قد تكون هذه الفرضية صحيحة ونلحظها في أماكن عديدة، لكن يذهب فيبر إلى أبعد من ذلك حيث يرى أن البروتستانت أظهروا ميلاً لتطوير العقلانية الاقتصادية أي زيادة الإنتاجية واستخدام أفضل للموارد، وبمعنى آخر الكسب لأجل الكسب وليس لأجل شراء الحاجيات، حيث يعطي مفهوماً بأن الأخلاق هي التي تنتج رأسماليتها وليس الرأسمالية هي ما تنتج أخلاقها.
درس ماكس فيبر الأديان وعلاقتها بالنمو الاقتصادي، حيث يرى أن الديانة الهندوسية "والتي ترتبط بتراث الهند" ونظام طبقاتها شكلت حجر عثرة أمام تطور الرأسمالية، لأن أتباع الهندوسية ليسوا أحراراً في التصرف العملي أو المهني، كما يذكر بأن الإسلام جعل المسلم مسيَّراً في الدنيا، مما جعله جبرياً كما وصفه، أي لا يهتم بالعمل والجهد كونه مسيراً وليس مخيراً، وقد انعكس الأمر سلباً وشكل معوقاً لتطور الرأسمالية في العالم الإسلامي.
لكن لا ندري من أين أخذ ماكس فيبر فكرة الجبرية المبالغ فيها عن الإسلام، رغم ما يدعو إليه الإسلام في العديد من النصوص التي تحث على العمل وإن الإنسان صانع حياته، ولأنه لا يوجد في العالم الإسلامي كفيبر يستخرج أخلاق التجارة لدى الطائفة الإباضية والإسماعيلية اللتين تحثان أتباعهما على الكسب وقد تدعم بالمال ليصبحوا تجاراً، كما نجد أن القول المنسوب للراهب الألماني مارتن لوثر "لو أعلمت بأن قيامة العالم سوف تقوم غداً، لرغبت في غرس شجرة تفاح"، حيث نجد تطابق القول مع قول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم "إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها" رواه أحمد بإسناد صحيح، ورغم ذلك لا يرى فيبر هذه الأمور في الإسلام وقد يعود ذلك إلى عدم اطلاعه عليها وعدم توسعه في الدين الإسلامي.
ثم يعود فيبر ويوضح أن الكالفينية "وهي مذهب مسيحي بروتستانتي" لديها مبدأ الاصطفاء (اصطفاء الله لعباده الذين يدخلهم الجنة) حيث يرون أن السبيل الوحيد لتكون من المصطفين هو العمل والسعي إلى الثروة ليس لأجل التكديس وإنما لأجل نيل رضا الله، فلسان حالهم يقول سأعمل بجد واجتهاد للربح، فإذا ربحت سأكون من عباد الله المصطفين، حيث يرى فيبر أن هذا المبدأ أعطاهم دفعة تحفيزية كبيرة.
ويبرز في أطروحة ماكس فيبر نقطتان مهمتان وهما كالتالي:
1- أن التفسيرات الدينية للوجود هي المحرك لسلوك البشر.
2- التصورات الدينية هي محرك أساسي للسلوك الاقتصادي.
لذا يرى فيبر أن البروتستانتية الكالفينية تحديداً حققت تصوراتها ومعتقداتها حافزاً لأتباعها، مما جعلهم يعملون وينتجون ويعتبرون العمل أمراً مقدساً، كما أن موعظة بنيامين فرانكلين لا تدعو الى حب المال والربح بل إلى الطريقة المثالية للعيش والنجاح.
ومن خلال ما ذكرنا يبرهن ماكس فيبر أن ظاهرة الرأسمالية هي نتاج البروتستانتية متمثلة بالكالفينية وأخلاقها ومبادئها وقيمها، ويستدل كذلك بالتفوق الصناعي للدول البروتستانتية، كما أنه يرفض فرضيتين تعارضان أطروحته، حيث تطرح الفرضية الأولى أن الازدهار الاقتصادي الذي حازت عليه بريطانيا وأمريكا هو الذي جعلها تعتنق البروتستانتية لأنها تناسب أعمالهم، لكن يرد عليها فيبر بالقول بأن هناك فقراء في فرنسا وإيطاليا اعتنقوا البروتستانتية وأصبحوا رواداً في المجال الصناعي الاقتصادي، أما الفرضية الثانية فتقول بأن تدفق المعادن الغالية إلى أوروبا هو سبب نهضة الرأسمالية والذي صادف تعداداً سكانياً كبيراً، فيرد فيبر عليها بأن الصين كانت لديها ذات الإمكانات (المعادن والتعداد السكاني) لكن الرأسمالية لم تنهض فيها.
ثانياً: أخلاق البروتستانتية
يرى فيبر أن النظرة العامة للحياة والعمل التي استمدتها الطوائف البروتستانتية (الكالفينيون، المعمدانيون، إلخ) من معتقداتهم الدينية جعلتهم متوائمين مع الرأسمالية، ونذكر بعض مبادئ طوائف البروتستانتية وهي كالتالي:
- النظام والالتزام بالمواعيد.
- المصداقية.
- حب العمل وإتقانه.
- كل ساعة في العمل من أجل مجد الله.
- التقدم والتحديث.
- الاستخدام الأمثل للموارد.
- السيطرة المطلقة على الذات والنفور من المتعة الجسدية.
كما لاحظ فيبر ازدراء العديد من الكتّاب الكالفينيين للثروة المالية التي يمتلكها الزهاد المنتمون إلى الكاثوليكية بحيث يتم استغلالها بالمتعة الجسدية، أما استثمارها بالطريقة المثلى فهي الخلاص والنجاح في الدنيا، فهذا المعتقد المكون من ثنائية التقوى والذكاء التجاري هما ما شكلا حجر الزاوية للرأسمالية الغربية.
ومن جهة أخرى هناك انتقاد لأطروحة ماكس فيبر حيث يرى عالم الاقتصاد الفرنسي فرانسوا فاتشي أن هناك نماذج مضادة لما طرحه فيبر، فمثلاً أسكتلندا الكالفينية أقل تقدماً وتطوراً من إنجلترا وحتى من بلجيكا الكاثوليكية، كما أن هناك مدناً تطورت بها الرأسمالية قبل وجود كالفن، ويضيف أن الكالفينية لم تكن تدفع الرأسمالية بل العكس أي أن الرأسمالي يصبح كالفينياً، لأن الكنيسة الكالفينية لا ترحب إلا بالرأسمالي.
لقد أسهم ماكس فيبر في دراسة التاريخ الاقتصادي بنظرة اجتماعية ويبقى الكتاب مرجعاً مهماً لعلوم التاريخ والاجتماع والاقتصاد، على حد سواء.
إن من أبرز ما قدمه ماكس فيبر في كتابه هو استبدال التحليل المادي الذي وضعه كارل ماركس بتحليل روحاني حيث يقول مستفهماً "هل من الضروري الاحتجاج على أن هدفنا ليس أبداً استبدال تحليل سببي (مادي) حصراً بتأويل روحاني للحضارة والتاريخ، تأويل لن يكون إلا كغيره أحادي الجانب؟ فإن كلاً منهما "المادي والروحي" يسيء إلى الحقيقة التاريخية، وقد اختلف فيبر مع ماركس بأن الدين محرك للشعوب خلاف ما طرحه ماركس بأن المادية هي المحركة للشعوب.
وقد وضعنا تساؤلاً وهو هل فعلياً ساهمت البروتستانتية في تطور الرأسمالية؟ نجد من خلال الكتاب أنها ساهمت كعنصر أساسي، وما زلنا إلى يومنا هذا نلحظ تقدم الدول البروتستانتية عن غيرها من الدول الكاثوليكية، وهذا يعود إلى ما استنتجه ماكس فيبر من علاقة أخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، لكن هذا لا يعني أنها السبب الوحيد حيث يقول فيبر: "لقد حاولنا ببساطة أن نحدد الحصة التي تعود إلى العوامل الدينية، من بين العوامل العديدة التاريخية المعقدة التي أسهمت في تطور حضارتنا الحديثة الموجهة خصيصاً نحو الحياة الدنيا".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.